
من يقرأ تاريخ البطالمة الذين حكموا مصر، ما بين وفاة الإسكندر الأكبر عام 323 ق.م، وانتحار كليوباترا السابعة عام 30 ق.م، يدرك سريعاً أن الحقيقة قد تكون أحياناً أكثر وحشية من الخيال.
فكل ما يروى عن قصور آل لانستر في "صراع العروش"، أو جرائم آل هاركونن في "الكثيب"، يبدو مشهداً وديعاً أمام ما حدث فعلياً في قصور الإسكندرية البطلمية.
هذا ما يؤكده المؤرخ البريطاني لويد لويلين- جونز في كتابه الجديد "الكليوباترات: ملكات مصر المنسيات". فهو يعيد رسم صورة العائلة المالكة، التي اشتهرت بالترف المفرط، والتشابك الدموي للعلاقات الأسرية، والمؤامرات التي أكلت أبناءها.
يقدّم الكتاب رؤية تاريخية جديدة، معتمدة على المصادر القديمة، ويكشف كيف أن كل واحدة من "الكليوباترات"، كانت قوّة سياسية مستقلة، تتحكم بأغنى دولة في العالم القديم، وتستحضر ممارسات الآلهة المصرية والإغريقية في السلطة والزواج.
هدية ميلاد
من أبرز القصص التي يوردها الكتاب، مشهد يكاد يجمّد الدم في العروق. عام 130 ق.م. احتفلت كليوباترا الثانية بعيد ميلادها الخامس والخمسين في قصرها بالإسكندرية. وبينما كانت الهدايا تتقاطر عليها من أنحاء العالم، من منسوجات الهند إلى طيور نادرة، وصلت هدية غريبة: صندوق ضخم من خشب الأبنوس.
أمرت الملكة بفتحه، لتجد داخله بقايا ابنها الصغير ممزّقة الأوصال. لم يكن ذلك إلا "تحية" من زوجها السابق وشقيقها بطليموس الثامن فيكسون، الذي لم يتردد في إرسال جسد ابنهما المشترك إليها كأبشع هدية ميلاد في التاريخ.
ورغم فداحة الصدمة، لم تنهار الملكة. سارعت إلى عرض الجثة الممزقة على العامة "لتأجيج غضب الشعب ضد خصمها"، كما يورد مؤلف الكتاب، في مشهد يلخّص ببلاغة مأساوية كيف كان الدم أداة سياسية يومية لدى البطالمة.
سبع كليوباترات
يوضح لويلين- جونز أن كليوباترا السابعة، لم تكن الوحيدة التي حملت اسمها، فقد سبقتها ست نساء قويات في السلطة، كل واحدة منهن كانت محوراً للسياسة في عصرها. كما واجهت كل واحدة منهن مؤامرات واغتيالات، وزواج الأقارب لضمان استمرار الأسرة في السلطة.
كليوباترا الأولى تزوجت بطليموس الثاني وحافظت على نفوذها في بلاط مصر المبكر. بينما شهدت كليوباترا الثانية مأساة ابنها وطبقت سياسة الدم والقوة في مواجهة خصومها.
أما كليوباترا الثالثة، فوصفتها المصادر بأنها محاربة لا تعرف الرحمة، وحرصت على النفوذ حتى على حساب دماء عائلتها.
أما كليوباترا الرابعة، فقد قُتلت بأمر شقيقتها تريفينا، حيث تشير المصادر إلى أنها تشبثت بتمثال طلباً للجوء، لكن الشقيقة أمرت بقطع يديها، لتصبح السلطة أداة دمويّة، فيما استخدمت كليوباترا تريفينا الخديعة والقتل لضمان سيطرتها. ووصفت بأنها واحدة من أشرس النساء في التاريخ البطلمي. أما كليوباترا الخامسة والسادسة، فقد لعبتا أدواراً أقل شهرة، لكنهما حافظتا على توازن القوى داخل البلاط وكن جزءاً من التوريث الدموي للسلطة.
باسم السلطة
يشدد لويلين- جونز أن زواج الإخوة والأخوات، أو حتى الآباء من بناتهم، كان يُنظر إليه كوسيلة لحماية "نقاء الدم" ومنع تسرّب السلطة إلى خارج الأسرة. كما أنه استلهام مباشر من أساطير الآلهة المصرية والإغريقية: إيزيس وأوزيريس، زيوس وهيرا.
يكتب المؤرخ في كتابه: "كانت الحرية المطلقة في الانغماس في الشهوات جزءاً من هوية البطالمة. كانوا يرون أنفسهم فوق القوانين، كما لو كانوا آلهة على الأرض".
يوضح النص أن الملكات السبعة، بدءاً من كليوباترا الأولى وصولاً إلى كليوباترا السابعة، كنّ قوة سياسية هائلة. كل واحدة منهن سيطرت على السلطة المطلقة، وكان تركيزهن على الهيمنة والنفوذ بلا هوادة، ما أدى إلى أعمال خيانة وعنف وقتل مذهلة.
الترف والسمنة... لغة القوة
من العناصر اللافتة التي يركز عليها الكتاب، فكرة "الترف المفرط"، الذي اعتبره البطالمة أنه معيار التفوّق السياسي. لم تكن السمنة دليلاً على المرض. على العكس كانت دليلاً على النجاح. فجسد ضخم، يفيض بالشحم، كان علامة على أن صاحبه يملك فائضاً لا ينفد من الغذاء والمال والقدرة على المتعة.
بطليموس الثامن، الذي لقّبه أهل الإسكندرية بـ"الكارثي" بدلاً من "المحسن"، كان أقرب شبهاً – كما يشير لويلين جونز – "بالبارون هاركونن في "الكثيب" أو بجابا الهات في "حرب النجوم": جسد متضخم بالكاد يتحرك، لكنه يرمز إلى نفوذ وهيمنة لا يجرؤ أحد على تحديه".
شراسة خلف الستار
رغم طغيان صورة كليوباترا السابعة في الأدب والسينما، يوضح الكتاب أنها لم تكن سوى حلقة أخيرة في سلسلة طويلة من الملكات، اللواتي حملن الاسم نفسه، ولعبن أدواراً سياسية قاسية.
من بينهن كليوباترا تريفينا، التي لم تتردد في إصدار أمر بقطع يدي شقيقتها كليوباترا الرابعة، وهي متشبثة بتمثال للإلهة أرتميس طالبة اللجوء المقدس. المشهد يذكّرنا، كما يقول المؤلف، بمدى "قدرة السلطة على تحويل أواصر الدم إلى خناجر".
أما كليوباترا السابعة نفسها، فصورتها الحقيقية، كما يصفها لويلين-جونز، ليست تلك التي جسّدتها إليزابيث تايلور أو كلوديت كولبير. لم تكن جمالاً أسطورياً بقدر ما كانت كاريزما آسرة.
يقول: "كانت امرأة تتقن لغات عدة، محنكة في الدبلوماسية، قادرة على أن تجعل العيون تلتفت إليها فور دخولها أي مجلس. ولم تكن مجرد عاشقة ليوليوس قيصر ومارك أنطوني، كما تم تصويرها الأدب والفن، بل وريثة خط طويل من الملكات الدمويات والشرسات، اللواتي كن يسيطرن على مصر بكل حزم ودهاء سياسي".
يخلص الكتاب إلى أن بلاط البطالمة كان مسرحاً لا نهائياً من الدراما، تتقاطع فيه السلطة مع الطموح والدم. وإذا كان شكسبير قد خلّد كليوباترا بعبارة "الخلود على شفتيها"، فإن لويلين- جونز يعيد وضعها في سياقها الواقعي: وريثة خط طويل من ملكات دمويات وشرسات، لم يكن لهن أن يتركن شيئاً للصدفة في صراع البقاء على العرش. إن تاريخ البطالمة يبرهن أن الواقع يمكن أن يكون أعجب من أي رواية".