"المماليك" في أوروبا للمرة الأولى.. عصر ذهبي في مصر وسوريا

time reading iconدقائق القراءة - 10
لوحة من المعرض تجسّد البعثات الدبلوماسية في دمشق أيام المماليك - الشرق
لوحة من المعرض تجسّد البعثات الدبلوماسية في دمشق أيام المماليك - الشرق
باريس-سها محمد

بعد مرور أكثر من أربعين عاماً على أوّل معرض دولي عن الثقافة والحضارة الإسلامية في العصور الوسطى، الذي أقيم عام 1981 في العاصمة الأميركية واشنطن بعنوان "الفن الإسلامي، عصر المماليك"، يستضيف متحف اللوفر في باريس، وللمرّة الأولى في أوروبا، معرض "مملوك" الذي يتناول العصر الذهبي لحضارة المماليك في الشرق الإسلامي، خلال العصور الوسطى. 

قاعة نابليون الواقعة تحت الهرم الزجاجي الشهير في اللوفر، فتحت أبوابها لتراث المماليك التاريخي حتى 28 يوليو، قبل أن يعود للانعقاد مرّة أخرى خلال شهر سبتمبر، في متحف اللوفر أبوظبي.

تجمع القاعات 126 قطعة من الكتب والمخطوطات، والملابس والأقمشة، فضلاً عن أواني من الخزف والزجاج الصيني، وحُلي وأسلحة وأبواب وسجاجيد، تعود إلى فترة المماليك، وتعكس الثراء الثقافي والفكري الذي اتسمت به فترة حكمهم لمصر وسوريا، بين 1250و1517م.

يحظى معرض "مملوك" بتفاعل كبير من زوّار اللوفر، وتستقبلهم لافتات كثيرة تنتشر في أرجاء البهو الرئيسي للمتحف، تحمل صورة لملابس الفرسان المماليك المميزة. 

سينوجرافيا تفاعلية

يعتمد تنسيق المعرض على السينوجرافيا، التي تقدّم تجربة تفاعلية بصرية وسردية، تقود الزوّار في مسار محدّد بين اللوحات المرسومة، التي تعبّر عن فترة حكم المماليك، فضلاً عن القطع الأثرية المعروضة، ولوحات النصوص الشارحة لتاريخهم، تتوسطها مساحات خاصة تشبه سينما صغيرة، تعرض مقاطع فيديو ثلاثية الأبعاد، وتدخل الزوّار إلى قلب الآثار والعمارة المملوكية وخصوصاً في مصر، وتعتمد على الإضاءة الخافتة، ومساقط النور فوق القطع المعروضة، فتعيد الزوّار إلى حقبة تاريخية مختلفة. 

يتصدّر مدخل "مملوك"، لوحة كبيرة تشرح أصول المماليك وتاريخهم؛ فهم فرسان من أصول تركية وقوقازية، عملوا في خدمة الدولة الأيوبية، التي أنشأها صلاح الدين الأيوبي، ووصلوا إلى درجة كبيرة من النفوذ، قادتهم إلى الإطاحة بالأيوبيين، وتولي الحكم بين عام 1250 و 1517.

استطاع المماليك خلال حكمهم، استرداد آخر معاقل الصليبيين في الشرق، التي استولوا عليها في القرنين الثاني عشر والثالث عشر، والتصدي للتهديد المغولي، وأخضعوا مناطق شاسعة لنفوذهم، وسيطروا على الطرق التجارية الرئيسة، وخصوصاً تجارة التوابل من جنوب شرق آسيا، التي تمرّ عبر البحر الأحمر إلى البحر المتوسط، وصولاً إلى أوروبا.

تُبرز اللوحات النصّية المدعومة بالخرائط القديمة في المعرض، كيف اتخذت الدولة المملوكية القاهرة عاصمة لها، وكيف أصبحت حينها مركزاً تجارياً وثقافياً عالمياً، استقطب العلماء والمثقفين من جميع أنحاء العالم، ووفّر حالة من الازدهار الفني والعمراني والثقافي غير المسبوقة في التاريخ الإسلامي، ظهر أثرها في أوروبا في عصر النهضة.

خمسة أقسام 

ينقسم معرض "مملوك" الذي يُقام بالتعاون مع متحف اللوفر أبوظبي، وبدعم خاص من المكتبة الوطنية الفرنسية "Bibliothèque Nationale de France"، إلى خمسة أقسام تركز على هوية المماليك، والتعدد المجتمعي ومكانة العلماء والمتصوّفين والكُتّاب والتجار والحرفيين، وموقع الأقليات الدينية، فضلاً عن امتزاج الثقافات العلمية والعسكرية والدينية والشعبية، والعلاقات مع العالم، والإنجازات الفنية والمعمارية للدولة المملوكية، لجهة الخط والتصميم والنسيج والسيراميك والزجاج، فضلاً عن تشكيل المعادن والأعمال الخشبية.

يضم المعرض قطعاً متنوّعة من الملابس المميزة لجنود المماليك وأسلحتهم، ومنها سرج وحزام حصان مطرّز بخيوط ذهبية وزخارف نحاسية، يُعتقد أنه يعود إلى معركة الأهرامات، التي دارت بين المماليك والحملة الفرنسية على مصر سنة 1798.

مفتاح الكعبة

كما يعرض مفتاح الكعبة الذي يحمل اسم السلطان فرج، وهو مفتاح مطلي بالذهب والفضة، يعتقد الباحثون أنه تمّ إهداؤه إلى السلطان فرج، عندما أمر بتجديد الحرم عام 1402، كما كانت تُقدّم هذه المفاتيح في بداية عهد السلطان في بداية فترة حكمه، وعدد من علب الأقلام النحاسية، ومنها غطاء علبة أقلام نحاسي نُقش عليه مشهداً للصيد، وحوض نحاسي مزيّن بالزخارف، ومبخرة للتعطير، وهي المجموعة التي تعود للسلطان الناصر محمد قلاوون، المعروف برعايته للفنون، وتعتبر فترة حكمه أحد الفترات الذهبية لسلطنة المماليك.

ظهرت المرأة أيضاً في معرض "مملوك" من خلال لوحة توضيحية لحياة خواندا فاتيما، الزوجة الوحيدة للسلطان قايتباي، التي كانت تخرج في رحلات خارج القاهرة مصحوبة بمواكب مُبهرة، واشتهرت بإدارتها لثروتها من خلال شراء الأراضي والمنازل، وبعد وفاة السلطان قايتباي، تزوّجت السلطان طومان باي، وتضم معروضاتها حلي ذهبية وشمعدان نحاسي وإبريق.

ظهرت في المعرض أيضاً المشكاوات الزجاجية، ومنها مشكاة مطلية بالمينا المذهّبة، وتعود إلى مسجد الأمير قوسون، منقوش عليها اسمه وآيات من سورة النور.

مجتمع يتسع للجميع

تعرض في "مملوك" وثائق كثيرة تؤكد على حيوية الطوائف المسيحية في التعامل مع السلطات المملوكية، وتظهر ضمن المعروضات أطباق وأواني نُقشت عليها الصلبان، ولوحتان كانتا من ضمن 10 ألواح تزيّن أحد الأبواب في الكنيسة المعلّقة بالقاهرة، تمّ ترميمها خلال العصر المملوكي، وتصوّر أحدها صعود المسيح، والأخرى صليب تخيط به زخارف تعود للعصر المملوكي، فضلاً عن كتاب يضمّ رسائل القديس بولس، التي نسخها إلى اللغة العربية توما ابن الصافي، المعروف في دمشق بابن الصائغ.  

وفي قسم المعروضات الخشبية، هناك باب يٌعتقد أنه يعود إلى جامع المارداني بالقاهرة، وهو أحد أمراء الناصر محمد بن قلاوون، وتُظهر الزخارف على البابين درجة التعقيد في التراكيب الهندسية، إضافة إلى التطعيم بالعاج، ما يمنحه ألواناً زاهية. 

يضم المعرض مجموعة من المخطوطات، منها شهادة للحج الإسلامي، وهي الوحيدة الموجودة من العصر المملوكي، وتقدّم مراحل الحج التي قامت بها امرأة تدعى ميمنة، ابنة محمد الزرديلي، وتُظهر صوراً تخطيطية للمراحل الرئيسة للحج، وصوراً للأماكن المقدّسة من الكعبة، والمسجد النبوي، إلى جانب نسخ متعددة من القرآن الكريم، ومجموعة من الكتب، ومنها نسخة من كتاب المؤرّخ أبو المحاسن يوسف بن تغري بردي، بعنوان "النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة"، وكتاب محمد ابن عقيل بعنوان "الدر النضيد في مناقب الزهير أبي سعيد".

علاقات تجارية ودبلوماسية 

سيطرة المماليك على طرق التجارة، مكّنتهم من إقامة علاقات تجارية ودبلوماسية مع أوروبا، مثل إسبانيا وجنوة والبندقية وفلورنسا، وجنى المماليك أرباحاً كبيرة من تجارة إعادة بيع التوابل والسكر إلى أوروبا، في حين كان الأوروبيون يصدّرون إلى السلطنة، النحاس والقصدير والأقمشة الصوفية.

وحظيت المنسوجات المملوكية بشعبية كبيرة بين الأوروبيين، وكانت مصدر إلهام لإبداعاتهم الفنية. وظهر في معرض "مملوك" لوحات تُوضح استقبال بعثة دبلوماسية فينيسية في دمشق عام 1545، ولوحة أخرى تظهر دمشق في عهد المماليك وتعود لعام 1511، بينما تجسّد لوحة أخرى، شخصيات ومباني مملوكية، يجلس فيها الحاكم في دمشق على منصّة مرتدياً عمامة بيضاء مزخرفة، يحيط به الأمراء الذين يرتدون عمامات طويلة أو قلنسوات حمراء.

 وعلى الرغم من ضعف دولة المماليك في نهاية عهدها، واستيلاء العثمانيين عليها عام 1517، لكن وجودهم لم ينته فعلياً؛ بل استمروا في تشكيل فرق مميزة من الفرسان في صفوف الجيش العثماني بمصر.

 وخلال القرنين السابع عشر والثامن عشر، تمكّن قادتهم الذين أصبحوا يحملون لقب "الباكوات"، من استعادة نفوذهم السياسي، وتولوا الدفاع عن مصر عام 1798 خلال الحملة الفرنسية بقيادة نابليون بونابرت، الذي أُعجب بمهاراتهم القتالية، لدرجة أنه أنشأ فرقة منهم ضمن الحرس الإمبراطوري الفرنسي، بين عامي 1801 و1815، ما جعلهم جزءاً من التاريخ الأوروبي.

تصنيفات

قصص قد تهمك