"حجم الزمن".. عندما يصبح 18 نوفمبر يوماً أبدياً

time reading iconدقائق القراءة - 7
الكاتبة الدنماركية سولفيه بيله أثناء تسلمها جائزة مجلس الشمال الأوروبي في هلسنكي. 22 نوفمبر 2022 - رويترز
الكاتبة الدنماركية سولفيه بيله أثناء تسلمها جائزة مجلس الشمال الأوروبي في هلسنكي. 22 نوفمبر 2022 - رويترز
الدار البيضاء-مبارك حسني

"اسمي تارا سيلتر. أنا جالسة في الغرفة الداخلية المطلّة على الحديقة وكومة الحطب. نحن في 18 نوفمبر، كل مساء عند نومي، نكون في 18 نوفمبر؛ وكل صباح عند استيقاظي، نكون في 18 نوفمبر. لم أعد آمل أن أستيقظ في التاسع عشر، ولم أعد أذكر السابع عشر كما لو كان البارحة".

لم تتردد (دار كراسيه) التي نقلت رواية "حجم الزمن" للكاتبة الدانماركية سولبي بيله، إلى اللغة الفرنسية (2024)، بتذكير القارئ، بأن الكاتبة اختفت عن مجال الأدب لمدة 20 عاماً، كي تتفرّغ لكتابة الأجزاء السبعة لهذه الرواية الهائلة "حجم الزمن".

نشرت الكتاب الأوّل من السباعية على حسابها، قبل أن تتقاذفه دور النشر العالمية، وتترجمه إلى 24 لغة. كذلك قبل أن ينال جائزة مجلس الشمال للأدب الإسكندنافي، الذي وصف الكتاب بأنه "تحفة فنية في زمنها". 

ويبدو أكيداً أن موضوع اختبار سطوة الزمن على الحياة عبر الرواية، يستوجب الخلود إلى خلوة سرّية للوصول إلى حقيقته، كما قد يفعل عالِم إحيائي ينظر في مجهر، بحيث اضطرت الكاتبة إلى إيقاف هذا الزمن. لكن كيف ذلك؟ 

 تستيقظ تارا ذات صباح من يوم يحمل التاريخ المذكور أعلاه أي 18 نوفمبر، لكنها لا تغادره أبداً. توقّف الزمن بالنسبة لها، وصارت عالقة في يوم محدّد ستعيشه مراراً. فيا لها من فكرة استثنائية وقوية: حياة تُعاش كما هي من دون تغيير، عوْد أبدي. إنه أيضاً حصار مزدوج، للشخصية تارا من جهة، التي نزل عليها قدر غريب، وللكاتبة سولبي، التي نترقب بشوق كيف ستصنع من سأم يوم مكرر حكاية متسلسلة ومتنامية زمنياً.

باريس والزمن

حدث التوقّف في باريس، حيث حلت بها تارا لزيارة مزاد كتب قديمة نادرة تعود إلى القرن الثامن عشر. تخصّصت تارا وزوجها توماس في اقتنائها وجمعها وبيعها. لكن حالما غادرت غرفتها في الفندق في صباح اليوم التالي، اندهشت لرؤية شخص سقطت منه قطعة خبز على الأرض، وتردّد في إعادتها إلى الصحن أو رميها في النفايات. 

كانت متأكدة أنها شاهدت نفس الأمر بالأمس. وليتم التأكّد أكثر، كان عدد الصحيفة حين فتحتها وهي تشرب قهوتها، هو العدد نفسه الذي طالعته بالأمس أيضاً. ووصلت الدهشة أوجها، حين هاتفت زوجها توماس، الذي لم يتذكر أي شيء مما تحدثت عنه بالأمس، وهي تروي له تفاصيل زيارتها لباريس. 

لا أحد غيرها عالق في 18 نوفمبر للمرّة الثانية على التوالي، ثم لمرات أخرى تصل إلى 366 مرّة، أي عام كامل ليوم متكرر.

بدأت البطلة تارا (الكاتبة) في سرد هذه المغامرة الباطنية الفردية، انطلاقاً من المرّة 122. وهذا الرقم هو الذي تفتتح فيه الرواية من دون فصول، بل صفحات تتراوح بين الطول والقصر، تحمل أرقام الأيام المُعاشة.

 كما لو أن الأمر يتعلق بدفتر يوميات، تستخدم الكاتبة وسيلة تسمح أولاً بسرد حاضر تارا بالتفصيل، بعد أن استسلمت للوضعية الجديدة واعتادت عليها. وثانياً تسرد على طريقة الفلاش باك السينمائي، لتقصّ كل ما فعلته وما شعرت به، سواء قبل انهيار الزمن كما وصفته أو بعده. 

كل ذلك تقصّه الكاتبة من خلال مونولوغ حكائي طويل، يتضخّم ويتمدّد ويستمر من دون نهاية، عن زمن أصبح بلا محتوى، وحالة طقس ماطرة في الغالب، وقوّة العادات الروتينية، وقوّة الكلمات وهي تحاول وصف ما يحصل بدقة، وتطور علاقتها الزوجية.

تسأل نفسها: "ماذا أفعل للخروج من 18 نوفمبر؟ كيف دخلت إليه؟ هل أخطأت الباب؟ هل فتحت باب التكرارات؟ لا أدري. أنا أبحث عن المخرج..."

الزمن غير الثابت

 في انتظار انقشاع الضبابية التي تلفّها، تراوح تارا في مكان لا يمتّ بصلة إلى مفهوم الوقت. لا يحدث جديد على الإطلاق، سوى ما حدث بالأمس. وما يحدث في اليوم المتكرر يُمحى كأنه لم يكن. تجعلنا الكاتبة نستطلع حينها حالة اندهاش وذهول وغموض، حيث يعود اليوم دائماً إلى نقطة البداية. فلا تفتأ تلقي السؤال: "هل يُطفأ الزمن خلال الليل؟ وهل الماضي والمستقبل يختفيان أثناء النوم؟"

الغريب أن اليوم المتوقف ليس ثابتاً أيضاً. فبالرغم من ذلك، ما تزال تارا في علاقة بالعالم المادي، يؤثر فيها وتتأثر فيه بشكل مختلف. تتبع الأشياء أنماطاً مختلفة، وكأن الأشياء نفسها في حالة شك، أو كأنها تتردّد وتتأرجح بين الاحتمالات المختلفة. تمضي بالتوازي بين الزمن الذي مضى والزمن الذي عاد.

لقد نمت أظافرها، وشعرها استطال قليلاً، والوجه اعتراه تغيير طفيف. وفي الوقت نفسه اختفت أشياء ما بين الأمس والغد الذي يليه. مثلاً أشياء تمّ شراؤها ووضعها في الثلاجة، تختفي بعد أربع وعشرين ساعة، لتلتحق بأماكنها السابقة في محلات التسوّق. 

 إلا أن تارا هي الوحيدة التي تشعر بذلك، إذ حاول زوجها مجاراتها في كل يوم/كل مرّة، حتى لم يعد الأمر ممكناً. كانا في "عالمين مختلفين" مرّ 27 يوماً بعد الحادث، ولم يستطع الزوج فهم ما حدث. وطالما أنه يعيش في زمنه العادي، فهي قررت الانعزال في عالم خاص بمفردها. 

الكون الموازي 

أقامت تارا في المنزل نفسه، لكن في غرفة في الأسفل، مكان تستطيع من خلاله أن تعيش التجربة من دون علم زوجها. تقول الكاتبة: "لم أجد مخرجاً من يوم 18 نوفمبر، لكني وجدت طرقاً ومسالك داخل اليوم. ممرّات ضيّقة وأنفاق يمكنني التحرك خلالها. لا أستطيع الخروج، لكن يمكنني إيجاد طرق للدخول".

هنا تأخذ المغامرة جانبها الفلسفي المثير، لأن اختبار قوّة الزمن يتم في العزلة، وعبر صيرورة يومية لا يمكن التعبير عنها، سوى بالكلمات الحاملة للنفَس الشعري التأملي، الوحيد القادر على وصف حلقة زمنية لا تكف عن الدوران، وتفرض تعلم الحياة بشكل مختلف، ما بين الأمل واليأس، المبادرة والجمود، الصبر والتمرّد. 

يرافق القارئ الكاتبة في دوامتها، فيشعر بها بدوره، مكتشفاً بشكل غير مسبوق أدق الاختلافات وأكثرها إثارة في عملية التكرار والرتابة. إن ذلك هو هدف الكاتبة بالضبط: أن يكون فعل القراءة هو ما يكشف الأمور، وليس تسلسل أحداث مشوّقة بانتظار نهاية ما، مفاجئة أو سعيدة أو طريفة. 

 لذا ليس غريباً أن تقول عن الكتاب صحيفة "لا تريبيون دو جنيف السويسرية: "إنه كتاب شاسع المعنى ورائع. وبالانغماس في الوضع الذي تعيشه تارا، ومتابعة مسارها الداخلي بكثافة، لا يعرف القارئ أكثر مما تعرفه هي".

أما صحيفة "نيويورك تايمز"، فوصفت الكتاب بأنه" أعاد تصوّر السرد الحلقي الزمني".

هكذا تبدو الرواية عملاً فريداً يجمع بين أصالة الفكرة وجرأة التجريب. نصّ فلسفي آسر في جاذبيته، يجعل من المُستعاد باستمرار، جوهراً لجمالياته الخاصة. إنه مرآة وجودية تعكس الوحدة والخوف من الفقد، وتستقصي التعثرات والتحوّلات والأوهام التي ترافق انسياب الزمن، وفكرة الخلود.

تصنيفات

قصص قد تهمك