
هذا الكتاب الذي باع مليون نسخة في اليابان وحدها، وتمّت ترجمته إلى أغلب لغات العالم، ومنها العربية، وبالغلاف نفسه تقريباً، لا يُصنّف ضمن الكتب "الأكثر مبيعاً" على غرار الكتب الشعبية أو كتب المغامرات، بل هو حقّق رقم التوزيع الخيالي هذا، لأنه شكّل ظاهرة أدبية.
يعود ذلك النجاح، إلى أن الكتاب يجيب ببراعة عن سؤال لا ينفك الإنسان يلقيه على نفسه: ماذا لو سافرت في الزمن، وتمكّنت من إصلاح ما تسبّبت به من ألم لأعز الناس؟
يدرك الإنسان بعد هذا الكتاب مدى هشاشته العاطفية، وتتجلى أمامه فداحة سلوكه عندما يركب عقله، ويتبع أنانيته، من خلال سرد بسيط وقوي، يثير أسئلة الندم الإنساني، بكلمات عميقة ومؤثرة.
فنجان يقرأ الماضي
يقول الكاتب والمسرحي الياباني توشيكازو كاواغوشي، المولود سنة 1971 في أوساكا، في تصريح أوردته المنابر الأدبية: "بدأ كل شيء حين طرأت على ذهني هذه العبارة: طالما أن القهوة لا تزال ساخنة. فسألت: ماذا يمكننا أن نفعل خلال هذه الفترة التي تبقى فيها القهوة ساخنة؟ ثم قلت لنفسي لم لا نسافر إلى الماضي؟ لقد بدأ الأمر من العنوان".
هكذا تخيّل حوارات عدّة، تعتمد على وجود فنجان لا تُقرأ آثار القهوة فيه لمعرفة الغيب، بل يحدث في ثناياه التماهي مع أبخرة الدخان التي تتصاعد منها، والتي تنقل أشخاص لهم حساب موجع مع الماضي، إلى فترات من حياتهم، فيؤدون فاتورته، ويعقدون الصلح معه.
يحصل هذا بمجرد صبّ القهوة، ثم شربها قبل أن تبرد في دقائق معدودة. يكتب المؤلف: "شعرت السيدة كوتاكي بتسارع دقات قلبها، عندما أدركت أن جسدها نفسه هو الذي كان يتموّج. كانت تتحوّل إلى بخار قهوة. بدأ المشهد من حولها يتحرّك صعوداً وهبوطاً. تحولت إلى دخان، وبدأت تعود بالزمن إلى الوراء".
مقهى بمثابة معبر
يحدث هذا في "فونيكولي فونيكولا"، وهو مقهى صغير عتيق من دون نوافذ، لأنه يقع في الطابق السفلي، تحت مستوى الشارع، ولا يمكن التعرف على الليل من النهار داخله.
توجد على أحد جدرانه ثلاث ساعات تعلن أوقات مختلفة، وفيه عدد محدود من المقاعد مع طاولات تتسع لشخصين فقط، وثلاثة مقاعد عند المشرب، ما يخلق جواً حميمياً يلف زبائن دائمون كل يوم.
تسود في هذا المقهى أجواء خاصة نتيجة لوجود طقس معتدل على الدوام، لا بارد ولا حار، يحافظ عليه مكيّف قديم معلق في السقف ودائم الدوران.
الخاصية الأهم تتجلى في وجود طاولة معيّنة، تسمح بالعودة بضع ساعات، أو أيام، أو حتى سنوات إلى الوراء، حيث يجلس شبح امرأة ترتدي الأبيض وحدها على طاولة تقرأ كتاباً بصمت.
عندما تنهض هذه المرأة، يمكن لأي شخص الجلوس في مكانها والسفر عبر الزمن، ومقابلة من يريد التحدث إليه. ولكن بشرط الامتثال الصارم لقواعد يجب احترامها. فإذا لم يرغب المرء في التحوّل إلى شبح، فعليه الرجوع إلى حاضره وحياته الحالية، بعد أن يكون قد شرب قهوته وهي لا تزال دافئة.
تقاطع الندم
سردت الرواية أربع لقاءات مؤثّرة. فتاة تستعيد لحظة انفصالها عن خطيبها الذي سافر للعيش في أميركا، لكي تطلب منه البقاء والزواج. امرأة تتحدث مع زوجها قبل أن يتمكّن منه مرض الألزهايمر، فتسمع منه ما كان يود قوله لها قبل أن تُمسح بالكامل من ذاكرته.
كذلك هناك امرأة تتحدث للمرة الأخيرة مع أختها الصغرى التي ماتت إثر حادث سير بعد آخر زيارة لها، من دون أن تتمكن من رؤيتها، لأنها تعمدت أن لا تلتقيها خوفاً من أن تزعجها بأمور عائلية.
وأخيراً، هناك أمّ لن يسعفها مرض مميت من رؤية مولودها يكبر أمام عينيها، فتتحدث مع ابنتها المستقبلية. إنهم جميعاً أشخاص يرتادون المقهى، يتحدثون فيما بينهم عن مشكلاتهم، ثم يخرجون من حال الندم إلى حال أفضل.
استحالة تغيير الواقع
لا أحد من هذه الشخصيات يصدّق بداية إمكانية العودة إلى الوراء ولقاء الغائبين، فكما تؤكد الرواية، الحاضر يظل حاضراً، وما وقع لا يمكن تغييره بأي حال من الأحوال.
ومع ذلك يجدون أنفسهم يخوضون التجربة. وهنا تتجلى قوة إبداع الكاتب. فهو لا يكتب خيالاً علمياً ولا مستقبلياً، إنه يحقق عن طريق الإبداع الأدبي رغبة إنسانية، تبدو مستحيلة الوقوع، لكنه يتخيّل وقائعها بما لا يتجاوز منطق الأشياء وحتمية القدر، فيجعلها معقولة.
يتعلق الأمر بمناورة ومداراة بأسلوب سلس له قوة الإقناع، ما يعكس درساً إنسانياً في الرحمة والتوبة والعواطف النبيلة. درس يميط اللثام عن واقع آخر، فكل لقاء من هذه اللقاءات يفاجئ صاحبه كما القارئ بنهايات غير متوقّعة، وبعد تشويق حقيقي يشدّ الانتباه حتى آخر جملة.
من يتغيّر هو الإنسان
تكتشف الخطيبة في القصّة الأولى، أن خطيبها لم يكن يرغب في الانفصال، ظناً منه أنها ستتركه عند أول فرصة أفضل، وذلك لوجود عيب خلقي في جبهته. وتكتشف زوجة المصاب بالألزهايمر بأنه كتب رسالة يعتذر لها فيها مسبقاً عما سيصيبه، لأن ذلك سيسبب لها ألماً كبيراً.
أما الأخت الكبرى في الحكاية الثالثة، فتكتشف بأن أختها الصغرى كانت تحبها حباً خالصاً، وهو الأمر نفسه الذي ستكتشفه الأم في القصة الأخيرة، حين لقائها بابنتها في رحلة إلى المستقبل، بأن ابنتها تحبها، وسامحتها على موتها بعد الولادة.
التحوّل إلى دخان
كل شيء يحدث في هذه الرواية ببساطة عميقة، تطفر فيها الحكمة مع كل واقعة. فالمقهى العتيق يرمز إلى زمن آخر، كالذي نشاهده في الأحلام. والحقيقة الكبرى التي نستخلصها بعد القراءة، هي أن معالجة الغياب وما يخلفه من أوجاع، أمر يرافقنا على الدوام.
هناك شيء ما مرتبط بالزمن، يمنعنا من القيام بما يجب به في اللحظة الواجبة، لأن أرواحنا بحسب الكاتب "تمارس قوّة جذب خاصة بها. فعندما نكون أمام شخص نقدّره ونثق به، لا نستطيع إلا أن نظهر على حقيقتنا، خصوصاً في اللحظات التي نحاول فيها إخفاء حزننا أو ضعفنا. بينما يكون من الأسهل إخفاء هذه الأمور عن الغرباء أو الأشخاص الذين لا نثق بهم."
العلاج بالأدب
تبدو الرواية كوصية انتشرت على نطاق واسع، ودفعت الكاتب إلى إصدار أجزاء متتالية من الرواية تتبع المنطق السردي نفسه.
صحيفة "نيويورك تايمز"، أشارت إلى أن ما يكتبه كاواغوشي، "ينتمي إلى نوع أدبي يشهد ازدهاراً متنامياً يُعرف باسم أدب الشفاء، وهو نوع من الروايات المريحة والمشجّعة على الشعور بالطمأنينة، الذي شاع منذ فترة طويلة في اليابان وكوريا، وأصبح الآن يُترجم إلى مختلف اللغات حول العالم".