
في كتابه الصادر حديثاً "البشر والسحالي" لا يقدم الروائي المصري حسن عبد الموجود القصة القصيرة شديدة الاختزال، بل يتعمد تقديم "وجبة دسمة"، أو قصص طويلة مشبعة، عن الحياة المسحورة في إحدى قرى الصعيد المهمشة الفقيرة.
يخطو عبد الموجود نحو عالمه عبر بوابة الصراع الأزلي بين الإنسان والحيوان، لاقتناص الطعام، والسيطرة على الأرض، ليقدم للقارئ عالماً متكاملاً، فيه الواقع والأسطورة والحكايات الشعبية.
وحسن عبد الموجود هو روائي وقاص مصري، من مواليد صعيد مصر عام 1976، قدم لقرائه 3 روايات هي "ساق وحيدة" عام 2002، و"عين القط" عام 2003 فازت بجائزة ساويرس عام 2005.
بالإضافة لرواية "ناصية باتا" في 2011، ثم غادر الرواية مفتوناً بالقصّ لينشر مجموعتين قصصيتين هما "السهو والخطأ" عام 2016، و"حروب فاتنة" عام 2018 وهي المجموعة التي نالت جائزة يوسف إدريس للقصة القصيرة عن المجلس الأعلى للثقافة في 2019.
احتفاء بالقصة القصيرة
يسير عبد الموجود نحو عالم القصص مغادراً الكتابة الروائية إلى حين، كما يقول في مقابلة مع "الشرق": "أكتب القصة وفق وعي يخصني، وضد الفهم الخاطئ لفكرة التكثيف في فن القصة القصيرة. البعض يفهم التكثيف بمعنى قلة عدد كلمات القصة، ومع هذا التمادي في الاختزال، وكذلك في ظل الابتعاد عن رسالة ما لهذا الفن، والاكتفاء بالتجريب في ألاعيب وحيل اللغة والبناء، ومحاولة كتابة نوع من الحكمة تصلح للاستخدام كمقاطع محببة لجمهور السوشيال ميديا".
وأشار عبد الموجود إلى أن القصة "خاصمت الواقع، وتعاملت مع الحكاية بنوع من التعالي الشديد، كما مالت إلى التجريد وأصبح الوضوح (ولا أعني هنا المباشرة) نوعاً من التهمة بالنسبة لها، ولم تعد مشبعة لقارئها، وكأن طول القصة عيب أو سُبة، يجب أن نهرب منه نحن الكتاب، وإلا فسنكون كلاسيكيين، وهذه تهمة أخرى لا أتبرأ منها".
وقدم عبد الموجود في مجموعته 10 قصص طويلة، يكاد القارئ يشعر معها أنه يقرأ روايات قصيرة، يقول: "دخلت هذا التحدي بيني وبين نفسي، بعد مناقشة مع صديقي الشاعر والروائي أحمد شافعي، قال لي إن الناس ببساطة في حاجة إلى أشخاص من لحم ودم، إلى حكاية، وإلى سرد بسيط وجميل وممتع، وإلى عدم إغفال كثير من التفاصيل المهمة تحت ضغط الاختزال. كان التحدي أن أكتب قصة طويلة قد تتجاوز في بعض الحالات 30 صفحة، بشرط أن تحقق نوعاً من المتعة يدفع القارئ لإكمالها حتى السطر الأخير".
مع ذلك لا يرفض عبد الموجود "قصة اللحظة" التي تعد الشكل المهيمن، قائلاً: "أنا مع التجريب، لكن التجريب المبني على فهم، وهو موجود عند كاتبين أو 3 على أقصى تقدير، أما التجريب الذي يصل بالناس إلى القطيعة مع هذا النوع الأدبي بالكامل، وتشعر معه أن النص منقوص، وهو الشكل السائد منذ عقود وإلى الآن، كأن هناك وصفة يتم تعميمها في الخفاء، فهذا ما لا يعجبني".
ويتابع: "في حديث لي مع أحد الكتاب قال إنه كتب مجموعة قصصية للاستراحة قليلاً من عناء الرواية، واستخدم تعبير (بسطة السلم) التي يستريح عليها أثناء الصعود، وقد كانت كلماته أبلغ دليل على التعامل باستهانة مع القصة، كأنها كافتيريا صغيرة داخل مدينة الرواية، وقد أردت التعامل مع القصة باعتبارها فناً يستحق الاهتمام ببساطة دون أن أقع بدوري في فخ تمجيدها دوناً عن الفنون الأخرى".
يُرجِع عبد الموجود هذا الشعور بالاستهانة إلى ظروف كثيرة سادت الأوساط الأدبية، لكنه يشعر أن هذه النظرة بدأت تتغير مع عودة الجوائز الأدبية، فمعها عاد الاحتفاء بالقصة القصيرة من الناشرين، يقول: "لكن لا يزال هذا الأمر يحتاج إلى جهد من الكتاب في الاهتمام بهذا الفن".
برغم هذا الدفاع المحموم عن جماليات فن القصة، إلا أن عبد الموجود لا يستسلم بشكل كامل لقواعد بناء القصة، إذ تشترك كل حكايات الكتاب في تيمة واحدة وهي اقتسام البطولة بين البشر والحيوانات والصراع الدائر على الطعام.
وتجري أحداثها جميعاً في مكان واحد هي قرية صعيدية فقيرة، الأمر الذي يُشعرك أنك أمام نص يقع بين رواية الأصوات المتعددة وبين المتوالية القصصية، يقول عبد الموجود: "لو كنت مهتماً بالتصنيف، فبقليل من الانتهازية (والتعبير لأحمد شافعي) كان يمكن أن يتحول هذا الكتاب إلى رواية، كان سهلاً عليَّ أن أفعل ذلك، كأن أدفع كل حيوان إلى حكي قصته مثلاً في رواية أصوات، لكني حين أريد العودة لكتابة الرواية عموماً بعد غياب لأكثر من 10 سنوات، لا بد أن أعود من الباب الكبير، وأن أتفرغ لكتابتها بمنطقها، وليس ليّ عنق نوع أدبي ليصير نوعاً آخر".
يرفض عبد الموجود كذلك توصيف البعض لنصوصه بأنه متتالية قصصية قائلاً: "لم أحب وصف الكتاب بالمتتالية القصصية، أنا لست مهتماً بالتصنيف أصلاً، أو أن أخضع لنمط محدد في الكتابة، يقول لي أحدهم: أنت تكتب متتالية، كأنه يمنحني صكاً أو نجمة، فأسأل نفسي: وماذا عليّ أن أفعل إذن؟ فقط يصدف أني أردت تصوير الصراع في هذه القرية، بين البشر والحيوانات، وأردت أن تكون حلبة الصراع مكاناً واحداً، هو أرض قرية خارجة من الأساطير، وكان من الطبيعي في مكان واحد أن يتكرر ظهور الأطفال (القتلة الصغار) والحيوانات والطيور والفراشات وحتى ذلك الصبي الذي كان بطلاً لمعظم القصص. كنت أريد أن أعبِّر عن حالة تلبَّستني، وهي تأمُّل الحياة الفقيرة القائمة على توازنات رهيبة بين البشر والحيوانات".
ويتابع :"طالما وُجد الطرفان سيوجد الصراع. كنت أريد أن أعطي الإحساس بأن هذه المجموعة المتصارعة لها يد في كل النصوص، يعبرون المكان والنصوص ويتناوبون البطولة، فهذا الكلب الشرس المتنمر في قصة الأعمى، له حضور آخر في قصة السحلية، وكذلك فإن مجموعات المتنمرين، حاضرة في كل القصص تقريباً بنفس الروح والرغبة المطلقة في إيذاء البشر والحيوانات معاً".
التحرر من الرقيب الذاتي
يحكي عبد الموجود أن فكرة كتاب "البشر والسحالي" وُلدت من رحم حكايات أمه التي لازالت تحتفظ بكثير من مفردات الحياة الصعيدية، وبعض الدردشات مع صديقه الشاعر محمد أبوزيد، وهو يشترك معه في نفس الخلفية الثقافية.
ويقول: "كان هناك باب أُغلقُه منذ 40 عاماً، أراه كل يوم لكني لا أفكر في فتحه إطلاقاً، لكن بسبب حكايات أمي وصديقي شعرت فجأة بالرغبة في اجتيازه، واجتزته، فعدت إلى الماضي، ووجدت نفسي في قبو مليء بالحكايات المدهشة، وسقطتْ إضاءة كبيرة على تفاصيل خاصة بالحياة في قريتي اعتقدت أنني نسيتها للأبد، أو كنت أظن أنها لا تصلح للكتابة، لكنني وجدت فيها مادة جميلة وطيعة وبها كثير من الإنسانية".
تدور حكايات الكتاب في تسلسل زمني واضح، إذ تبدأ على لسان طفل في السابعة هو بطل "الخنزير.. أدونيس في القصر"، وتسلمك إلى بطل جديد أكثر خبرة، إلى الرجل الناضح في قصة "العقرب.. سحابة قريبة مطر أصفر" حتى نصل إلى الكهل في قصة "الديك .. خمسة ذقون ناعمة".
وهذه القصص تستند إلى السيرة الذاتية، وهو أمر لا ينكره عبد الموجود، قائلاً: "في الكتاب كثير من خبرات الطفولة، وحكايات كنت شاهداً عليها أو بطلاً لها أو مشاركاً فيها بقدر ضئيل، حاولت بقدر المستطاع أن أتحرر من أي رقابة ذاتية قد تحجِّم الكتابة، كنت أدفع نفسي للتحرر من الخوف أن يُعرف عنك هذه التفصيلة أو تلك، لأن هذه الرقابة الذاتية تضعف النص، وتحد من حرية الشخصيات. هي سيرة لكن بتصرف، سيرة لمرجعيتي الاجتماعية وأساطيرها، حتى أنني دعوت ابنتي إلى قراءة الكتاب لتتعرف كيف كان عالمي ونشأتي، وكيف كان يعيش ويفكر أجدادها".
ويتابع: "بعض الكتَّاب يهابون كتابة مرجعياتهم سواء كانت عقائدية أو عرقية أو اجتماعية، أما في هذا الكتاب سيجد كل قارئ مرجعية ما تربطه به بتعبير الدكتور وائل فاروق. كل تفصيلة فيه تستدعي جزءاً من ذاكرتي البعيدة، كنت أنطلق من تفصيلة حقيقية شهدتها أو عشتها إلى عالم رحب من التأليف".
العالم من فوق سحابة
بالرغم من قتامة مشهد الصراع على الطعام والفقر الشديد الذي تعيشه قرية البشر والسحالي، لم يغب عن عبد الموجود حسه الساخر، وقدرته على تحويل هذا المشهد الكئيب إلى مبالغات على لسان طفل مندهش.
يقول عبد الموجود: "بدون سخرية يكون الفن متجهماً، وأنا لا أحب الفن المتجهم. السخرية هنا ليست من الشخصيات، إنما لتمرير تفاصيل عالم قاس، إذا شعرت فيه بالقرف من الدود الذي يسرح في أطباق الطعام أمامك ستقوم جائعاً. كان لا بد وجود السخرية حتى تكون الكتابة مستساغة".
ويتابع: "مع ذلك حذفت الكثير من المبالغات، بعد مناقشات مع صديقي الشاعر عماد أبو صالح، حتى لا تفلت هذه السخرية وتنزلق إلى فكرة (الإفيه) الشائعة في الأفلام الكوميدية وعلى صفحات السوشيال ميديا، أردت أن تكون السخرية وفق نوتة، تشبه نوتة الموسيقى، وبعيدة عن الكليشيهات التي تكمن في رأسك مثل فيروس، وتقفز إلى الكتابة دون أن تدري".
استخدم عبد الموجود حيوانات مجموعته بشكل مختلف عن السائد في التراث القصصي العربي، فلم يستنطق الحيوانات ولم يلبسها رداء الحكمة أو التفكير البشري، إنما اكتفى بأن تكون هذه الحيوانات طرفاً في الصراع مع البشر.
كما وظف الخرافات الشعبية عن هذه الحيوانات، خرافات نُسجت على مدار آلاف السنين خاض فيها البشر والحيوانات نفس الحرب الأزلية، حرب ليس هدفها أن يبيد أحد الطرفين الآخر، وإنما فقط أن ينتصر عليه انتصارات صغيرة من أجل السيطرة على الطعام في بيئة فقيرة.
يضيف عبد الموجود: "كنت أريد استحضار الحكايات الأسطورية الخاصة بالحيوانات في صراعها مع البشر لا ليصدقها القارئ، ولا ليشعر بغرابتها، لكن لتفسر له جذور الصراع بين الطرفين. أردته أن يرى العالم من فوق سحابة، وأردته أن يقتنع بأن الواقع - بتعبير ريتشارد دوكنز - أكثر سحراً من الخرافة".