"مهندسو الفوضى" وخوارزميات التلاعب بالجماهير

time reading iconدقائق القراءة - 8
كتاب مهندسو الفوضى بترجمته الفرنسية - pasiondelalectura.wordpress.com
كتاب مهندسو الفوضى بترجمته الفرنسية - pasiondelalectura.wordpress.com
الدار البيضاء-مبارك حسني

يستشهد الكاتب والباحث الإيطالي جوليانو دا إمبولي، في "مهندسو الفوضى" الصادر بترجمتة الفرنسية عن دار "جان كلود لاتيس" 2024، بالكاتب الألماني غوته، الذي كان يصف حفلة تنكرية في روما سنة 1787 قائلاً: "إن الكرنفال هو احتفال يمنحه الشعب لنفسه، وهو احتفال يمكّن الشعب منذ العصور الوسطى، من قلب التراتبية الاجتماعية مؤقتاً وبشكل رمزي، بين الشعب والسلطة، بين عالي الشأن والمواطن العادي، بين المقدّس والمدنّس".

 استعارة وظّفها الكاتب للقول إن الكرنفال كان وسيلة فرح وتحرّر من القيود، اخترعتها المجتمعات للتنفيس عن الاحتقان الاجتماعي، ومنح الطبقات الدنيا فرصة للثأر الرمزي مِن الحكّام والأغنياء، بالمساواة معهم لفترة محدودة، والسخرية منهم، من دون الخوف من العقاب، إنها وسيلة لدرء الثورة والتمرّد.

يشرح الكاتب كيفية التلاعب بالجماهير من خلال خوارزميات تعمل على فك رموز مستخدمي الشبكات الاجتماعية عن كثب، من خلال "مجسات المخفية" لجذب الجماهير ومن ثم التحكم بهم عن بعد في كل تصرفاتهم.

ويصف الكاتب بلاده بأنها وادي السيليكون للشعبوية الأوروبية، حيث تم الاستيلاء على السلطة، ولأول مرة، من خلال شكل جديد من الشعبوية التكنولوجية ما بعد الأيديولوجية، والتي لا تستند إلى الأفكار ولكن إلى الخوارزميات التي طوّرها مهندسو الفوضى هؤلاء. وليس السياسيون، بل الفنيون، هم من يتولون زمام الحركة من خلال تأسيس الحزب، واختيار المرشحين الأكثر قدرة على تجسيد رؤيتهم.

من الشارع إلى الإنترنت 

لا يقام الكرنفال حالياً إلا في أماكن محدودة، لكن روحه ورمزيته وجدت مكاناً آخر، في الكتب الساخرة وفن الكاريكاتير والبرامج التلفزيونية التهكمية، وفي الإنترنت خصوصاً، إذ "تخلى اليوم الكرنفال عن مكانه المفضّل، ليكتسب مركزية غير مسبوقة، فيصير النموذج الجديد للحياة السياسية العالمية". 

في الواقع، لم يعد الأمر بيد أشخاص من الطبقات الدنيا، بل صار ممارسة مُمنهجة، كرنفال بطريقة أخرى موَجه لتصريف الغضب الشعبي، يشرف عليه علماء وخبراء في مجال البيانات الضخمة، يتواطؤون مع سياسيين من صنف جديد، يطلق عليهم "خبراء التلاعب الإعلامي"، مهمتهم نسف الأسس الكلاسيكية للأحزاب، فيحرّكون خيوط اللعبة السياسية للوصول إلى السلطة، ولا ينشغلون بتكوين المناضلين والتدريب على الصراع مع المنافسين، عبر تقديم برامج سياسية مُفكّر فيها. 

 وبحسب الكاتب، فإن وظيفة هؤلاء، "هي إعادة اختراع الدعاية السياسية، كي تتناسب مع عصر "السيلفي" ووسائل التواصل، وهم يغيّرون في الوقت نفسه من طبيعة اللعبة الديمقراطية". 

يؤكد الكاتب أن "نشاط هؤلاء يتمحور حول الترجمة السياسية لفيسبوك وغوغل. وهو بطبيعته نشاط شعبوي، لأنه لا يحتمل أي نوع من الوساطة، ويضع الجميع على قدم المساواة، بمعيار وحيد للحكم، هو إظهار الإعجاب أو "اللايكات". 

يجري ذلك بغض النظر عن المضامين والمحتويات، التي لا يتم الاكتراث بها أصلاً، فالهدف هو ضمان الانخراط والتفاعل الفوري، كما يسميه عباقرة الإنترنت في وادي السيليكون بكاليفورنيا، والتقاط تطلعات كل الغاضبين ومخاوفهم، وإشعال عواطفهم عبر إذكاء الأخبار الكاذبة، وإشاعة نظرية المؤامرة وغيرها، وتوظيفها، بهدف إعادة تشكيل الصراع السياسي بناءً على ثنائية بسيطة، هي الشعب ضد النُخب". 

المثال الإيطالي حزب النجوم الخمس

ذلك تحديداً هو ما اعتمده حزب "النجوم الخمس" الإيطالي، الذي له حكاية تأسيس دالّة بقوة عن هذا الاتجاه. يرويها الكاتب بأسلوب مدهش يجعل القارئ يقف على حقيقة "سطو" سياسية بواسطة الإنترنت. إذ حضر ذات يوم إعلامي مختصّ، عرض أحد المهرجين المضحكين المشهورين في قاعة تغصّ بالجماهير، واقترح عليهم إنتاج مدوّنة باسمه، يورد فيها أفكاره وشتائمه البذيئة ضد النخب السياسية. 

واستناداً إلى ردود الفعل من قِبل زوّار المدوّنة الأكثر تفاعلاً، يتم اختلاق محتويات جديدة يوظّفها المهرّج في عروضه. نجحت الفكرة، وصارت المدوّنة معروفة في إيطاليا كلها، وحصدت متابعين بالملايين، يوحّدهم الغضب الاجتماعي والحقد السياسي والإحباط، ويضمنون في مفارقة عجيبة مداخيل مالية هامة من الاشهار عبر المتابعات.

 هؤلاء سيشكلون الحزب فيما بعد، الذي سيدخل غمار الانتخابات، ويحصل على مقاعد كثيرة في مؤسسات الدولة. إنه حزب سياسي يعمل مثل "شركة"، يقوده أشخاص يمكن استبدالهم بسهولة بحسب المصلحة، وفق منطق التحكم المركزي الرقمي، ويهدف إلى إنشاء ديمقراطية مباشرة عبر الإنترنت، حيث يشارك المواطنون في اتخاذ كل القرارات.

 يقول الكاتب: "تشبه هذه الخوارزمية طريقة عمل غوغل، ما يجعلها أشبه بمنصّة نتفليكس السينمائية، لكن الأمر هنا يتعلق بتفريخ الأحزاب وليس الأفلام".

هذا ما حدث في أماكن أخرى من أوروبا وأميركا، حيث تأسست قوى تتحدث باسم الشعوب وغضبها من النخب السياسية التقليدية، التي تُتهم بأنها خانت مصالح الأغلبية لصالح أقليات متسلطة ومتواطئة فيما بينها.

أين البرامج السياسية؟

 الغريب أن هذه القوى لا تقدّم حلولاً واقعية، أو تقترح برامج سياسية واضحة، بقدر ما تمنح فرصة للناخبين للانتقام من السلطة وإذلالها. كما أن الغضب الشعبي، يلاحظ الكاتب، لا يأتي دوماً من الفئات الاجتماعية الأضعف، بل كثيراً ما يصدر عن طبقات ميسورة نسبياً.

 يردّ الكاتب ذلك إلى وجود معنى جديد لا يجرؤ الكثيرون على الاعتراف به، وهو أن "الأمر لا يقتصر فقط على تغيّر النخب، بل على أن الشعب نفسه قد تغيّر".

لقد تغيّر سلوك الناس والمجتمعات بفعل تأثير التكنولوجيا، وخصوصاً الهواتف الذكية وشبكات التواصل الاجتماعي. صاروا يعتمدون على الإشباع الفوري لرغباتهم، وميلهم للاعتراف الاجتماعي، وإدمانهم على الإعجابات والتعليقات، ما بدّل من طبيعة العلاقات الاجتماعية.

تغيير طبيعة الحملات

لكن التفاعل الرقمي الدائم، يجبر الكل على تقاسم البيانات والانشغالات والاهتمامات والأهواء. وهو ما يمنح بنك معطيات هائل "Big Data". ويمنح في الوقت نفسه بعض العلماء والخبراء الأداة لتغيير طبيعة الحملات السياسية المعاصرة. 

أصبح بالإمكان توجيه رسائل سياسية مخصّصة لكل ناخب بناءً على خصائصه الفردية، بدلاً من الاكتفاء باستهداف فئات اجتماعية عامة، كما كان يحدث في السابق. هذا الأسلوب يجعل التواصل فعالاً أكثر، ويمكن استخدامه لتقديم رسائل خفية إلى جمهور محدّد، من دون علم باقي الناخبين أو وسائل الإعلام.

هذا الأمر يسمح بالتأثير في الرأي العام وتوجهيه، وبالتأثير على كل فرد على حدة. وهو ما حدث في حملة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، بعد أن تمّ إرسال نحو مليار رسالة شخصية عبر الإنترنت.

حقائق عدّة لا حقيقة واحدة

يدلّ ذلك كله على عدم وجود حقيقة موضوعية واحدة، بل أصبحت لكل فرد "حقيقته" الخاصة التي تُبنى على ما تقدّمه له الخوارزميات من محتوى شخصي. إنه واقع جديد، تتحكم فيه شركات التكنولوجيا الكبرى، ما يجعل التفاهم بين الناس صعباً، لأن كل فرد يعيش داخل فقاعة إعلامية لا يرى منها سوى ما يؤكّد أفكاره ومشاعره.

هنا يظهر النقاش السياسي العام فاقداً معناه، ما دام الاختلاف لا يتبدى في الآراء بل في الحقائق نفسها، فيصعب تبيّن الصواب من الخطأ.

 هكذا لم تعد قواعد السياسة التقليدية هي السائدة، بل ظهر نمط جديد من السياسيين يتناقضون في خطاباتهم باستمرار، من دون محاسبة. هنا يدعو الكاتب إلى بناء قواعد سياسة جديدة لها دراية بالعالم المعقّد الذي فرضته الثورة الرقمية. 

وكما قال إريك شميت، الرئيس السابق لشركة غوغل، "أصبح من النادر الوصول إلى محتوى لا يكون مصمماً خصيصاً لنا. فخوارزميات آبل وفيسبوك وغوغل تضمن أن يتلقى كل واحد منا المعلومات التي تهمه فقط".

ويقول مؤسس فيسبوك في هذا السياق، "إذا كنا نهتم أكثر بسنجاب يتسلق شجرة أمام منزلنا، أكثر من اهتمامنا بالجوع في أفريقيا، فهناك خوارزمية ستتكفل بإخبارنا عن الفئران في حيّنا، مع حذف كامل لأي إشارة لما يحدث على الضفة الأخرى من البحر الأبيض المتوسط".

تصنيفات

قصص قد تهمك