
لو كان للأصابع لسان، لروت حكاية مشغلٍ صغير وُلد في قلب فلورنسا. نما عبر 75 عاماً، حتى صار مدرسة ثم مؤسسة ثقافية واقتصادية، ترمز إلى ما يمكن أن تفعله اليدُ، حين تمتزج الحِرفة بالكرامة والإيمان بالجمال.
إنها مدرسة الجلد الفلورنسية "Scuola del Cuoio"، التي أسسها مارتشيلو غوري عام 1949. أصبحت بمرور العقود، رمزاً للمثابرة والإبداع الإنساني، ومثالاً حيّاً على تلاحم الفن بالصناعة، والحلم بالمسؤولية الاجتماعية.
وكما يقول الفيلسوف جوردانو برونو، فإن اليد هي "أداة الأدوات". لأنها تُمكّن الإنسان من تحويل الفكر إلى فعل، ومن خلالها يتجسّد الذكاء في المادة. إذ يستطيع الإنسان أن يبني ويُبدع ويُغيّر ويصنع الأدوات والأشكال، مُفعِّلاً الطاقة التي تُحرّك الكون. واليد، في نظره، هي الوسيط بين العقل والطبيعة والنقطة التي يتحوّل فيها الفكر إلى وجود ملموس.
البدايات: مشغل لإعادة الكرامة
كانت إيطاليا، الخارجة من أُتون بعد الحرب العالمية الثانية، تجتاز نفق ظلمة طويلة. وكان على فلورنسا، المدينة التي أنجبت عصر النهضة. أن تعيد بناء ذاتها الممزّقة بالحرب وتداعياتها.
في ذلك الزمن المضطرب بالذات، تفتّقت في ذهن مارتشيلو غوري فكرة نبيلة. أن يُنشئ مشغلًا صغيراً للأطفال اليتامى والمتضررين من الحرب، يُعلّمهم صنعة، تُمكّنهم من العيش بكرامة، وتعيد إليهم الإحساس بالجدوى وبالأمل.
استعان غوري بالرهبان الفرنسيسكان في كنيسة سانتا كروتشيه، الذين وثقوا برسالته واحتضنوا مشروعه، لأنه جمع بين الرأفة والعمل، وبين الصنعة والتربية.
من هنا وُلدت مدرسة الجلد، حيث تحوّلت الجلود من مادة للحرفة، إلى رمزٍ للصمود والشفاء، ووسيلة لبناء الإنسان من جديد.
من ورشة إلى مدرسة وعالم
في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، غدت مدرسة الجلد واحدة من أبرز معالم فلورنسا الثقافية والاقتصادية. ومع أن موجة التصنيع الآلي غزت الأسواق، وأقصت العديد من الورش الحرفية، اختار مارتشيلو غوري طريقاً آخر: المقاومة بالمهارة والابتكار.
ابتكر نموذجاً اقتصادياً فريداً، جمع فيه بين التعليم والإنتاج والتجارة في حلقةٍ واحدة. يتعلم الطلاب الصنعة من خلال الممارسة اليومية، ثم تُعرض أعمالهم في السوق لتوفّر دخلاً يضمن استمرارية المدرسة واستقلالها.
هكذا تحقّق التوازن بين الفن والعمل، وبين الإتقان الاقتصادي والرؤية الإنسانية، لتصبح كل قطعة تُصنع هناك، رسالة عن الوفاء للتقاليد وللجمال الإنساني في آن.
التحدّيات التي واجهت الحِرفة
لم يكن الطريق معبّداً بالنجاح وحده. فمنذ عقودها الأولى، واجهت المدرسة سلسلة من المحن التي اختبرت متانتها وقوة إيمانها برسالتها. في الرابع من نوفمبر عام 1966، تعرّضت فلورنسا لكارثة طبيعية كبرى، حين فاض نهر الآرنو وغمر المدينة كلها بالمياه والطمي.
اجتاحت السيول أحياءها ومعالمها التاريخية، وغرقت مكتباتها وكنائسها. كانت منطقة سانتا كروتشيه، حيث تقوم المدرسة، من أكثر المناطق تضرراً. تحطّمت الآلات، وتلفت المواد الخام، وغرقت المخطوطات والنماذج القديمة في الوحل، لكن إرادة الحرفيين والطلاب انتصرت.
في تلك الأيام القاتمة، حين كانت رائحة الطين تختلط برائحة الجلد، تحوّل المشغل إلى ورشة إنقاذ، وشارك الأساتذة والتلاميذ معاً في تنظيف المكان وإعادة الحياة إليه.
ولدت المدرسة مرّة ثانية من قلب الكارثة، وخرجت من فيضان الآرنو أقوى وأكثر إصراراً على الدفاع عن الحرفة بوصفها شكلاً من أشكال المقاومة الإنسانية. ثم جاءت تحديات العولمة في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، لتفرض إيقاعاً جديداً على الأسواق، وتجعل الإنتاج الصناعي الرخيص ينافس الإبداع اليدوي النادر.
حينها اختارت المدرسة أن تواجه بالتميّز لا بالكمّ. تمسكت بفكرة الجودة والتأنّي والإتقان، من دون اعتبار البطء عيباً بل جوهر الجمال نفسه. وواجهت أيضاً تحدّي تجديد الأجيال، إذ لم يكن من السهل أن تُقنع شاباً في زمن السرعة بأن يقضي سنوات في تعلّم الصنعة خطوة بعد خطوة.
لكن المدرسة وجدت في هذا التحدي فرصة لتوسيع أفقها. فتحت أبوابها لطلاب من مختلف أنحاء العالم: اليابان وأميركا والبرازيل وكوريا. كل هؤلاء جاءوا إلى فلورنسا ليكتشفوا بأن الفن لا يُورث فقط، بل يتعلمه الإنسان بالصبر، بالعين واليد معاً.
نموذج اقتصادي إنساني مستدام
لم يكن نجاح مدرسة الجلد قائماً على الجمال وحده، بل على توازنٍ دقيق بين التعليم والإنتاج والاستقلال المالي. فهي لم تتحوّل إلى مؤسسة تجارية بحتة، بل بقيت وفيّة لرسالتها التربوية والثقافية، مستندة إلى ثلاثة مبادئ أساسية:
- تكوين مهني رفيع المستوى في صناعة الجلود الراقية، يجمع بين التقنية والدقة والإبداع.
- إنتاج داخلي مستمرّ يتيح للطلاب تعلّم الصنعة عبر التجربة، ويُسهم في تمويل المدرسة ذاتياً.
- انفتاح ثقافي وشراكات فنية وتجارية مع علامات عالمية ومؤسسات ثقافية، مع الحفاظ على الهوية الفلورنسية الأصيلة.
بهذا المعنى، تشكّل المدرسة نموذجاً لما يمكن تسميته بـ"الاقتصاد الدائري ذي الطابع الإنساني". اقتصاد يستثمر في الإنسان قبل المادة، ويقيس القيمة بما يبقى في الوجدان، لا بما يُسجّل في الأرباح.
الإرث والتجدّد
تحت إدارة بنات وأحفاد مارتشيلو غوري، تواصل المدرسة اليوم رسالتها بروحٍ جديدة تجمع بين الأصالة والتحديث. تعمل في مبنى تاريخي تتجاور فيه الأروقة القديمة مع أدوات التصميم الرقمي، وتتعايش الحرفة التقليدية مع تقنياتٍ معاصرة تضمن الاستدامة البيئية وجودة الإنتاج.
ورغم أن التقليعات والعلامات التجارية العديدة تُغرق الأسواق بسيلٍ من المنتجات العابرة، فإنّ مدرسة الجلد الفلورنسية تبدو كأنها جزيرة من الهدوء والإتقان. تقول للعالم إن الفخامة الحقيقية ليست في الكلفة، بل في الروح، وإن القيمة ليست في الشعار، بل في اللمسة.
مستقبل جذوره في الذاكرة
75 عاماً مرّت، وما تزال هذه المدرسة شاهداً على معجزة إنسانية واقتصادية نادرة. كيف يمكن لحلمٍ صغيرٍ بدأ بإيواء الأيتام، أن يصبح صرحاً عالمياً للحرف اليدوية والفكر الإنساني.
إنها اليوم أكثر من مؤسسة تعليمية. إنها رمز للثقة في الزمن، وللإيمان بأن اليد التي تصنع يمكن أن تغيّر العالم. ربما لو نطقت الأصابع التي اشتغلت هناك، لقالت إن في رائحة الجلد، وصوت المقصّ، وضوء فلورنسا الذي يتسلل عبر نوافذ كنيسة سانتا كروتشيه، يسكن سرّ واحد، هو أن "الزمن لا يُقاس بما يمرّ، بل بما يُصان ويُخلّد".








