
هل يستطيع اللون الأخضر أن يمنع قنبلة؟ وذلك المفتاح العتيق في لوحة، هل يعني أن البيت نفسه مازال قائماً؟
للفن التشكيلي في فلسطين تاريخ قديم، يستلهم رموزاً من أيام الكنعانيين حتى اليوم، لكن السؤال الذي يكرّر نفسه في خضم المأساة الحالية: هل تقدر لوحة من خطوط وألوان أن تحمي روح طفل غزاوي من آلة القتل الجهنمية، وهل حقاً ثمة نضال بالفن؟
الفنان التشكيلي تيسير بركات، ابن مخيم جباليا في غزة، تحدث لـ "الشرق" عن استمرارية الأيقونات والفن، فأكد أن "ميزة الفنون أنها لا تنتهي بنهاية الحدث الذي تعبّر عنه، لذلك دورها غير مباشر وبعيد المدى، ينتقل من جيل إلى جيل، لكن من الصعب القول إن لوحة فنية قادرة على إيقاف حرب مثل القرارات السياسية".
حنظلة الغاضب
يلفت الانتباه في السفينة التي ضمّت ناشطين من مختلف أنحاء العالم، وأبحرت في البحر المتوسط لكسر حصار التجويع في غزة، أنها تحوّلت من سفينة صيد نرويجية قديمة إلى رمز مقاومة، وتغيّر اسمها من "نافارن" إلى "حنظلة".
ولا يخفى أن شخصية حنظلة، ذلك الطفل الفلسطيني الذي ولد عام 1969، على صفحة جريدة السياسية الكويتية، وتحوّل من مجرد رسمة كاريكاتيرية للفنان ناجي العلي، إلى أيقونة للنضال الفلسطيني باسمه وصورته، وهو يعطي ظهره للعالم كله.
تحوّل حنظلة إلى رمز للنضال الفلسطيني ضد الاحتلال، وتوقيعاً خالداً للرسام نفسه. صبي يحمل اسم نبات فلسطيني معمّر "الحنظل"، ويسير واثقاً حافي القدمين، ممزّق الملابس، كأنه لا قيمة للأشياء حين يفقد المرء وطنه.
أعاد ناجي العلي استلهام حنظلة في رسومات كثيرة ساخرة، تندّد بأنصاف الحلول، ودفع الثمن باغتياله في لندن عام 1987، ليصبح الرسام والرسمة أسطورة واحدة لا تنفصل. وعلى الرغم من مرور نحو 60 عاماً على ولادة حنظلة، مازال طفلاً في العاشرة، ومازال غاضباً مما يجري حتى اليوم.
غسان كنفاني الرسام
مبدع كبير آخر انتهى إلى الاغتيال المأساوي عام 1972، بواسطة سيارة مفخّخة قضت عليه وكان برفقة ابنة أخته. غسان كنفاني عكا، الذي عاش في يافا، واغتيل في بيروت، أصبح أيقونة للنضال والإبداع الفلسطيني معاً، وربما هو أشهر كاتب فلسطيني في القرن العشرين، بأعمال متنوّعة للكبار والصغار، أشهرها "رجال في الشمس" و"عائد إلى حيفا".
لكن ما لا يعلمه الكثيرون، أنه كان أيضاً رساماً، واشتغل بالفعل معلّماً لمادة التربية الفنية، كأنه أراد أن يعبّر عن نضال شعبه بكل الطرق الممكنة، ولا أحد يعلم عدد لوحاته على وجه الدقّة، بين 36 أو 17، أشهرها لوحة "العودة" و"أم سعد" و"فلسطين".
يُضاف إلى ذلك أنه كثيراً ما وضع رسومات مصاحبة لنصوصه يصمّمها بالقلم الرصاص، وحتى على بطاقات المعايدة والرسائل. كما اهتمّ في لوحاته بالرموز مثل الحصان، وقبّة الصخرة والألوان الفلسطينية والوجوه.
وديع خالد
ميزة لوحات كنفاني، أنها لا تجسّد النضال الفلسطيني فقط، وإنما هي تعبير مباشر وحاسم عن الهوية الفلسطينية، وعن تلك النقطة يقول الفنان الفلسطيني وديع خالد: "كتب غسان كنفاني بريشة الغائب الحاضر، مزج بين الكلمة والصورة، بين الحبر والدم، وجعل من رواياته لوحات ناطقة تنبض بشوارع المخيم، وأصوات الجياع، ووجوه المقاتلين العائدين من الرماد".
يضيف: "لديّ أعمال كثيرة تناولت حرب الإبادة بكل ما فيها من وجع وذهول. رسمتُ "صفيّة" ذلك الوجه الذي خلّده غسان كنفاني، وجعلتُمنه مرآة لكل أمّ تنظر إلى المدى ولا يعود إليها أحد".
وتابع: "كما قدّمت "أم عسكر" كأيقونة للأم الفلسطينية، التي تنجب الثورة، وتفتح صدرها للحياة رغم الأسلاك الشائكة. ولم أتوقف عند الشخصيات، بل استحضرت رموزاً روحية وفكرية شكّلت وجداننا الجمعي: مريم العذراء في صمتها الجليل، إكليل الشوك كرمز للفداء المستمر، و"ما تبقّى لكم" كنداء متكرر في وجه التهجير والمحو".
كل هذه الأعمال رسمها يومياً "بالحبر على الورق، على وقع الأخبار، وصدى الانفجارات، وعلى مسمعٍ من كل هذا الألم، الذي يتسلل من الشاشة إلى القلب"، كما يقول خالد، مضيفاً: "كانت الريشة في يدي تحاول أن تحفظ ما يُمحى، وتُعيد تشكيل المعنى وسط العدم".
وعن رأيه في تجربة غسان كنفاني يقول تيسير بركات: "غسان كنفاني اسم كبير، ترك بصمة إبداعية وإرث فني مهم، وأصبح علماً مشهوراً في العالم كله ولوحاته الفنية كان لها تأثير كبير جداً".
وأوضح أن "فكرة التعبير عن الواقع والهوية الفلسطينية وقدرتنا على البحث العميق في هويتنا، وإرسال رسالتنا إلى العالم، كل ذلك يسهم بالتضافر مع الأدب والسينما والمسرح، في ترسيخ هويتنا. لذلك هناك أسماء كبيرة مهمة تركت بصمة مؤثرة في تلك المجالات، وإلقاء الضوء على قصتنا، إضافة إلى شعراء مثل محمود درويش وفدوى طوقان".
عائدون من الرماد
حول تجربته ودور الفن في نضال الشعب الفلسطيني، قال الفنان وديع خالد: "الفن التشكيلي الفلسطيني ليس رفاهية ولا زينة، بل جزء من معركة طويلة، جزء من جدار يُبنى على شفير الهاوية. وفي زمن الحرب، يصبح اللوح قبراً وأملاً في آن".
وأكد أن هذا الفن "يحمل رسالة بأن من يرحلون، لا يختفون، بل يتكثفون في اللون، في الظل، في رمزية شجرة، في صرخة مرسومة؛ إنه فن لا يطلب الشفقة، بل يطالب بالعدالة. لا يجمّل الواقع، بل يكشف قبحه لتراه الإنسانية بلا مرآة مشروخة".
وحول تأثير الكبار ومواكبتهم للحروب أمثال الشموط وناجي وغسان قال: منذ البداية، لم يكن الفن التشكيلي الفلسطيني إلا فناً مقاومًا، نابضاً، مُطارَداً أحياناً، لكنه دائماً شاهد.
أضاف:" كان إسماعيل شموط – رائد الحركة التشكيلية الفلسطينية – أول من علّق مشهد النكبة على جدران الوعي، بلوحته الشهيرة "إلى أين؟" التي جسّدت مأساة النزوح وكأنها صرخة معلقة على صدر الوطن.
أما ناجي العلي، بفنه الكاريكاتيري، فلم يكن رساماً بقدر ما كان قنبلة في وجه النفاق، وقلباً يبكي الضمير العربي قبل أن يدينه. حنظلة، الطفل ذو الظهر الملتفت، ما زال يرمقنا في صمت، كشاهد أبدي على المجازر التي لا تنتهي.
وعن تلك الحرب الدائرة الآن أكد تيسير بركات، "أنه لم يمر على جيلنا من قبل شيء بهذه الشراسة والحدّة والوحشية. بالنسبة لي كان التأثير عميقاً ومؤذياً جداً. قبل الحرب كنت أشتغل على فكرة المفقودين الفلسطينيين والعرب، بما في ذلك من هم في السجون، ومنها قّصة فقدان عمي سنة 1956، حيث لم يعثر أحد عليه. لكن بعد الحرب، أصبح هناك آلاف المفقودين، وأقمت معرضاً عن تلك الثيمة في بيرزيت.
شموط والتوثيق
لا يمكن أن تأتي سيرة الفن التشكيلي الفلسطيني، ولا يذكر اسم الراحل إسماعيل شموط، مؤسس الحركة التشكيلية في القرن العشرين، ابن مدينة اللد، المولود عام 1930.
بدأ مسيرته الاحترافية منذ 1950 ودرس في كلية الفنون الجميلة في القاهرة ثم تابع في روما، رسم رموز النضال الوطني مثل الحاج أمين الحسيني. أجبرته النكبة على النزوح إلى المخيم، ثم قضى حياته مهاجراً ما بين القاهرة والكويت وألمانيا وصولاً إلى الأردن.
تميّزت لوحات شموط بأسلوبه الواقعي المباشر، والحسّ التعبيري الذي يوثق رحلة الآلام الطويلة للشعب الفلسطيني، ولم يكتف بالتوثيق البصري، بل أصدر العديد من الكتب التي تؤرخ للفن التشكيلي في فلسطين.
ولا ننسى أن زوجته أيضاً كانت تشكيلية مرموقة، هي الراحلة تمام الأكحل التي مالت إلى التجريد وابتعدت عن الواقعية المباشرة.
هذا وجهي
الفنان يوسف كتلو يعبّر عن أسلوبه الفني في الحرب قائلاً: "أرسم لأني لا أستطيع الصمت. لوحاتي ليست مجرد ألوان على قماش، بل صرخة في وجه العالم، في وجه القتل، والخيانة. أرسم أطفال غزة وهم نائمون تحت السماء المفتوحة، أمهاتهم يحتضنونهم كمن يحتضن الحياة قبل أن تخطفها القذيفة. أجسّد في أعمالي تفاصيل حرب الإبادة التي يمارسها الصهاينة ضد شعبي، بكل بشاعتها ووحشيتها، لا تجميل ولا رتوش".
يضيف: "في كل لوحة، أواجه الغياب بالحضور، والموت باللون، والحصار بالتكوين. أستعمل خامات ترابية، ومزيجاً من الدم والتراب في ألواني، كي تبقى الذاكرة مشتعلة، ولكي أقول إن فلسطين ليست ضحية صامتة. لا أبحث عن الشفقة، بل أقدّم شهادتي كفنان وكسلاح ضد الاحتلال".
ويختم: "لوحاتي تُعرض في المعارض كأنها جثث تنتظر دفنها، أو كأنها صرخة تنتظر من يسمعها. رسالتي أن تبقى الذاكرة حيّة، وأن نكتب تاريخنا نحن، لا أن يُكتب لنا. الفن ليس ترفاً في زمن المجازر، بل ضرورة، وثورة، وحق. هذا قلمي، وهذه ألواني، وهذا وجهي في مرآة الوطن".