"خطة" حسن أكرم لإنقاذ العالم.. ملامح مغايرة للرواية العراقية

time reading iconدقائق القراءة - 9
الكاتب العراقي حسن أكرم في بودكاست إذاعي. 4 أكتوبر 2024 - الشرق
الكاتب العراقي حسن أكرم في بودكاست إذاعي. 4 أكتوبر 2024 - الشرق
بغداد-علي صلاح بلداوي

قبل أيام، أعلن الكاتب العراقي حسن أكرم (1993)، عن توقيعه عقداً مع دار النشر الأميركية "Sandroff Passage" لترجمة روايته الأولى "خطة لإنقاذ العالم" إلى الإنجليزية، على أن تصدر النسخة المترجمة صيف 2026.

 هذا الإعلان أعاد الرواية التي نشرت للمرّة الأولى عام 2020، عن دار الرافدين في بيروت، إلى الواجهة من جديد، فاتحاً الباب أمام إعادة قراءتها ومحاولة فهم رؤية كاتبها، وخصوصاً أنها تشكّل باكورة أعماله الروائية، التي تلتها لاحقاً مجموعتان قصصيتان هما: "كتاب الكوابيس"، و"الأعراض الجانبية لقول كلمة مرحباً".

خطة تهكمية

"لأني ولدت في الحرب، وكبرت فيها، حتى صرت بطول نبتة عبّاد الشمس ولم تنته، أو ربما انتهت وبدأت حرب أخرى، فكّرت مع نفسي، بأن أضع خطة لإنقاذ العالم. خطة تجعلنا ندفع بالمسلحين من كل مكان إلى زاوية ضيقة من الأرض، ونوم بتعبئتهم في براميل كبيرة، وندحرجها من أعلى التل".

بهذا الافتتاح الذي يشي بنبرة تهكمية، يقدّم أكرم روايته تحت عنوان: "خطة لإنقاذ العالم". عنوان يوحي بسخرية مقصودة، ويستدعي صورة الأبطال الخارقين ذوي المهام المستحيلة، في عالم لا يكفّ عن الانحدار من حرب إلى أخرى، ومن أزمة إلى ما هو أعمق وأشدّ تعقيداً.

 غير أن هذه "الخطة" المفترضة، كما يتضح من مجريات السرد، لا تعدو كونها مدخلاً إلى عالم من المفارقات، تهزأ من فكرة الخلاص ذاتها، وتطرح تساؤلات مقلقة حول قدرة الإنسان، بل حتى أحقيّته في إنقاذ أي شيء.

ومع ذلك، فإن العنوان لا يخلو من إثارة، إذ يدفع القارئ للتساؤل: ما شكل هذه الخطة؟ وهل هناك نية حقيقية خلفها، أم أنها محض تهكّم سردي؟

يتحدث الكاتب لـ"الشرق" عن دوافعه لإعداد الخطة قائلاً: "أعتقد أن ما وصل إليه العالم اليوم، يؤكد حقي في أن أسخر من أي خطة لإنقاذ العالم. الإنسان الذي فقد إنسانيته لا يمكنه أن يطلق خطة لإنقاذ أحد، والحديث عن السلام أصبح كوميدياً".

يقول: "العالم يفتقد لمقومات النجاة، يتحدث باستمرار عن خطط إنقاذ وهمية، بينما يغرق أكثر في العنف والفوضى. وما الرواية إلا مرآة ساخرة لهذا الواقع".

بين الجدّ والهزل

في زمن باتت فيه الرواية تتخفّف من القوالب الجاهزة، وتعيد النظر في أدواتها، تبرز أعمال مثل "خطة لإنقاذ العالم" بوصفها محاولة لكسر النسق السردي، والانفلات من تكرار الأنماط المألوفة.

غير أن ما يميّز هذا العمل، إلى جانب لغته المتقافزة بين الجدّ والهزل، هو بنيته المركبة التي تمزج بين تقاليد المقامة العربية، والنَفَس السيري الحديث، في صيغة سردية هجينة، تحاول أن ترسم ملامح مغايرة للرواية العراقية المعاصرة.

 وعن هذا المزج السردي يقول الكاتب: "أزعم أن روايتي محاولة لمقاطعة "جيل التغيير"، جيل ما بعد 2003. أتمنى لو كانت امتداداً للكتابة السردية التأسيسية، أو ربما محاولة لتأسيس ملامح للرواية العراقية. هكذا يبدو المزج بين المقامة العربية في الهارموني الصوتي والسرد السيري العراقي".

بهذا التصوّر، لا تقدّم الرواية نفسها بوصفها مجرد تجربة سردية جديدة، بل تتحدى لغة المرحلة، وتسهم في تشكيل صوت سردي عراقي أكثر وعياً بتاريخه، وأقل خضوعاً لتقلبات الخطاب السياسي والاجتماعي.

عالم يرفض الروايات البطيئة

بحكم عمله كناشر ومسوّق للكتب، وتواصله المستمر مع ما يمكن وصفه بـ"بورصة القراءة" المتقلبة، حيث يتبدّل ذوق القارئ بتأثير ما هو رائج، يفرض السؤال نفسه حول مدى انعكاس هذا المزاج المتغيّر على الكاتب. لا سيما حين نتحدث عن رواية يمكن قراءتها في ساعة واحدة، بما يتماشى مع إيقاع هذا العالم السريع، الذي لم يعد يمنح القارئ وقتاً للانغماس في الكتب الضخمة، بقدر ما يدفعه نحو الخفة والاختزال.

يسأل حسن أكرم عن إمكانية الاستمرار في الكتابة وسط عالم محكوم بالتشتيت، قائلاً: "المشتتات التي تحيط بنا كثيرة اليوم، وإدمان الدوبامين يحوّلنا إلى بشر معطّلين. فكيف لي أن أكتب رواية سميكة من أربعة أجزاء؟ السوق يتحرّك نحو الإيجاز، لا أحد يملك الوقت لقراءة التفاصيل. عالم الـ'ريلز' يرفض الروايات البطيئة".

عندما قرر أن يكون كاتباً

قبل أن يشقّ طريقه في عالم الرواية، كانت هناك لحظة فاصلة غيّرت مجرى حياة الكاتب. لم يكن الأمر ثمرة قرار مدروس أو خطة مسبقة، بل نتيجة صدمة جمالية هادئة، تسبّبت بها قراءته لرواية "متحف البراءة" للكاتب التركي أورهان باموق. بين سطور ذلك العمل، وجد أكرم انعكاساً خفياً لذاته، وكأن شيئاً نائماً في داخله استيقظ فجأة. أنهى الكتاب وهو يشعر بأنه لم يعد كما كان، وفي تلك اللحظة، اختار أن يكون كاتباً.

في قلب الفوضى

يولد "حسن" بطل الرواية في فجر الحرب، ويبقى بلا اسم ليومين، حتى يمنحه عمّه "الصافي" هذا الاسم الذي سيحمل معه ثِقلاً رمزياً لحياة، تبدأ في قلب الفوضى. منذ طفولته يراوده حلم غريب: إنقاذ العالم. لكن هذا العالم، يصعب إنقاذه بالنوايا الطيبة.

لم يكن حسن طفلاً عادياً. فمنذ وعيه الأول، حمل همّ إصلاح عالم يبدو مختلاً. بين وصايا جدته التي نبهته: "إن أردت إنقاذ العالم، عليك أولًا أن تحاذر على نقودك من التلف"، في إشارة إلى قصة الجد الذي دفن ماله في الطين ففسد، وبين معلم غريب الأطوار يؤمن بفلسفة الدجاج، وعمّ كذاب تحوّل بعد موته إلى وليّ صالح، بدأت تتشكّل في ذهن حسن صورة عالم يسخر من مفاهيم الفضيلة والخلاص والقيم المادية. 

يسخر الكاتب من جدوى الخطط، ومن قدرة البشر أصلاً على التغيير، مستعيناً بلغة مرنة، هجينة، متجذّرة في المزاج العراقي المعاصر. يقول: "العراق الجديد أنتج لغة جديدة تعبّر عنه، والعراقيون يتداولون هذه اللغة يومياً؛ لغة الخاسرين الذين يتندرون على خساراتهم."

إنها اللغة التي تسير على حافة الكوميديا السوداء، وترسم ملامح جيل لا يملك إلا أن يضحك على الخراب كي لا ينهار تماماً.

نجاة الفرد 

يمضي القارئ في فصول الرواية من دون أن يتمكّن من التنبؤ بما يدور في ذهن الطفل "حسن". حيث يكشف السرد في كل فصل عن جوانب جديدة من حياته وعلاقاته المتشابكة مع عائلته وأصدقائه، وذكرياته. لكن خلف هذه الحياة الحميمة، تظل الحرب حاضرة كمحفّز رئيسي، يدفع حسن نحو فكرة "الخطة"، التي لا تمثّل مشروعاً بطولياً فردياً، بل حلماً بالنجاة من واقع مفكّك وعالم يتداعى.

ومع كل تجربة يخوضها، يتّضح أن النجاة ليست سوى وهم جميل، ويظهر بوضوح التوتر بين هشاشة الفرد وقدر جماعي لا مفرّ منه. كما يقول حسن أكرم، مؤكداً البعد الفلسفي الجماعي في الرواية: "لن تنجو وحدك، حتى لو كان ذلك متاحاً. لو كانت النجاة الفردية ممكنة، لنجا الإنسان القديم دون أن ينتمي إلى عائلة. نحن نرى الآن وضع الأمّة: كلٌ منا يريد النجاة وحده من المحرقة، لكننا لن ننجو بخططنا الفردية. ولا أعتقد أن بطل روايتي نجح في النجاة وحده".

في هذا السياق، يتجاوز "الخلاص" كونه هدفاً فردياً، ليغدو سؤالاً وجودياً مفتوحاً: هل نستطيع حقاً أن ننجو جميعاً؟ قد يبدو ذلك ممكناً، لكن الطريق إليه يزداد التباساً في كل مرّة.

لكن كيف يمكن إنقاذ العالم؟ في نهاية المطاف، يصل البطل إلى قناعة مفادها، أن إنقاذ العالم قد يتطلب لحظة شر، أو ربما "الخطة" في حدّ ذاتها تنقلب إلى مرآة تعكس عبثية الواقع: حروب لا تنتج إلا المزيد من الحروب، وحب يولد من رحم الموت، بينما يبدو الخلاص الحقيقي مجرد فانتازيا طفل يتخيّل أن رمي بيضة على رأس الحرب القادمة قد يغيّر شيئاً.

تصنيفات

قصص قد تهمك