
ما هي ملامح الإعلام الثقافي في المغرب، وهل يتقاطع مع الإعلام المشرقي في توجهاته وخطوطه التحريرية؟
من هذا السؤال انطلقنا نحو مناقشة الإعلام الثقافي في المغرب، الذي ارتبط منذ ظهوره منتصف القرن التاسع عشر بالثقافة والأدب، واتّخذ مسارات متشابكة شملت الصحافة الحزبية، والإعلام العمومي، والمنصّات الرقمية لاحقاً، ما يجعل الحديث عن خصوصيته رهناً بسياقاته المتغيرة.
ساهم الكتّاب والمبدعون المغاربة منذ عقود، في رفد الصحف والمجلات الثقافية العربية الصادرة في المشرق، بمساهمات رصينة ومتميّزة، لا تزال حاضرة بقوّة حتى اليوم. وأثرى حضورهم داخل هذه المنابر، الخطاب النقدي المشرقي، عبر مقاربات جديدة، وأصوات تنتمي لمشهد ثقافي متعدّد الروافد، ولم يكن ممكناً الاستغناء عن الحضور المغربي، سواء في تناول القضايا الفكرية، أو الترجمة، أو تحليل الظواهر الأدبية والفنية في العالم العربي.
اليوم، لا يقتصر هذا الحضور المغربي على الصحافة الثقافية المكتوبة فقط، بل بات واضحاً أيضاً في الإعلام المرئي العربي، من خلال البرامج الثقافية الحوارية، والندوات المتلفزة، والمشاركة النشطة في المهرجانات والتغطيات العربية الكبرى.
يعرف المثقف المغربي جيداً طبيعة الرهانات التحريرية التي تحكم الإعلام المشرقي، ويجيد التفاعل معها، بل ويضيف إليها من أدواته ومفاهيمه ما يجعل الخطاب الثقافي أكثر تعدداً وثراء.
غير أن هذا الحضور على غزارته، لم يقابَل بمعرفة مماثلة من جانب الإعلام المشرقي تجاه المغرب؛ ولم تحظَ التجربة الثقافية المغربية بحضور معرفي دقيق داخل العديد من المنابر، بل، بقيت ثابتة تستبطن مركزية مثقلة بالموروث.
لكن العالم تجاوز هذه المركزيات، إذ لم تعد الحدود الجغرافية كافية لتفسير الفعل الثقافي أو الإعلامي. بل أصبحت عبئاً يعطّل التواصل، ما يجعل من تفكيك هذه الثنائيات (المركز/ الهامش، المشرق/ المغرب) شرطاً لإعادة بناء خطاب ثقافي عربي جديد، قائم على الندية والتبادل.
"الشرق" تحدثت مع نخبة من الكُتّاب والنقّاد والإعلاميين في المغرب، للكشف عن ملامح هوية الإعلام التحريرية.
الشاعرة والإعلامية حفيظة الفارسي، رئيسة القسم الثقافي في جريدة الاتحاد الاشتراكي، تؤكد "أن الإعلام الثقافي المغربي يُعنى بتجذير الهوية، وهو منذور بشكل أكبر لهذه المهمة، بما يسهم في تجذير الوعي بأهمية المكون الثقافي في بناء وصناعة الإنسان والرمزيات المؤسسة للهوية".
ولفتت إلى أن هذا الإعلام "يأخذ بعين الاعتبار التنوّع اللغوي والثقافي المؤسّس له دستورياً، لأنه هو الضامن لوحدة المشترك الجمعي، لكن مع الانفتاح على الأفق الحداثي"، مؤكدة "أن العلاقة مع المشرق هي امتداد معرفي".
ورأت أن "الصراع ما يزال قائماً بين خطابين ثقافيين، أي بين خطاب ثقافي إعلامي تقليدي، يتوسل بالخصوصية وبالديني في مواجهة خطاب ثقافي حداثي، نماذج قليلة منه استطاعت أن تؤسس رؤيتها ضمنه، وتحافظ في الوقت نفسه على خصوصية ثقافاتها المحلية، فيما انساقت أغلبها الى تقديم ثقافة سائلة رخوة".
وترى الإعلامية والأكاديمية بشرى مازيه، أستاذة الإعلام والتواصل، أن الإعلام الثقافي المغربي "عرف تطوراً ملحوظاً منذ التسعينيات، من خلال الملاحق الثقافية الأسبوعية، التي وفّرت منتوجاً ثقافياً وسهّلت الوصول إليه، في خدمة للمبدع والمتلقي معاً".
لكنها تسجّل تراجعاً حالياً لصالح الإعلام الرقمي، وتقول: "ما نشهده الآن هو تشتّت، لا يمكن ضبطه بخط تحريري واضح، لأن الإنتاج يتم خارج المؤسسات التقليدية". وتشير إلى أن البرامج الثقافية التلفزيونية في المغرب "كانت تهيمن عليها الأجندات الرسمية، والمشاركة كانت محكومة بمقاييس غير معلنة".
من جهته، يرى الشاعر والإعلامي مخلص الصغير، مسؤول دار "الشعر" في تطوان، أن الإعلام الثقافي المغربي يتمتع بغنى رمزي، لكنه يفتقر إلى الأدوات الصحفية الحديثة".
يضيف: "مقالات الإعلام الثقافي المغربي أقرب إلى الدراسات الجامعية، منها إلى المقالات الصحفية بقواعده المعروفة. كما أصبحت الصحف والمواقع تمطرنا بمقالات موغلة في السطحية، تصل إلى درجة تقديم كتب من دون قراءتها".
يربط الشاعر والباحث في سوسيولوجيا الاعلام مصطفى غلمان، المدير العام لوكالة "كش بريس" للإعلام والصحافة بالمغرب، بين الإعلام الثقافي وبناء المجال العمومي قائلاً: "الهوية التحريرية لا تُبنى فقط داخل غرفة التحرير، بل في المجتمع، وداخل المدرسة والمجال العام. المؤسسة الإعلامية ليست فقط ناقلاً بل فاعلاً في تشكيل الرؤية الثقافية العامة".
أما الإعلامي والسينمائي عبد الإله الجوهري، معدّ برامج ثقافية في القناة الأولى، فيشير إلى خصوصية النبرة المغربية قائلاً: "الإعلام الثقافي المغربي يحتفظ بهامش أكبر من الحياد، ويعطي مساحة للأصوات الجمالية حتى حين تكون خارج السياق الرسمي".
لكنه ينتقد في الوقت نفسه ما يسميه "التأثر اللاواعي بالإعلام المشرقي، فعلى الرغم من محاولات التميّز، لا يزال حبيس هيمنة إعلامية مشرقية". ويضيف: "المؤسسة الإعلامية لا تنظر إلى الثقافة كاستثمار طويل المدى بل كزينة تحريرية موسمية".
يرى أستاذ الإعلام ومدير تحرير المجلة المغربية للدراسات الإنسانية، أحمد المريني، أن الإعلام الثقافي المغربي "يعكس التنوّع المغربي العربي والأمازيغي والإسلامي، لكنه يعاني من ضعف التكوين، كما أن ضعف التكوين الجامعي، يجعل عدداً من الصحافيين يلجؤون إلى التغطية الظرفية من دون تعميق المفاهيم أو مساءلة القضايا الثقافية".
خصوصية الهوية التحريرية
تلفت الإعلامية حفيظة الفارسي الانتباه إلى أن الثقافة في المغرب "ليست مجرد قطاع بل جزء من الهوية الاجتماعية والسياسية، والإعلام الثقافي القوي لا يمكن فصله عن دينامية فكرية وجمالية حقيقية في المجتمع". وبالتالي، فإن الرهان يجب أن يكون على تعزيز الحركة الثقافية نفسها، لأن الإعلام الثقافي يشتغل ضمن بيئة أوسع.
يشير مخلص الصغير في السياق ذاته، إلى أن "إحدى مشكلات الإعلام الثقافي المغربي، تكمن في انعدام التنسيق بين الفاعلين الثقافيين والإعلاميين، وكثيراً ما نجد التظاهرات تمرّ من دون تغطية إعلامية كافية، بسبب ضعف العلاقات المؤسساتية بين الجهات المنظمة والمؤسسات الصحافية".
هذه القطيعة تؤدي إلى عزلة مزدوجة، حيث ينعزل الإعلام عن الحدث، ويظل الفعل الثقافي غير متداول عمومياً.
هكذا، يرى مصطفى غلمان، أن "الإعلام الثقافي يمكن أن يكون فاعلاً معرفياً، إذ لا يمكن بناء إعلام ثقافي مغربي مستقل من دون استراتيجية تحريرية تسائل المفاهيم وتنفتح على الذات".
ويؤكد "أن الخصوصية لا تعني الانغلاق، بل إن المفهوم نفسه يُعاد تشكيله في ضوء ديناميكيات العولمة"، مضيفاً: "الإعلام الثقافي يجب أن يكون مشروعاً لتجديد المجتمع لا لتزيينه".
يرتبط سؤال الهوية التحريرية، في جانب من جوانبه، بطبيعة التكوين الصحافي والثقافي للإعلاميين المغاربة. وتشدّد بشرى مازيه على أن "الصحافي الثقافي، لا يحظى غالباً بنفس التقدير أو الأجور أو الترقية، وهذا يُحبط الطاقات ويدفعها إلى أقسام أخرى".
وفي سياق الثراء الثقافي للإعلام في المغرب، يقول الباحث أخمد المريني: "الإعلام الثقافي المغربي لا يفتقر إلى الغنى، لكنه يحتاج إلى رؤية مؤطّرة تنسجم مع تحوّلات المجتمع، وتكسر طابع التوظيف المناسباتي، الذي يطبع حضور الثقافة في وسائل الإعلام."
تفرض إعادة بناء الإعلام الثقافي المغربي، تجاوز المقارنة المرجعية بالمشرق، والاشتغال على شروطه الداخلية، وممكناته، وحدوده. فالمسألة ليست مفاضلة جغرافية بل مشروعاً لبناء استقلالية تحريرية، تنبثق من المجتمع وتعود إليه.
ولهذا، فإن أي تطوير حقيقي للهوية التحريرية للإعلام الثقافي المغربي، لا يمكن أن يتم خارج مراجعة السياسات العمومية، وتحديث بنيات التحرير، وتمكين الصحافيين من التخصص والتكوين المستمر. إن بناء خطاب ثقافي مغربي مستقل، لا يعني الانعزال، بل يتطلب وعياً مركّباً بالتاريخ والتحديات، كما يستلزم شراكة أفقية مع باقي التجارب العربية، ضمن أفق نقدي تعددي.