بيت فيروز عالق بين مشروع المتحف والبقاء مهجوراً

time reading iconدقائق القراءة - 10
منزل السيدة فيروز في منطقة زقاق البلاد وسط العاصمة بيروت. 26 أبريل 2025 (تصوير : رولا الحسين) - الشرق
منزل السيدة فيروز في منطقة زقاق البلاد وسط العاصمة بيروت. 26 أبريل 2025 (تصوير : رولا الحسين) - الشرق
بيروت -رولا الحسين

ترافق شجرة "أكي دنيا" الدرج الطويل الذي يعلو منزل السيدة فيروز، وكأن الشجرة هي الشيء الوحيد الحيّ في هذا المكان. وإذا صحّ أن كلمة "أكي دنيا" تعني "دنيا جديدة، فوجود هذه الشجرة هنا ليس صدفة، وخصوصاً إذا كانوا سيبقونها شاهدة على "دنيا" البيت الجديدة.

المنازل من دون أهلها تصبح أشياء مهملة، وتتداعى أثناء انتظارها، كما أن الأشياء التي نهملها تنتظرنا لفترة من الزمن، لكن صبر الأشياء له مدة محدودة، ربما تمنحنا فرصة، فإن تأخّرت عودتنا ستقابلنا بانتهاء صلاحيتها.

منزل السيدة "فيروز" الذي نشأت فيه، الواقع في منطقة زقاق البلاط في قلب العاصمة بيروت، أقل ما يمكن القول فيه إنه يحتضر. المنزل مهجور، والدخول إليه أشبه بالدخول إلى "خربة". 

ما إن تخطو في ساحته حتى تصبح في زمنٍ موازٍ، لا يشبه الزمن خارجه، حيث محطة الوقود والأبنية الشاهقة وفرن المناقيش وزحمة العيش. ما إن تطأ القدم هذا العقار، حتى تصبح داخل برية، نباتها المتوحش يأكل بقايا المنزل المتروك.

وعود متكررة

في فبراير عام 2025، أعلنت وزارة الثقافة اللبنانية، عن مشروع تحويل منزل السيدة فيروز إلى متحف. ولكن تمّ التداول في تحويل هذا العقار إلى متحف أكثر من مرّة في السنوات السابقة، وسط وعود من وزراء ثقافة سابقين، لكن القرار لم يتّخذ حينها، ولم يتم الإعلان عنه إلا بداية هذا العام. 

تحويل المنزل إلى متحف، سيتم بالتنسيق مع المؤسسة الوطنية للتراث، ويتوقّع أن يسبق ذلك خطوات عدّة، مثل شراء الأرض المحيطة به ثم ترميمه، وتوقيت المراحل يعتمد على توفّر التمويل الكافي من جهات غير معلنة حتى الآن.

المنزل يتألف من ثلاثة طوابق، سكنت فيروز مع أهلها في الطابق الأرضي، ثم انتقلت منه بعد أن تزوّجت. 

يوحي المنزل بغرفه الفارغة، وطلاء جدرانه المقشّر، والعشب الذي نبت بداخله أينما شاء، أنه مكان حزين، حزن لا يمكن فصله عن وحدته وهجره طيلة تلك السنوات. كما أن نوافذه الكثيرة المشرّعة، توحي أن الانتظار لم يخلو من الترقّب والأمل. 

أن يكون البيت مهجوراً، يعني أن أناساً سكنوه ثم غادروا، لا تتم هجرة الشيء أو المكان من دون فاعل، وكل تفصيل في المنزل يؤكد أن البيت يعيش غريباً وحيداً.

لكن فيروز لم تهجر بيتها، هي فعلت كما يفعل كل من يتزوج فينتقل من بيت إلى آخر. انتقلت منه وبقي  أهلها فيه، أي أهل البيت. ارتبط مصير البيت بظروف الحرب، بعدها تمّ تصنيفه كبيت تراثي، فهو مبني على الطراز المعماري اللبناني العثماني.

لكن لماذا الاهتمام بترميم مكان شخص هجره بغض النظر عن مكانة هذا الشخص وظروفه؟

بيت يسكن الأغنية

يستوقف الشاعر محمد ناصر الدين السؤال عن بيت فيروز: "هل هو بيت يسكن في الأغنية"، أم هو بيت يشبه كل البيوت الأخرى، وإن كان كذلك، فلم حين تقول "ودارت فينا الدار"، أو "عليت فينا العلّية ودارت بالسهرة الدار"، يبدو ذلك البيت الدوّار باعثاً على الرغبة في الجسد والإيروسية المبطّنة، التي تدور هي الأخرى وتتحايل على اللغة مرّتين لتنفرد البنت المراهقة بحبيبها بعيداً من عيون الأهل والرقيب".

يضيف: "ولمَ يبدو البيت ذاته أشبه بكل البيوت المكسورة الحزينة حين تقول: "بيتي أنا بيتك، ما إلي حدا"، وكأنه بيت للبكاء أو قاعة للعزاء تتسع لشخصين، ليشطح بي الخيال شطحة أخيرة نحو "بيت صغير في كندا"، ترى لو تحققت الأمنية الخاصة القاسية في الأغنية وولدت فيروز في كندا أو هاجرَت إليها، هل كان ليدخل حينها الصوت القادم من بيت صغير في كندا، إلى كل البيوت في الصباح".

ويرى ناصر الدين، "أن تحويل بيت فيروز إلى متحف، سيحوّله بلا تردد إلى المتحف الوطني الأوّل في لبنان، فاللبنانيون بالأعم الأغلب، لا يلتفتون الى المتحف القائم حالياً، رغم كنوزه الثمينة، ذلك أن بيروت المدينة-المتحف يلمسونها لمس الأيدي، بعمرانها وخرائبها، وسِلمها الهش، وحروبها الصغيرة، وأكثر ما يكون بذلك المسّ الخفي من الإلفة والرحمة في صوت فيروز، وفكرة أن يغدو بيتها متحفاً، خطوة أولى إلى بيت لبناني حقيقي، ولو بمنازل كثيرة كما يقول كمال الصليبي، لكنها منازل قد يجمعها صوت المغني".

لبنان متحف أغانيها 

أما الكاتب جهاد بزي، المعروف بحبه الشديد للفنانة، فيعتبر أن بيت فيروز كان صغيراً جداً، ولا يظنه يصلح لأن يكون متحفاً لفنانة سيرتها ليست شخصية، بقدر ما هي سيرة البلد والفن اللبناني، وقد يبدو قولي شاعرياً بعض الشيء، لكني فعلاً أرى أن فيروز ليست بحاجة إلى متحف بمعنى مكان نقصده لنتعرف عليها".

ويؤكد بزي "أن تاريخ فيروز يجعل من لبنان متحفاً حياً مفتوحاً على أغانيها، وعلى ما يراه كل واحد من هذه الأغاني، لا فرق بين اللاجىء إليه صباحاً، لأنه تعوّد عليه في هذا الوقت، وبين من يحمل للصوت وصاحبته الوله الزائد كما في حالتي". 

يتابع: "ربما من الأفضل أن يكون موضوعاً لمسابقة معمارية/ فنية، يشارك فيها من يرى في نفسه أهلاً مهما كان اختصاصه الإبداعي، وصولاً الى طلاب الفنون في الجامعات والمدارس، للخروج بأفضل فكرة، تحوّل هذا المكان الصغير إلى مساحة رمزية لتكريم فيروز، بشكل يشبهها ويشبه صوتها". 

يضيف: "أتوقّع عدداً هائلا من المشروعات النوعية التي ستكون إضافة مهمة على المشهد الثقافي، وإن كان الفائز واحد فقط. كما أن مسابقة كهذه ستسمح لأكبر عدد من اللبنانيين بتكريم فيروز أو على الأقل شكرها".

منزل آخر

ولكن إذا كان لهذا البيت أي قيمة معنوية أو عاطفية لفيروز، كونه منزل طفولتها ومراهقتها، ومنزل أهلها أي "بيت العيلة"، فلماذا لم تهتم هي باستعادته وترميمه قبل الآن، أي بعد انتهاء الحرب، حين غنّت في وسط بيروت احتفالاً بزمنٍ جديد، على الرغم من تحفّظ واعتراض شديدين من قِبل الكثيرين.  

وإذا كان البيت لا يعني لها الكثير، وهذا مفهوم كونها عاشت معظم حياتها خارجه، فلماذا إذاً تهتم وزارة الثقافة في لبنان والجمعيات اللبنانية، ومحبّو فيروز بالعمل على ترميمه وتحويله إلى متحف؟

سيكون ترميم البيت وتحويله إلى متحف مجرد مشروعٍ سياحي تجاري خالٍ من أي معانٍ عاطفية ووجدانية حقيقية، ومن دون أي ذكرى قريبة وأصيلة، بل وخالٍ حتى من الأشياء التي يفترض أن تشكّل مفردات المتحف كالأثاث والديكورات.

 أِشياء فيروز هي في منزل آخر، حيث تعيش الآن ولزمن أطول بكثير من الزمن الذي عاشته في ذلك البيت الأثري المهجور. المنزل حيث تعيش الآن، هو منزل مسكون بها. ربما الأجدى تحويل الأمكنة المسكونة بأصحابها إلى متاحف، حيث ستبقى بعد غيابهم مسكونة بأصواتهم وضحكاتهم وأغانيهم.

أما المنازل المهجورة، التي لا تذكّر بأصحابها ولا يذكرها أصحابها، ربما تستحق حياة جديدة بعيدة عنهم وعن ذكراهم. إذا لم تعد فيروز إلى المنزل، منزلها، لماذا نعود نحن إليه، ولماذا نعيده إليها؟

تصنيفات

قصص قد تهمك