
في الفيلم الإيراني القصير" الله قادم"، إخراج مجيد مجيدي، يكتب طفلان رسالة إلى الله، يتوسّلان فيها أن يشفي أمهما المريضة، بعد أن قال لهما الناس، إن لا أحد يستطيع مساعدتها سوى الله.
جاء في الرسالة: "سلام يا الله، أمنا مريضة.. ونحن نكتب لك هذه الرسالة، عندما تقرأها، ستأتي إلى بيتنا، لتأخذ أمنا إلى المشفى. أنت حنون جداً وتحب الأطفال".
هذه اللحظة المضيئة في الفيلم، والمشحونة بالبراءة والإيمان، تقابلها نصوص زياد الرحباني في كتابه "صديقي الله"، الصادر عام 1971، وهو أوّل كتاب دوّنه وهو في عمر 11 عاماً، وعبّر من خلاله بصوته الطفولي، عن قلقه وتضرّعه ودهشته أمام العالم والغياب، مناجياً الله كصديق لا كإلهٍ بعيد.
نقرأ في الكتاب: "وقالوا يوماً، إن الله صديقي، ورحت أفتش عن صديقي في الأحراش، بين الزهور في الأشجار المورقة، وراء الصخور، وخافت مني العصافير وهربت. ترى صديقي كالعصافير خافَ مني وهرب؟ وسألتهم: صديقي هل يخاف؟ قالوا: يخاف ألّا تحبّه".
الرسالة التي يكتبها الطفلان في الفيلم تختصر كل فلسفة الرجاء الطفولي: إيمان غير مشروط، دعاء لا تطاله الشكوك، ولغة لا تشوبها رمزية الكبار ولا مواربتهم. إنهما يكتبان إلى الله مباشرة، مثلما يكتب زياد في ديوان شعره "صديقي الله"، وجاء في الملاحظات، أنه سجّل هذه الكتابات بين عامي 1967 و 1968، أي أنه كان حينها بعمر 11 سنة.
هذه الصياغات المتوترة، البريئة، لا تُكتب إلّا في الطفولة، حين لا يحتاج الخطاب إلى وسائط ولا إلى تنميق وهندسة لغوية.
في كلا النصّين، تتكشّف الطفولة كزمنٍ للبوح لا للستر، وللإيمان لا للتبرير. فالله، كما في رسالة الطفلين، وكما في مناجاة زياد الرحباني، ليس كياناً لاهوتياً جامداً، بل وجهاً حياً، يُسمَع ويُسأل، ويُعاتَب، ويُرجى من دون خوف؛ لا يرى فيه الطفل سلطة أو مهابة، بل قريباً يُناجيه ببساطة قلبه.
تعال قبل الشتاء
هذه العلاقة الخاصة بين الأطفال والخالق، يشي بها كتاب زياد، حين يقول الطفل الذي فيه: "إذا جئتَ يا صديقي، نذهب إلى الأحراش، نقول إنها لنا، لي ولك، لا أحد يسمعنا. إذا أردت أن تأتي فتعال قبل الشتاء. في الشتاء طرُق المجيء مسكرّة. هل يصل صوتي إليك عبر كل هذه الأوراق المتساقطة."
نلمس هنا بحثاً طفولياً أيضاً عن الله، لا عبر الطقوس ولا عبر المفاهيم الدينية المجرّدة، بل عبر عالم الطبيعة، الذي تزدهر به مخيّلة الطفل من الزهور والطيور والصخور، عالم طفولي تقيّ ونقيّ، كالطبيعة ذاتها.
هكذا، تكون أسئلة الطفولة على سجيّة الطبيعة وسيرورتها، ومن خلال علاقة حميمة، تُلتمس من الإنسان، ولا تُفرض عليه، ومعلوم أن زياد عُرف بسجيّته وتلقائيته، كما بدا في أحد لقاءاته على الهواء، حين تلقّى اتصالاً من الطفلة بيسان، فسألها عن أحوالها، وعبّر عن افتقاده لصوتها بعد أن قلّ تواصلها، وسألها إن كانت لا تزال تواظب على الاتصال بالإذاعة.
هذه الشراكة مع الله ليست صلاة تقليدية، بل هي فعل وجودي: "نحن والله نلعب ونحزن ونسرق الطبيعة من عالم لا يفهمنا". فالله في تصوّر الطفل ليس هو القوّة القاهرة، بل الرفيق الوحيد الممكن.
مشاهد القرية
واللافت أن الفيلم وكتاب زياد الرحباني "صديقي الله"، ينبضان بمشاهد القرية الريفية، حيث الأشجار الوارفة والسواقي وطيبة البشر.
يتضرّع الطفلان في الفيلم إلى الباري، كي يرسل سيارة إسعاف لتنقل والدتهما المريضة إلى المشفى، حيث لا أحد يستطيع مساعدتها سوى الخالق، وهما مؤمنان بذلك تماماً، وهذا ما يقوله أيضاً سكّان قريتهما، وكأن الطفلين يقيمان علاقة صداقة مع الباري على سجيتهما، وعلى سجية الرحمة والعطف الإلهي، كما هي في مخيلة الطفولة.
ولأن الرسالة في الفيلم تنبع من الخوف على الأم، ومن عجز اللغة، فإن الرحباني يكتب أيضاً من عتبة الطفولة قائلاً: "أمي تعمل لكم القهوة، نُخبرك النكات، ومعاً نضحك، نَعدّ لك مَن تزوّج في ضيعتنا ومعاً نضحك، ومَن سافر، ألا جئت نخبرك كيف تصير الأعياد، ألا جئت نُريكَ في سطح بيتنا مِن أين ينزل المطر، وأين يُعتّق الخبز، ألا جئت يا الله؟"
هو لا يريد من الله أن يُنزل المعجزات، بل أن يأتي فقط، أن يكون حاضراً بين أمه وأبيه وأطفال الحيّ.
هذا الحنين إلى حضنٍ إلهيّ، لا يمكن فصله عن الجرح الوجودي الأكبر: شعور الطفولة بالخذلان، حين لا يأتي الله. يقول الرحباني: "لا أريد أن أصلي، دعوني أصرخ فوق الجبال الصخرية، في الوديان الساكتة، فتصرخ معي: أين أنت؟"
نرى هذا الرجاء فعلياً في عيني الطفلين (محسن ومعصومة)، حين يضعان الرسالة في صندوق بريد القرية لتصل إلى الله، وكل ما لديهما هو الانتظار.
أما زياد الرحباني فلا يكتفي بالرجاء وحده، بل يقدّم حالة الوعي الطفولي كتجربة كاملة في الإيمان. ففي أحد المقاطع يقول: "أحببتك أكثر مما علموني في الصلاة".
هذا التصريح الجريء يُماثل، من حيث نقائه، رسالة الطفلين، لأن كليهما لا يعرفان الله من الكُتب، بل من الحب والخوف والانتظار.
تجب الإشارة إلى تمركز الفيلم "الله قادم" حول الأم العضوية، باعتبارها محور الحب والخوف والدعاء، وكذلك في كتاب زياد يتمركز الحضور ذاته، إذ نجد إشارات متكرّرة إلى الأم، وكأنها تشارك الكتاب في نصوصه كلها، إلى جانب الطبيعة بوصفها "الأم العليا". وهكذا، فإن الرموز العليا: الأم، والطبيعة، والإبداع، تتوجه جميعها نحو الله في كلّيته.
يرسل الطفلان في الفيلم رسالتهما بلا فكرةٍ عمّا إذا كانت سوف تصل، بينما زياد الرحباني يعترف بنفس التوتر الوجودي حين يقول: "هل ربُنا في الكنيسة؟ ألم يهرب منذ أيام الحروب؟ مذابحُنا صغيرة، يجب أن نستقبله في ملاعبنا الوسيعة".
إن الله لا يسكن المعابد، بل وجوه الأطفال، في عيونهم المتضرّعة.
الفن وتراجيديا المصير
قال زياد الرحباني ذات مرّة، إنه يحب الأدب، لأنه قريب من الموسيقى. وهو قريب من الناس، ومن الحياة التي يعزفها كموسيقى. كما يقول: إن الحياة هي المدرسة. وكأنه يقترب بذلك من مقولة الشاعر العراقي حسين مردان: "ضع رأسك على قارعة الطريق واسمع دوي الأصوات". هناك وجد مردان الشعر في الحياة، ووجد زياد الموسيقى فيها. وفي حياته، كان كلّ شيء موسيقى.
إن مأساة زياد الرحباني تكمن، في التطابق الذي سعى إليه بين حياته ومسرحه وموسيقاه وسلوكه الاجتماعي والوطني، إعلاءً للعدالة. وكان الفن هو المحك، والاختبار الذي أدّى به إلى أن يكون قرباناً.
يقول جورج باتاي: "أن ننشئ عملاً أدبياً، يعني أن نولي ظهرَنا للمذلّة، وأن نتعالى على كل ما نتصوّره من وجوه الصغار، أي أن نتحدّث لغة سيادية مُترفّعة، صادرة عن الجزء السامي والسارد من الإنسان، وأن نتوجّه أخيراً إلى الإنسانية السامية".
من أشدّ التطابقات إيلاماً للمبدع، هو تطابق فنه أو أدبه مع التراجيدي، الذي سيقوده إلى إيثار البطولة على حياته الشخصية، لكي يجعل نفسه قرباناً للوجود. وهكذا عاش زياد الرحباني.