نبيل أبو غنيمة لـ"الشرق": العيون المذعورة في أعمالي صرخة غزة بوجه العالم

time reading iconدقائق القراءة - 9
الفنان الفلسطيني نبيل أبو غنيمة .(2025) - الشرق
الفنان الفلسطيني نبيل أبو غنيمة .(2025) - الشرق
باريس-علي عباس

نبيل أبو غنيمة، فنان تشكيلي فلسطيني، عاش في غزة خلال الحرب وانتقل حالياً إلى فرنسا. تتّسم أعماله باستخدام العيون المذعورة، التي يمنحها دلالات خاصة بالحالة الفلسطينية، في ظل ما يحدث من تهجير وخوف وفقدان للأمان.

تُبرز أعماله مشاعر القلق والذاكرة والمنفى، عبر لوحات رقمية وتركيبية ذات طابع معاصر، ويعتمد على مزج الرسم التقليدي بالوسائط الرقمية، لإنتاج رؤية بصرية، تعكس تجربة إنسانية فلسطينية بعمق عالمي.

 شارك في العديد من المعارض الفردية والجماعية في أوروبا، ومنها باريس، وبروكسل، وبرلين. معه كان هذا الحوار.

كيف ولدت تجربتك الفنية الرقمية في غزة، وما التحديات التي واجهتها وخصوصاً أنك أنجزت نحو 40 عملاً خلال الحرب؟

منذ أن عرفت الرسم، لم أتوقف يوماً عن الممارسة الفنية، حتى في أشدّ الحروب السابقة، لكن في الحرب الأخيرة انقطعتُ لأكثر من ستة أشهر، فقد كانت كارثيةً بشكل يفوق الوصف.

 لم أكن أمتلك الحالة النفسية ولا الأدوات التي تتيح لي التعبير. بعد انتقال مؤلم مع عائلتي، تمكّنت من استئجار مكان صغير، وبدأت باستخدام "iPad" الذي أصبح وسيلتي الوحيدة للرسم. 

تدريجياً، بدأت أرسم من جديد، لا من منطلق مشروع فني مدروس، بل كفعل مقاومة للانهيار وتنفيـس داخلي لحالة نفسية. كنُ أدوّن المشاهد التي لا تُصدّق: الخيام، صراخ الأطفال، صراع الناس من أجل الخبز، والخوف اليومي من الموت. 

تحوّلت تلك الرسومات السريعة إلى صرخات بصرية تحاول مخاطبة عالمٍ قاس. وعندما لاح في الأفق احتمال الخروج من غزة، اجتاحني شعور مرير: النجاةُ قد تكون موتاً من نوع آخر. كيف أخرج وأترك والديّ وإخوتي في قلب الجحيم؟ كيف من أهاجر دون أن أحمل معي بحري وسمائي وذكرياتي وتاريخي؟ صارت فكرة التهجير معادلة قاسية بين البقاء في الموت أو الرحيل نحو النسيان.

ما الذي ميّز أعمالك الرقمية في غزة مقارنة بمرحلة لاحقة من تجربتك خارج فلسطين؟

لم تكن تجربتي مع الرسومات الرقمية مجرّد اختيار تقني، بل كانت استجابة مباشرة للواقع الذي فرض نفسه في أثناء الحرب. وكحال العديد من الفنانين في غزة، اضطررت إلى استخدام أي وسيلة متاحة للتعبير، إذ لم تكن المواد التقليدية متوفّرة. الأدوات التي لم نكن نعتبرها سابقاً جزءاً من التجربة الفنية تحوّلت، بفعل الضرورة، إلى خامات تحمل في داخلها بُعداً مفاهيمياً جديداً. 

لم تعد الوسيلة منفصلة عن الفكرة، بل أصبحت المادة المفروضة على الفنان، مثل "الأيباد" أو البرامج الرقمية، جزءاً من بنية العمل الفني ومعناه. وهنا تكمن أهمية الرسومات الرقمية في ذلك الزمن، ليس فقط كوسيلة، بل كشهادة على واقع العجز والمقاومة في آن واحد.

ورغم أن الحرب أعادتنا قسراً إلى حياة بدائية، وجدت نفسي أستخدم أكثر أدوات العصر تطوّراً لأرسم هذا الانهيار. المفارقة أن الأداة الرقمية لم تعد مجرّد وسيلة، بل صارت جزءاً من المعنى ذاته: فن يُقاوم المحو بلغة المستقبل.

 ما هي تجربتك مع معرض "الاحتلال مدفون في أعماقنا" مع الفنانين الإيرلنديين؟

تلقيت دعوة مع بداية استقراري النسبي في فرنسا، للمشاركة في معرض تضامني بعنوان "DLÚTHPHÁIRTÍOCHT" وهي كلمة إيرلندية تعني "تضامن"، مخصّص لدعم أهالي غزة، في ظلّ المجازر والانتهاكات المتواصلة. رأيت في هذه الدعوة ضرورة ملحّة، ليس فقط بوصفها مساهمة فنية، بل باعتبارها واجباً أخلاقياً ، وخصوصاً أنني فلسطيني من غزة، عايشت واقع التهجير والخطر اليومي.

شاركتُبمجموعة من اللوحات التي أنجزتها في غزة تحت القصف والحصار، من بينها لوحة "نظرة أهل غزة إلى العالم" التي جذبت اهتمام صحف مثل "الغارديان"، لما حملته من تعبير بصري عن الغضب والخذلان والتحديق في وجه العالم الصامت. 

لم تكن المشاركة فعلاً عرضياً فنياً فحسب، بل كانت إيصالاً لصوت غزّاوي، لا يريد أن يُختزل في الألم، بل أن يُسمع بوصفه نداء للعدالة. شكّل المعرض مساحة للتواصل الإنساني والفني مع فنانين من ثقافات وتجارب نضالية مختلفة، وهو ما أتاح لي بناء جسر جديد للحوار والانتماء داخل سياق أوسع من التضامن الكوني.

 ما هي الإمكانيات المتاحة أمام الفن الفلسطيني ليحظى بمكانة أوسع على الساحة العالمية؟

يمتلك الفن الفلسطيني قوّة تعبيرية استثنائية، ووعياً استراتيجياً نابعاً من خصوصية التجربة وواقع الصراع، الذي يتغلغل في داخل الفنان وخارجه. هذا الواقع يمنحه قدرة فريدة على مخاطبة القضايا الإنسانية الكبرى التي تشغل الضمير العالمي، ليس فقط بهدف إثارة التعاطف، بل لهزّ هذا الوعي، ومهاجمة الوهم والخواء أيضاً اللذين يختبئان خلف شعارات القيم الكونية.

من هنا، يمكن للفن الفلسطيني أن يعرّي الحالة العالمية ويعيد مساءلتها، مستفيداً من التنامي الملحوظ في الوعي العالمي تجاه القضية الفلسطينية، ومن مساحات التضامن الدولي والشعبي، إلى جانب الفعاليات التي تبحث عن الرواية الحقيقية للإنسان الفلسطيني والفنان الجنوبي بشكل عام.

 كما أن بناء تحالفات مع فنانين عالميين، وطرح خطاب فني نقدي ومتجدد، يعزّز حضور الفن الفلسطيني كجزء فاعل في المشهد الثقافي العالمي، لا كحالة طارئة أو صوت ضحية، بل كصاحب رؤية وابتكار وفلسفة نقدية، تحمل اقتراحات كونية حول الحرية والكرامة والمستقبل.

يظهر في أعمالك رمز العين كثيراً، ما دلالته بالنسبة لك، وكيف يشكّل عنصراً يعكس الخوف والفزع في تجربتك الفنية؟

بعد أن عشت واقع الحرب في غزة، انفجرت في داخلي قناعة قديمة كنت أحاول طمسها بجماليات الفن: أن هذا العالم ليس كما يدّعي. كنت أدرك هشاشة الشعارات الكبرى، الديمقراطية، الحرية، حقوق الإنسان، لكني لم أتخيّل أن تعرّي الحرب كل شيء بهذه الفجاجة. 

كأنني كنت أعيش في وهم بوجود شيء من الإنسانية المتبقية، شيء من الحياء أو القدرة على التوقف، على النظر. لكن غزة كشفت لي أن العالم يستطيع أن يرى ولا يتحرك، يسمع ولا يهتز، يشهد المجازر ولا يشعر بالخجل. هذه الصدمة لم تكن فكرية فحسب، بل وجودية، زعزعت رؤيتي كفنان، كان يسعى لأن يطرح أسئلة فلسفية تتجاوز الظرفي والعابر.

ماذا يقدّم الفن في ظل الاحتلال؟

 لم أكن أركّز في أعمالي السابقة، على الرموز المباشرة أو الدلالات العاطفية، بل سعيتُ لبناء خطاب بصريّ معاصر، يتقاطع مع الأسطورة والفكر والنقد العالمي، ويُقارب الوجود من منظور فنان تحت عالم الاحتلال والسيطرة. لم أعد أستطيع التفكير كأنني خارج الحدث. وجدتُ نفسي مُجبَراً على الصراخ، على التوثيق، على أن أضع العالم أمام مرآة قسوته. تحوّلت رسوماتي إلى فعل اتهام، إلى نظرة من غزة تُدين العالم، لا تطلب عطفه، بل تُعرّيه.

العين التي تتكرّر في لوحاتي ليست أداة تعبير جمالية، بقدر ما هي شاهد متّهم. ليست عنصراً تزيينياً، بل فجوة روحية مفتوحة على الرعب. إنها تمثّل الذات المفصولة، تلك التي تنظر عندما يُغيّب الجسد. في لحظة الانهيار، يصبح الفن هو آخر ما تبقّى من الإنسان ليقول: رأيتُ، ولا أسامح.

ولعلّ هذا ما يُكسب الفن الفلسطيني اليوم قوّة كبيرة، حيث لم يعد يطلب مساحة تعبير، بل يفرض وجوده كندّ، كحقيقة، كاقتراح فلسفي مضاد للعالم؛ اقتراح يُسائل الجمال والعدالة والصمت في آنٍ واحد.

تصنيفات

قصص قد تهمك