
يحتل كتاب "هوجوكي" مكانة مهمة في كلاسيكيات الأدب الياباني. شِعر وسرد يخترقان الزمن، ويحاوران لغة الإنسان في كل العصور، ويجد القارىء فيه صدى استفساراته حول الحقائق الوجودية التي تتجاوز الماديات.
صاحب الكتاب هو الشاعر والناسك الياباني كامو نو تشومي (1153-1216)، لذلك يأخذ الكتاب في صياغته المنحى الشعري والنثري في آن، كما لو أنه نُظم في عصرنا الحالي. كذلك ليس غريباً أن تتوالى الطبعات المختلفة للكتاب كل عام، وبجميع اللغات حول العالم، آخرها طبعة فاخرة مزدوجة اللغة، فرنسية يابانية، عن دار نشر "أرمان كولان"، في يونيو 2025.
الكتاب هو عبارة عن نص تأملي كتبه نو تشوميي في القرن الثالث عشر، بعد أن خدم في العاصمة، بوصفه شاعر البلاط الرسمي، لكنه انسحب لاحقاً من المجتمع، ثم كتب هذا العمل في زمن اتسم بالحروب، والحرائق، والفيضانات، والزلازل، والجفاف، والمجاعات المدمّرة.
تحفة أدبية أراد من خلالها تشوميي أن يؤكد على فكرة عدم دوام الأشياء، وجمال الحياة الغامض، والحكمة العميقة التي يمكن أن نجدها في أحضان الطبيعة، والسلوكيات التي يجب اتباعها لتحقيق طمأنينة الذات الروحية. فهو تناول سؤالين أساسيين: "كيف يمكننا أن نجد السلام في الروح ولو كان عابراً؟ وكيف يجب أن أعيش؟
هوكوجي في الثقافة
انطلق فيه من تجربة شخصية، بعد أن اعتزل الناس، في سن الخمسين أولاً، تاركاً الزوجة والابن الطموح إلى منصب رفيع في البلاط الإمبراطوري. في سن الستين، قرّر السكن في كوخ صغير، مساحته ثلاثة أمتار مربعة بناه بنفسه. كوخ في الجبل، منه اشتق التسمية هوكوجي، التي صارت علامة على سكن خاص في الثقافة والعمارة اليابانيتين.
من خصائص ذلك البيت، أنه يقع في قلب الطبيعة المتسامية في العلو، وفيه كل ما يُبتغى من حاجات أساسية فقط، أي الحد الأدنى من الأشياء. يقولالكاتب: "والآن مع ندى الحياة، وهو على وشك التلاشي، صنعت لنفسي مسكناً ليحملني في هذه السنوات الأخيرة. أنا إذا صح التعبير، شبيه مسافر، يقيم مأوى ليلاً".
حقّق له هذا السكن الانعتاق من أسر الرغبات والأهواء، ومن العذابات والآلام، ووجد فيه ملاذاً للقراءة، والعزف الموسيقي، والتأمل في أسرار الحياة. يكتب: "رفعت سقفاً صغيراً، وربطت كل مفصل بمشبك معدني، حتى إذا لم يعجبني المكان، أستطيع نقله بسهولة إلى مكان آخر، وحين أعود إليه، أشفق على الذين يطاردون مكاسب العالم الحقيرة".
صار الشاعر حينها، كما يكتب شارحاً، يشبه السمك الذي لا يمل من الماء، كحالة لا يفهمها إلا السمك. وعارفاً برغبة الطيور في الغابة، التي لا تفهمها إلا الطيور. إنها لذّة العزلة، التي لا يدرك أفراحها سوى الذي عاشها.
مباهج لا تدوم
تتأتى هذه الأفراح من توصّله إلى أن مباهج الحياة والتعلق بالأشياء لا تدوم، فهي إلى زوال محتّم. لذلك صدّر كتابه بجملة اشتهر بها: "يتدفق النهر بلا انقطاع، لكن هل يبقى مجراه كما هو؟ الفقاعات التي تطفو على سطح مائه تختفي كلها، ثم تتكون من جديد، لكنها في آخر المطاف لا تدوم طويلاً".
ولكي يجعل القارئ يفهم هذه الحقيقة الأزلية، على الرغم من بساطتها، سرَد في الجزء الأوّل ما رآه وقاسى منه من كوارث وأهوال مروّعة، حدثت معه منذ أن بدأ وعيه يتفتح.
يقول "رأيت أموراً عجيبة، وولدت في هذه الأيام القاسية، وكان من مقصدي أن أشهد هذه المشاهد المؤلمة". عاين الكاتب الأحداث عن بعد وقرب، فعكسها كتابة وأسلوباً، بمشاعر عميقة من التعاطف والرحمة تجاه الناس ومساكنهم.
جاءت رؤيته عميقة، واهتمامه مركّزاً على الوصف الدقيق الكاشف للأحداث، يرويها ليبيّن مدى ما تسببه من خراب في النفوس والقلوب، بعبارات قوية الوقع.
ريادة التعبير
عن كارثة الحريق الكبير، كتب أن المنازل البيضاء تغوص في الدخان، وسُحب الرماد تتصاعد في السماء، محمرّة بالنيران من الأسفل، التي تلتهم في وسط هذا البحر القاني أحياء بأكملها، متنقلة بلا مقاومة على أجنحة الريح. وبفعل كارثة الإعصار، طارت المنازل في الهواء وأسقطتها على بعد عدة شوارع، فجعلت الأعواد وألواح الأسقف تدور في العاصفة، مثل أوراق الخريف.
أما هول المجاعة، فقد ملأ الطرق بالمشرّدين، وأصوات أنينهم تمزّق الأجواء، وراكمت على ضفاف الأنهار الجافة الجثث، حتى لم يعد هناك مجال لمرور الخيول والعربات.
لم يوفر الكاتب وبجرأة، نقد السلطة في زمانه، فهي وبقرار عشوائي، نقلت عاصمة الإمبراطورية، ففكّكت المباني التي انهارت وسبحت في النهر. ويبقى الزلزال أعظم الكوارث، إذ حوّل الغبار الى أعمدة كثيفة من الدخان، وجعل أصوات الهزات الأرضية تصدح، والمباني تنهار كالرعد. فمن كان في الداخل تعرّض للسحق، ومن خرج وجد الأرض تتشقق تحت أقدامه، "بدون أجنحة، لم يكن هناك مهرب إلى السماء. لو كنا طيوراً ربما كنا قد هربنا إلى الغيوم".
هذه التوصيفات المتقنة، تمّ تدبيجها قبل قرون طويلة. وهي ذاتها التي نقرأها في روائع من الأدب المعاصر، منذ منتصف القرن التاسع عشر.
الحرية الفردية
إن شهادة الكاتب الوصفية عن تلك الكوارث كمظاهر للفناء، ليست تعبيراً مجرداً عن عاطفة مفرطة أو تعبيراً استنكارياً، أو دعوة للتخلي عن كل شيء، بل سبيلاً قاده إلى الإدلاء بما يفسح كتابة على رؤيته للعالم، يكون فيها موضوع الروح في مركز الكينونة.
كان ديدنه هو البحث حول كيفية العيش لإيجاد السكينة وسط الألم. فيخلص إلى أن الإنسان لا يملك إلا أن يسعى لتحقيق حريته الفردية، وهي فكرة جديدة في ذلك العصر البعيد. كان يرى أنه يجب على الإنسان أن ينمّي إرادة قوية، تمكّنه من الحصول على طاقة يراكمها بالبحث والمثابرة في باطنه. وهي الكفيلة بمساعدته على إيجاد الحلول في النهاية.
قيلولة هادئة
سبق الشاعر تشومي فلسفات الغرب التي انبثقت مع النهضة الأوروبية بمسافات. الفرق أنه ربطها بالاعتقاد والإيمان بالقدر، الذي لا يعارض إمكانية التصرف الشخصي وتربية النفس بالمجاهدة.
كان راهباً بوذياً مقتنعاً، أنه ما دامت الحياة تحت سيطرة السماء، فلا يهم إن عشت طويلًا أم لا. "أنا لست قلقاً بشأن الموت المبكر، لأني أشبه سحابة عائمة، ولا أشتكي. يمكنني التعبير عن سعادة حياتي في قيلولة هادئة واحدة، وعلى أمل رؤية المناظر الجميلة للفصول الأربعة".
يرى الكاتب أن تاريخ البشر الماضي والحاضر والمستقبل بشكل عام هو نتاج العقل. إذ لم يكن هناك راحة بال في امتلاك الفيل أو الحصان، أو عجائب الدنيا السبع أو كنوزها، فلا معنى لامتلاك قصور ومباني ذات قصص عدّة.
شذرات مضيئة
وسيراً على هذا المنوال في تقديم النصائح، على شكل حِكم نسجها كشاعر مجرّب، يمنح الكتاب شذرات شعرية منثورة كلها إضاءات حول شتى الأمور الدنيوية والروحية، في تلازم جميل ومنطقي. يقول في إحداها: "خطرت لي فكرة. ماذا لو استطعت أن أقسم هذا الجسد إلى جزأين، جزء ليديّ وجزء لقدميّ؟ سيكون كل من الجزأين قادراً على تنفيذ الحركات التي أرغب فيها بدقة. أنتم تعرفون جسدكم وعقلكم أكثر من أي شخص آخر، لذلك تعرفون تماماً ما الذي يسبب لكم الألم. استريحوا، ثم تعافوا".
بمثل هذه النثريةالإبداعية، والأفكار السديدة والعملية، التي لا يطالها التقادم، استمر "هوجوكي" أثراً خالداً إلى اليوم.