"الرفاهية".. رواية تشريح المجتمع الأميركي وتصدعاته

time reading iconدقائق القراءة - 8
الكاتب الأميركي ناثان هيل - booktrib.com
الكاتب الأميركي ناثان هيل - booktrib.com
الدار البيضاء-مبارك حسني

يرسم الروائي ناثان هيل في كتابه "الرفاهية"، الذي نال الجائزة الكبرى للرواية الأميركية عام 2024، وبقي لفترة الأكثر مبيعاً على قائمة "نيويورك تايمز"، التي وصفته بأنه من روائع العمارة السردية، عالماً قريباً مشوّقاً ومثيراً، من عوالم أحياء شيكاغو.

يدعونا الكاتب منذ البداية للدخول إلى شقة بائسة في عمارة لم تكن أصلاً مهيئة للسكن، حيث يعيش وحيداً، شاب يمارس التصوير الفوتوجرافي الفني.

نتعرّف عليه حين يُضاء نور من النافذة المقابلة لنافذة شقته، فيرسل وهجاً دافئاً صغيراً ينير العتمة في الداخل. هناك يرى امرأة شابة "عبر الزقاق، على بعد ذراع منه، حيث تعيش هي أيضاً وحيدة في الطابق الرابع من مبناها القديم. يتابع تفاصيل حياتها وعاداتها، وخصوصاً القراءة النهمة في شتى أنواع الكتب المتعلقة بعلم النفس والأعصاب. 

تمرّ عليه أوقات لا يرى من شقّتها إلا الظلام، لكنه لا يعرف أنها تتابع تفاصيل حياته بدورها. إنهما جاك وإليزابيث، وسيقضيان وقتاً على هذه الحال، إلى أن يلتقيان صدفة وجهاً لوجه، فيمسك بيدها ويقول لها تعالي معي. يسميان الأمر حباً من أول نظرة، بعد أن اكتشف كل منهما الآخر بسرعة.

وهم الرفاهية

يحدث هذا في حي من أحياء مدينة شيكاغو المهمّشة، التي لا شيء من هذا القبيل يحدث فيها، في تسعينيات من القرن الماضي، قبيل ظهور الإنترنت وكاميرا الهواتف المحمولة. 

تعمّد الكاتب ذلك، لأنه في الفصل الثاني، سيدعونا هذه المرة إلى لقاء الزوجين، بعد مرور عشرين سنة، وهما يعيشان حياة بورجوازية. 

تدور أحداث الرواية عام 2015، وتروي معاناة جاك وإليزابيث في منتصف الزواج، بعد أصبح جاك أستاذاً لتدريس فن التصوير الفوتوجرافي في الجامعة، بينما إليزابيث تدير شركة تُعنى بالأبحاث النفسية، وتجريب الأدوية التي تجلب "الرفاهية"، هي شركة "ويلنس"، وهي تعمل في مجال خداع الناس ليعيشوا حياة أكثر سعادة، وتحسين الزيجات المضطربة، من خلال نشر الأدوية الوهمية أو "بلاسيبو".

تصميم المسافات

استنفذ الاثنان معاً سعادة الأيام الزوجية الأولى، وفرحة الإنجاب، ثم سقطا في التكرار والخلافات حول كيفية تربية الابن، وكيفية تدبير الشقة التي اشترياها بقرض طويل الأمد، وتعبّر عن ذلك صفحات طويلة من الواقعية القاسية. 

هكذا انقشع وهم الحب الأول، وهما كانا يعتقدان أنه سيحل كل المشاكل ويجلب طيب العيش. لقد نسيا أنهما يعيشان في أميركا حيث ولدا وترعرعا على أمور ليس مقدّر لها أن تمنح الرفاهية أصلاً، بحسب التشريح الدقيق الذي قام به الكاتب. 

يقول الكاتب، "إن كلّ ما كانا يريدانه في ذلك الوقت، هو إزالة المسافة التي تفصل بينهما. وها هما الآن، بعد عشرين سنة، يعيدان تصميم تلك المسافة من جديد".

خطيئة الأصل الأميركي

يواجه الثنائي أزمة زوجية، وتغزوهما تساؤلات عميقة على الصعيد الشخصي والعاطفي والمهني والعائلي. تشكّل هذه الأزمة فرصة للكاتب ليغوص في تأثير طفولتهما التي بنت شخصيتهما، وفي خيبات أحلامهما وطموحاتهما، وتقديرهما لذاتهما، وعلاقاتهما بالآخرين. 

 جاء الاثنان الى شيكاغو بحثاً عن خلاص، لكن يبدو أن الواقع أكبر من كل ما كانا يودان الوصول إليه. تقول إليزابيث: " أنا من سلالة طويلة من الأشخاص الناجحين بشكل إجرامي، شجرة عائلتي عبارة عن خليط من السلوكيات السيئة. محتالون وقراصنة وصائدو أرباح ربع سنوية. أذكياء مالياً، لكن أخلاقهم قاتمة".

تضيف: "بنوا ثروتهم قبل بضعة أجيال عن طريق الرشوة والاحتيال، ولم يتغيّر الكثير منذ ذلك الحين".

أما جاك، فمن أصول فلاحية وبدوية متواضعة، في أركنساس التي تسمى "سلّة غذاء أميركا"، بفلاحيها الخشنين الأقوياء. لكنه كان عكسهم تماماً، والدته كانت لا تتردد في تذكيره بحقيقة مؤلمة تخصه طوال طفولته، وهي أنه لم يكن من المفترض أن يولد أصلاً". أنجبته في سن متقدمة وبلا حب، وهو ما جعله مريضاً ومعتلاً على الدوام. 

عنق الزجاجة 

لا يفتأ ناثان هيل على مدى 600 صفحة، واعتماداً على وصف متعدد الحكايات، رائع المحتوى، مليء بالتقلبات المفاجئة، يشرّح المجتمع الأميركي وتصدّعاته بلا هوادة، عبر بنية سردية مجزأة ومفتّتة، لا تتبع تسلسلاً زمنياً، بل تتنقّل باستمرار بين الماضي والحاضر.

 يصل إلى ما يفيد أن أزمة منتصف العمر هنا، هي علامة على أزمة مجتمع مادي قبل كل شيء، حتى عندما يمارس روحانية ما، دينية أو غير دينية. فما الذي يطرحه من حلول لاستعادة الرغبة في السعادة، وللخروج من عنق الزجاجة؟

لا يقدّم الكاتب إجابات، ويدخل شخصياته في دوامات الحلول المعاصرة، التي تقدمها مختلف العلوم المستحدثة والنظريات الفلسفية، مثل النظرية التفكيكية عند الفيلسوف دريدا، وحلقات التدريب الذاتي أو الجماعي، والعلاج بشتى الوسائل، وكل ما تضج به المواقع الاجتماعية من وصفات لا حصر لها. 

تتحوّل الرواية في نصفها الآخر إلى كشف توثيقي لمتاهات العصر الغربي، حيث يظهر الفرد داخل مجتمع تتحكّم فيه وسائل التواصل، ونظريات المؤامرة واستهلاك المعلومات، من دون تفكير نقدي، وتأثير وسائل الإعلام وتقنياتها في التلاعب بالرأي العام، وإنتاج كم هائل من الاقتراحات، تستند إلى الخوارزميات، فلا يستطيع التخلص منها.

هذا ما حدث مثلاً مع والد جاك المسن، الذي ابتلي بالفيسبوك، وصار مدمناً عليه، ما اضطر جاك إلى أن يقنعه "بطريقة ما بأن الحياة التي يعيشها المرء على فيسبوك ليست حياة، وأن هناك عالماً غريباً ورائعاً لا تستطيع الخوارزميات الوصول إليه". وقد روى ذلك في فصل كامل تحت عنوان "المستخدمون المحتاجون، دراما في سبع خوارزميات".

العالم من منظور الوهم

وضع ناثان هيل على لسان جاك نقداً لاذعاً للحائط الأزرق. وقام بالأمر نفسه على لسان إليزابيث، التي كانت تعالج إحدى المرضى بـ"البلاسيبو"، أو العلاج الوهمي، قائلة لها إن حبّة الرفاهية التي باعتها إياها، ليست سوى قطعة سكر، وأن ما شفاها هو استعدادها لذلك فقط. 

تقول إليزابيث: "لدى الناس حاجة قوية جداً لتفسير العالم بطريقة تجعلهم يشعرون بتحسن أو بأمان أو بقوة أو بشعبية أو تحكّم أكبر، لكن ليس بالضرورة بطريقة تكون صادقة. للأسف، إن الحقيقة لا تهم كثيراً من منظور نفسي".

قراءة الرواية هذه تتم على مستويات عدّة. ولعب التكسير الزمني للأحداث دوراً كبيراً في ذلك. قدّم ناثان هيل في المستوى الأول حالات نفسية قصوى تعيشها الشخصيات، ثم ربطها بتأثير مستجدات العصر التي لا تنفك تُلقي بهم في دوامات لا تمنحهم أي هناء، أو هناءً مزيفاً.

أحياء شيكاغو

 قدّمها بحسب كتابة تشريحية طبية، مزوّدة بوثائق من شتى الاجتهادات في هذا المجال، وذيّل الرواية بلائحة كاملة من المراجع العلمية وغيرها، التي اعتمدها في كتابته إلى حدّ إثقالها. 

أخيراً هناك مستوى ثالث، وهو الأجمل، حيث يطفر الأديب بلغة الشعر والفن، عبر صفحات تبدو كاستراحات طويلة بين أزمة وأخرى، تعلو بالروح عن كل مشاكل العالم والحياة، التي يجسّدها بعض سكان وأحياء شيكاغو.

يقول في حوار مع "شيكاغو ريفيو أوف بوكس": "أعتقد أن أي شخصية أو قصّة تثير اهتمامي تبدأ حياتها كقطعة لزجة. الشيء الجميل في ما هو لزج، أنه كلما لعبت به أكثر، كلما التقط أشياء العالم من حوله. وهو نفس الأمر مع الشخصيات أو القصص، فهي تلتقط كل تلك الأشياء، ما يمنحها الحياة فعلاً. عندها يمكنك أن تبدأ في نحت تمثال جميل، بدأ حياته كقطعة من مادة مقزّزة".

تصنيفات

قصص قد تهمك