"الرجل الذي أحب الكتب" ونسي معنى الفراغ

time reading iconدقائق القراءة - 7
الكاتب الكندي باتريك دويت. 1 ديسمبر 2015 - @EricLuke
الكاتب الكندي باتريك دويت. 1 ديسمبر 2015 - @EricLuke
الدار البيضاء-مبارك حسني

للكتابة قدرة خارقة على نفخ الروح في ما يبدو خامداً، وعلى بعث الحياة في الأشياء التي فقدت بريقها وبهتت.

 بقوة الحروف وحدها، يصير الفاتر متوهّجاً، والباهت  مفعماً بالظلال والتفاصيل. وحتى الإنسان الذي يظنه الجميع بلا أهمية، منزوياً في الهامش، تستطيع الكتابة أن تمنحه حضوراً، وتُظهر عمقاً لم يكن مرئياً. 

تلك حال السيد بوب كوميت، في رواية "الرجل الذي أحب الكتب"، الصادرة عن منشورات "أكت سود" الفرنسية (2025)، الذي يتمتع بسيرة جذابة وغريبة، يجد فيها القارىء فائدة ومتعة.

الكُتبي السعيد

يتعرّف القارىء على بوب الانطوائي المتواري دائماً خلال عامي 2005 و 2006، وقد بلغ الواحدة والسبعين من عمره، بعد أن تقاعد من سنوات عمله كأمين مكتبة بلدية في بورتلاند الأميركية. 

هذه المهنة التي لم تكن سوى وظيفة بلا ألق ولا إثارة، اختارها طواعية عقب نجاحه في الثانوية العامة، لأنه تعلق بالقراءة. فملكت نفسه ووقته، بحيث لم يعد يعرف ما هو وقت الفراغ. 

حين استفسرته أمه، وهو شاب، عن طموحه كي يكون كتبياً لا غير، أجابها: لا أعرف. ولمَ لا أكون كتبياً؟ هكذا أنفق 50 خلف مكتبه في الظل، يعير الكتب لروّاد المكتبة، ويوزّع نصائحه حول القراءة لكل من يودّ ذلك، بهدوء لا يعرف الكلل.

ها هو الآن عجوز متصالح مع ذاته، سعيد في منزله الذي بلون خضرة النعناع، لا يخرج إلا لاقتناء ما يلزمه، أو ممارسة رياضة المشي.

امرأة بلا ذاكرة

حدث أن أثارت انتباهه، خلال إحدى جولاته الطويلة، امرأة مسنّة في متجر، وقفت طويلاً تحدّق في ثلاجة بلا حراك. لم يجد صاحب المتجر طريقة لإخراجها منه، فتكفّل بوب، المُستعد دوماً لتقديم الخدمة، بإعادتها الى إقامة خاصة بالعجزة، بعد أن اكتشف عنوانها على بطاقة هوية معلق في عنقها. 

هناك التقى نزلاء مسنّين، من بينهم شخص مُقعد بكرسي لا يفارق التلفاز، ولا يكف عن التعليق والصراخ. كذلك كانت هناك امرأة لا تفارق لعبة الألغاز (البازل) طيلة اليوم. 

اقترح على مسؤولة الدار أن يتطوّع لتقديم حصص قراءة يومية، تضم نصوصاً مختارة للنزلاء ترفيهاً لهم. لكنه حالما شرع في قراءة أول نص، وهي قصة "القط" لإدغار ألان بو، انسحب الكل إلا امرأة فاقدة للذاكرة لم يتعرّف عليها إلا بعد أن سأل عن اسمها. 

لكن المفاجأة كانت أن السيدة لم تكن سوى زوجته السابقة كوني، المرأة الوحيدة التي عرفها في حياته، وعاش معها طيلة سنتين، قبل أن تترك بيت الزوحية، لترتبط بزواج ثانٍ. 

حصل التعارف بينهما في المكتبة، حيث كان يعمل. كانت ترافق والدها العاشق للكتب والمخبول. في هذه المكتبة أيضاً، التقى أول مرّة بصديقه الحميم الوحيد، إيثان، زير النساء الضحوك أبداً، على العكس منه تماماً. 

تعرّف هذا الأخير على كوني هو أيضاً، عن طريق الصدفة في الباص، لما رآها تقرأ كتاباً كان سبق أن استعاره من المكتبة ذاتها. كتاب "الجريمة والعقاب" لدويستوفسكي.

 يقول : "سحبت من حقيبتها كتاباً، رأيت أنه من المكتبة، وليس أي كتاب، بل "الجريمة والعقاب"، وليس أي نسخة منه، بل بالتحديد تلك التي كنت قد استعرتها، بالعنوان الملطّخ والبقعة على الغلاف الخلفي". 

من الصمت بدأ كل شيء

من مكتبة عمومية، تمّ تأسيس حياة كاملة لبوب، من خلال ارتباطه بهذين الشخصين الحميمين. أي انطلاقاً من مكان، قانونه الأساس هو توخي الوحدة والتزام الصمت المقدّس، الذي يجب أن يسود في المكتبة، وللانسان كامل الحرية أن يفعل بصمته ما يريد.

بين جدران "مطلية" بالكتب إلى حد السقف، عرف الحب والصداقة والغيرة وأشياء أخرى.

هنا تبدو قوّة الخيال الذي مكّن هذه الرواية من النجاح. فمن صدفة منتقاة ومنطقية، إلى صدف أخرى عديدة وفريدة، تتسلسل أحداث ظاهرها عادي، وباطنها ذي أثر محدد وحاسم على ما سيأتي بعدها. وهو ما يمنح للكل وحدة لا تُدرٓك إلا بعد قراءة آخر جملة من الرواية. 

الكاتب باتريك دوويت، تخيّر أفقا زمنياً متغيراً غير متتالي. فبعد اللقاء ببوب عجوزاً، سيأخذ الكاتب بيدنا لنرافقه خلال سنوات حياته الأولى برفقة والدته العزباء، في فصل "سنوات 1942-1960".

بعد ذلك وبالعودة إلى سنة 1945، سنراه طفلاً في الحادية عشرة من عمره، فرّ من البيت، وهو برفقة سيدتين تنتقلان من مدينة الى أخرى لتقديم عروض مسرحية فكاهية ترفيهية للعمّال والمزارعين الخشنين، برفقة كلبين صغيرين مروّضين. 

 أخيراً يعود بنا الى نقطة البداية، بعد أن تكفّل شرطي ظريف ولطيف المعشر، بإعادته إلى أمه قائلاً له : "أنا أيضاً فررت من منزل والديّ لما كنت في سنّك، لكن أنا، لا أحد أعادني إليه، حتى اللحظة".

لامبالاة 

تمنح الرواية سرداً دائرياً، فتنتهي من حيث تبدأ، لتؤكد أن حياة بوب كوميت، هي عبارة عن حلقة بأحداث فاصلة لها حظها من كل ما هو مأساوي. لكنها في الوقت نفسه، مُفرغة من الوسط.

 أي أن القدر يسقط على جسد بوب، فيحزن ويخفق قلبه، ثم ما يلبث في لحظة خاطفة ينسى ليستمر في عيشه، كأن شيئا لم يقع. يكتفي في العديد من المواقف بهز كتفيه، كعلامة دالة على نمط عيش لا إرادي.

 قالت له إحدى السيدات أن "هزّ الكتفين وسيلة جواب مفيدة وجذّابة؛ لكن وبما أننا لا نملك سوى سهم واحد في جُعبتنا، لا ينبغي الإفراط في استخدامه، لئلا نعطي انطباعاً مغلوطاً بأن عقلنا فارغ. أفهمت ما أعنيه؟" 

هكذا هو بوب، إنسان بلا تعاسة، وبلا حزن، وفيّ لعاداته المتمحورة حول القراءة. لقد عاش أغلب سنواته بالوكالة عبر الأدب، إذ غاص أولاً في حكايات المغامرات، ثم اتجه لاحقاً نحو الموضوعات الأدبية الأساسية المتعلقة بالفقدان، والموت، والحزن، والاغتراب البشع. 

كل ذلك جعل الحياة خارج الكتب حين اضطر للخوض فيها، مجرد وقفة أو وقفات في مسير لم ينل منه الكثير. 

لقد أنقذته الكتب وسيرة الأناس المتخيّلين في ثناياها من قسوة الواقع. وتدل الفقرة التي تصف مراسم جنازة والدته على تخفّفه من أعباء الحياة. كان جسد والدته مسجّى في تابوت نصف مفتوح، يظهر منه بعض من شعرها، وركن صغير مظلم من وجهها"، فاندهش لمرآها، ولكون التابوت غير مقفل، وسأل عن الأمر، فقيل له بأن المرحومة هي من أوصت بذلك. حينها عقّب قائلاً :"أرادت أن تلقي نظرة صغيرة فحسب". 

وُلد باتريك دوويت سنة 1975 في سيدني، كولومبيا البريطانية (كندا)، ويقيم حالياً في بورتلاند، ولاية أوريغون. وصلت روايته  "الأخوة سيسترز" (2012) إلى المرحلة النهائية لجائزة "مان بوكر"، وحوّلها المخرج الفرنسي جاك أوديار إلى فيلم سينمائي سنة 2018.

تصنيفات

قصص قد تهمك