"في سوسيولوجيا الإعلام والرقمنة".. حروب أخطر من الاستعمار

time reading iconدقائق القراءة - 8
ندوة وحفل توقيع كتاب 'في سوسيولوجيا الإعلام والرقمنة: قراءات في المحتوى والوسيط'. أبريل 2025 - الشرق
ندوة وحفل توقيع كتاب 'في سوسيولوجيا الإعلام والرقمنة: قراءات في المحتوى والوسيط'. أبريل 2025 - الشرق
مراكش-علي عباس

صدر كتاب "في سوسيولوجيا الإعلام والرقمنة: قراءات في المحتوى والوسيط" للباحث والإعلامي المغربي مصطفى غلمان، عن دار "أكورا للنشر" في لمغرب - طنجة 2025.

يتناول الكتاب تأثير الرقمنة على الإعلام العربي والغربي، من منظور سوسيولوجي تحليلي، وتحوّلات الوسائط والمضامين والقيم الإعلامية، ومنها:

تحوّل البثّ الإعلامي من الأحادية إلى التفاعلية، تصدّع منظومة المصداقية في زمن الشائعات الرقمية، تحوّلات الهوية الاجتماعية والثقافية نتيجة الإعلام الشبكي، تأسيس وعي رقمي نقدي.

ينطلق المؤلف من فكرة أساسية، وهي أن الإعلام الرقمي لم يعد مجرد ناقل للمعلومة، بل أصبح فاعلاً بنيوياً يعيد تشكيل الوعي الاجتماعي والثقافي، ويقول إن هذه الدراسة "تحاول أن تبرهن على الأسس السوسيولوجية التي تقوم عليها الأنماط الإعلامية العربية والغربية القائمة".

كما يحلّل أزمة المصداقية الإعلامية في العصر الرقمي، ويشير إلى أن "تحوّلات الإعلام من البثّ الأحادي إلى التفاعلية، فرضت واقعاً جديداً مليئاً بالاختلالات والاختزالات المهنية". 

يشدّد في السياق ذاته، على أن المعرفة الإعلامية أصبحت رهينة لعالم رقمي ضخم من البيانات، ما ساهم في "انفراط القيمة الأخلاقية والاجتماعية للمعلومات".

أصبح الإعلام راهناً سلطة، مشاركاً السلطة السياسية والاقتصادية في أهميتها، بل وفاعلاً فيها، وهكذا يعتبر المتلقي بدوره سلطة أيضاً.

هنا نستعيد ما يقوله مارشال ماكلوهان في كتابه "فهم وسائل الإعلام: امتدادات الإنسان"، الصادر عن المركز القومي للترجمة، القاهرة، "إن الوسيلة نفسها، لا المحتوى الذي تحمله، هي التي تؤثر في المجتمع. فالوسائط تعمل على تغيير موازين الحواس البشرية، وتعدّل أنماط الإدراك والفهم، ما يؤدي إلى إعادة تنظيم المجتمع ذاته".

ويؤكّد في موضع آخر، "أن وسائل الإعلام ليست مجرد قنوات لنقل المعلومات، بل تشكّل وتمتد في حواسنا وتخلق بيئات جديدة تؤثر في كيفية فهمنا للعالم والتواصل فيما بيننا."

إن تكريم الوسيط اشتغلت عليه الممارسات الفلسفية المعاصرة، التي غيّرت مفهوم الهامش والمركز والغريب والدخيل. وعليه، نرى تداخلاً وتخادماً معرفياً فيما يتعلق بالأدب والفن والإعلام والمعرفة، حيث يتم ترحيل المفاهيم، التي تم استحداثها ضمن حقل معرفي، إلى آخر يختلف عنه وظيفياً، بغية جعل الاشتغال الفني والإعلامي شاملاً وواسعاً.

الرقمنة والشعوب المُستضعفة

يرى الكاتب والباحث الفلسطيني في السوسيولوجيا إياد البرغوثي في تصديره للكتاب، "أنه يظهر أهمية الإعلام الجديد، خاصة الرقمنة، في تشكيل وعي إنساني أكثر أخلاقاً، ويدعو إلى تغيير العالم، لا تفسيره فقط".

فالكاتب يؤمن "بأن الرقمنة تتيح فرصاً غير مسبوقة للشعوب المستضعفة لإيصال مظلوميتها إلى العالم، وهو أمر بالغ الأهمية، خصوصاً مع تطوّر وسائل التواصل".

كما يشير البرغوثي إلى أن "تجربة الفلسطينيين في الحرب على غزة، أثبتت الدور الاستثنائي للإعلام الجديد في نقل الحقائق، ما أثّر في الرأي العام الغربي، رغم هيمنة الإعلام التقليدي، وهو ما يعزز من قيمة الإعلام الرقمي كأداة مقاومة فكرية وحضارية.

تُتيح الرقمنة استقلالية عن سلطة القرار المعنية، وتتجاوز مفهوم الرقيب التقليدي والاحتكار الرسمي، إذ يستطيع أي شخص أن يؤسس قناته على اليوتيوب، وينشر كتابه، أو يقيم معرضاً رقمياً، فضلاً عن منصّات التجارة الرقمية، والعملات الرقمية، والاستشارة الطبية أو الحقوقية الرقمية.

يأتي ذلك بدعم من التشاركية والتفاعلية، التي يقول عنها هنري جينكينز في  كتابه "ثقافة الالتقاء: أين تتقاطع الوسائط القديمة والجديدة" (2006)، هي نقيض "ثقافة المستهلك المنعزل" التي كانت سائدة في الإعلام التقليدي. ويرى كيف أصبح الجمهور الرقمي منتجاً ومستهلكاً للمعلومة في آن.

تشير الثقافة التشاركية إلى تحوّل الجمهور من مستهلكين سلبيٍين للمعلومات إلى مشاركين فاعلين في إنتاجها وتوزيعها. إذ لا يكتفي الأفراد في بيئات الإعلام الرقمي بتلقي المحتوى، بل يسهمون في ابتكاره وإعادة تشكيله، مثلما يحدث في المنتديات، والمدوّنات، ومواقع الـ يوتيوب والتيك توك وسواها.

مجتمعات رقمية

تتميّز هذه الثقافة بتقليل الحواجز بين المنتجين والمستهلكين، وزيادة فرص التعبير الذاتي والمشاركة الاجتماعية، ما يؤدي إلى بناء مجتمعات رقمية تعتمد على التعاون الإبداعي والمشاركة الجماعية، ما يجعل الإعلام الرقمي متجاوزاً الأنماط التقليدية.

كما يكون لمُستخدمه شخصية تفاعلية حداثوية منتجة، غير متلقية فحسب، تتجاوز توصيف القدح " الاستهلاكية"، التي عزّز حضورها الكاتب الأسترالي أكسل برونز  في كتابه "المدونات، ويكيبيديا، الحياة الثانية وما بعدها: من الإنتاج إلى الاستخدام الإنتاجي" كظاهرة للمستخدم المنتج، لوصف التحوّل الجذري في بيئات الإعلام الرقمي، حيث لم يعد المستخدم مجرد مستهلك للمعلومة، بل أصبح يشارك في إنتاجها وإعادة صياغتها.

يعتمد المستخدم على أربعة خصائص رئيسة هي، فتح المحتوى للجميع لإعادة تطويره بحرية، وإشراك المستخدمين في عمليات الإبداع والنشر، وغياب المركزية التقليدية لصالح الشبكات المفتوحة، مع تدفّق مستمر ومتجدّد للمحتوى الرقمي. في دمج واضح بين أدوار الإنتاج والاستهلاك في البيئة التفاعلية. يعكس هذا التحوّل كيف بات الإعلام الشبكي مساحة تشاركية ديناميكية تتجاوز الأنماط التقليدية.  

انفتاح ثم مراقبة

ندخل هنا إلى سلطة رقابية أخرى، تقبض على الكود الإعلامي والاقتصادي عبر نظام احتكاري مرتبط بها. فكلما حاول الإنسان التفلّت من قبضتها، تسعى هي بدورها إلى الإمساك بالمفاتيح حصراً، وهكذا ترغمنا على إعادة توصيف الرقيب والاقتصاد والأدب.

وكما يقول غلمان "تتبدل أشكال السلطة، كما تتغيّر أدوات السيطرة والتحكّم، ولكنها تعيد إنتاج أنماط التبعية بوسائل جديدة أكثر إغراءً وانسياباً".

يبدو أن قدر الإنسان المعاصر في هذه المتوالية المستدامة؛ الانتقال من "الانفتاح التام" والشامل إلى الضبط والمراقبة والاحتكار، ولكن بوسائل جديدة تبدو عصرية ومغرية، لكنها للأسف تعيد توصيفات السلطة المركزية بأساليب جديدة،  لا تنفك منها تماماً، وبالتالي تعيد توصيف الحرية ذاتها، حيث يبدو البشر أحراراً ظاهرياً، لكنهم مقيّدون إلى حبل طويل نسبياً، فيشعرون بأنهم أحرار، كما أشار الروائي اليوناني نيكوس كازانتزاكيس في روايته "زوربا".

فهو يرى أن التحرر الحقيقي يأتي من عدم الخوف وعدم التعلّق، قد يبدو الإنسان حراً، لكنه في الحقيقة مقيّد بقيود غير مرئية، تشبه الحبل الطويل الذي يمنحه حرية شكلية، بينما يظل مربوطاً في النهاية.

يفتح كتاب" في سوسيولوجيا الإعلام والرقمنة: قراءات في المحتوى والوسيط"، النقاش حول دور الإعلام في عالم سريع الرقمنة، ويؤسس لرؤية نقدية إعلامية تستجيب لتحولات الواقع الرقمي، ليشكل مرجعاً مركزياً لدراسات الإعلام، مثلما يقول الباحث والأكاديمي المغربي جمال بندحمان، في إطار احتفالية بالكتاب "يبدع شكلاً جديداً في قراءة الفعل الإعلامي في ظل الرقمنة، ويقدم تحليلاً يستنبت جذور الأنساق السوسيوثقافية".

كما اعتبر الكاتب والباحث عبد الصمد الكباص، "أن الكتاب يسهم في إعادة قراءة البيئات الرقمية الجديدة ومفعولاتها الأيديولوجية والثقافية".

يقول الكاتب والإعلامي مصطفى غلمان لـ"الشرق": أعتقد أن ثمّة فورة شاهقة لعالم جديد يتشكّل تحت نيران الحروب والفوضى الاقتصادية والثقافية، وأن ثمة ما يدعونا إلى قلق تجاه تسارع توحّش بروبجندا الإعلام الرقمي، وتغوّله في الشتات القيمي والأخلاقي". 

يتابع" "إن حروب الرقمنة الآن، أضحت أخطر تأثيراً واستنزافاً، من الاستعمارات المادية الكلاسيكية، ومواجهتها لن يكون باستقبالها دون أدوات تفكيك فكري وسوسيولوجي، قادر على وضع خطط واستراتيجيات للإعلام المواطن والأخلاقي، مبادراً لرصد الإشكالات والأسئلة، ومتواصلاً مع جديد طفرات الاتصال والمعلوميات، وطرق تصريفها في منصّات وشبكات معولمة وسريعة التأثير".

تصنيفات

قصص قد تهمك