في ديسمبر من عام 1968، كتب الروائي المصري الراحل وجيه غالي، على باب شقة حلّ فيها ضيفاً على صديقته الروائية والمحررة الإنجليزية ديانا أتهيل: "ديانا لا تدخلي.. اُطلبي الشرطة".
هكذا انتحر غالي، بعد أن ابتلع جرعة زائدة من الأقراص المنومة، وعجز الأطباء عن إنقاذه.
وعلى مدى 20 عاماً بعد واقعة الانتحار، لم يكن هناك الكثير الذي يمكن قوله عن غالي الذي اقتصرت شهرته في أوساط الأكاديميين الغربيين، بعدما نشر روايته الوحيدة "بيرة في نادي البلياردو" عام 1964، باعتبارها نموذجاً لما يُعرف برواية "ما بعد الاستعمار".
على الجانب الآخر، اُختصرت سيرة وجيه غالي في بعض أوساط اليسار المصري، في الزيارة التي قام بها إلى إسرائيل عام 1967، كمراسل صحفي لجريدتي "ذا أوبزرفر"، و"ذا تايمز" البريطانيتين.
ولكن في عام 1988 نشرت ديانا أتهيل كتاباً بعنوان "بعد الجنازة"، تكشف فيه بعضاً من ملامح سيرة وجيه غالي، وعلاقتهما الملتبسة، بعد أن أقام في مسكنها لأكثر من عامين.
وهكذا صارت رواية غالي الوحيدة، وكتاب ديانا الذي اتخذ طابعاً روائياً، مصدرين وحيدين لاستقصاء ملامح حياة الروائي المصري الغامضة، ليختلط الواقع بالروائي والفني.
كيف أنقذت الصدفة مسيرة غالي؟
جميع المعلومات المتاحة عن غالي، صارت تتسم بالغموض: حياته ومواقفه وكتاباته المجهولة، يوميات ورسائل وقصص ظلت في حوزة ديانا، وأنقذتها الصدفة وحدها.
الباحثة ديبورا ستار، حصلت على نسخة من هذه الأوراق، من أجل بحث تقوم بإنجازه، وذلك قبل أن تفقد ديانا أصول هذه الأوراق، وقامت ديبورا بمنح يوميات ورسائل وقصص غالي، إلى جامعة "كورنيل" الأميركية.
ومؤخراً، أصدرت الجامعة الأميركية بالقاهرة يوميات غالي التي حررتها مي حواس، وترجمها محمد الدخاخني إلى العربية، وحملت عنوان: "يوميات وجيه غالي: كاتب مصري من الستينيات المتأرجحة".
وجمع الكاتب والمترجم وائل عشري، القصص المتناثرة التي نشرها غالي في صحيفة "ذا جارديان" البريطانية، وأصدر ترجمتها تحت عنوان "الورود حقيقية"، كما ترجم رسائله إلى ديانا في كتاب "رسائل السنوات المتأخرة"، عن "دار المحروسة".
كما ترجمت نيرمين نزار، كتاب ديانا "بعد جنازة" عن المركز القومي للترجمة، وقد سبق كل ذلك صدور ترجمة للرواية أنجزتها إيمان مرسال، وريم الريس عن "دار الشروق"، وهكذا تبدد هذه النصوص الكثير من الغموض حول الأديب المولود في الإسكندرية، وتجيب على الكثير من الأسئلة التي كانت لغزاً حوله.
سنوات مجهولة
يبدد صدور هذه الأعمال "اليوميات، والرسائل والقصص المنسية" لغالي، سنوات الغموض حول حياته، ومواقفه، علاقاته وزيارته إلى إسرائيل في عام 1967، التي كتب تفاصيلها وظروفها، علاقاته المتعددة، اكتئابه وإحباطاته، علاقته بالكتابة، مغامراته المثيرة.
ولكن تبقى سنواته المصرية مجهولة، بداية من سنة ميلاده "1929 أو 1930"، التي أخفاها تحديداً، وإن كانت اليوميات تكشف يوم ميلاده في 25 فبراير.
ولكن ماذا عن عائلته؟ تاريخه السياسي؟ هل مارس الكتابة بالعربية أم بالإنجليزية قبل أن يرحل إلى باريس؟ قراءاته وانحيازاته؟ هل عاد إلى القاهرة بعد فشل دراسته في باريس، أم أنه لم يعد إليها منذ عام 1951؟ فلم يشاهد واقع ما بعد يوليو 1952، وبالتالي اعتمد على حكايات الأهل والأصدقاء ومتابعة الإعلام في كتابة رواية الوحيدة "بيرة في نادي البلياردو"، التي تدور أحداثها في مجتمع ما بعد الثورة.
الإشارة الأولى
ربما كان الناقد المصري غالي شكري، أول من أشار عربياً إلى وجيه غالي في كتابه "الأرشيف السري للثقافة المصرية"، والذي صدر في عام 1975 ببيروت.
يقول شكري عمّن أسماهم "رُسل السلام"، معتبراً وجيه غال أحدهم: "تذكرت شاباً مصرياً كان طبيباً أديباً، انضم إلى إحدى الحركات اليسارية، ولكنه استطاع الهرب إلى لندن، وهناك تلقفته إحدى الجهات، وكانت تعرف ميوله الصحافية وموهبته الأدبية".
ويضيف: "استطاعت هذه الجهة أن تغريه بالسفر إلى إسرائيل، وعاد ليكتب مجموعة من التحقيقات المثيرة لجريدة صنداي تايمز"، وزيادة في التكريم والغواية نشرت له رواية في سلسلة "بنجوين"، وما زالت الرواية في المكتبات وعلى ظهر غلافها، تعريف بوجيه غالي يقول إنه "أول مصري شجاع يزور إسرائيل، ويكتب عنها بحرية كاملة".
ويواصل شكري حديثه عن غالي: "لكن هذا الرائد الشجاع، وجد منتحراً في إحدى غرف البنسيون الذي يقيم به في لندن. وترك رسالة بخط يده، اعترف فيها بخطيئة العمر، أشارت إليها الصحف الإنجليزية بصورة عابرة، لأن البوليس احتفظ بها، فلم تكن موجهة إلى أحد بالذات".
على الرغم من أن غالي شكري، استخدم في بداية كلامه فعل "تذكرت"، ليوحي بأنه ينطلق في حديثه من معرفة تكاد تكون شخصية بـ"وجيه"، وأنه سيقدم حقائق لا تقبل الشك، إلّا أنه- على الرغم من قصر الفقرة- لم يقدم معلومة واحدة حقيقية باستثناء انتحار غالي!
ربما يلتمس البعض العذر للناقد، إذ كان كل شيء- وقتها- متعلق بوجيه لغزاً، محاطاً بالشكوك، وإن كان يمكنه قبل أن يكتب سطوره أن يطّلع على الرواية المتاحة، وعلى مقالات الرحلة المثيرة إلى إسرائيل، ربما كانت قد خفّفت قليلاً من لغته الحادة.
عقدة الأم
هاجر والد وجيه غالي من صعيد مصر لدراسة الطب، وبعد تخرجه تزوج من والدة وجيه، أنجيل ابنه خليل باشا إبراهيم (1832- 1924)، الذي كان محامياً شهيراً من عائلة قبطية ترجع أصولها لمحافظة سوهاج.
وتوفي والد وجيه مبكراً، لتتزوج أمه من فؤاد أنطون، مدير مصنع الملح والصودا في الإسكندرية، الذي لم يتحمل وجيه، ولم يتحمله وجيه أيضاً، لينتقل من الإسكندرية إلى القاهرة، لينشأ في بيت خالته "كيتي" ووسط أولادها.
وشقيقة أنجيل هي والدة الناقد والمترجم المصري الشهير مجدي وهبة، والذي عمل نائباً لوزير الثقافة المصرية السابق ثروت عكاشة.
وربما كانت علاقة غالي المرتبكة بوالدته هي سر عذابه، ثمّة إشارات عديدة إليها في يومياته، منها قوله "لم أكن أعرف لمن سأترك أموالي إذا أصبحت ثرياً من خلال كتابي. فكرت وفكرت. لم أكن لأتركها لإخوتي لأنهم ما كانوا ليحتاجوا إليها، أو لأمي لأنها لا تستحق ذلك، وفكرت وشعرت بالحزن، لم أكن أحب أي شخص بما يكفي لأترك له أموالي".
أحمد رمزي ينقذ وجيه من الانتحار
كانت قاهرة غالي في سنوات ما قبل يوليو 1952، هي عاصمة الصخب، يتنقل بين البارات المختلفة، ونادي البلياردو، مفلساً دائماً، متطلباً للصرف على ما اعتبرته الأسرة ملذاته الخاصة، لم يكمل دراسته في كلية الطب بجامعة القاهرة، التي كان زميلاً فيها للفنان أحمد رمزي، الذي لم يكمل هو أيضاً دراسته.
أنقذه رمزي من محاولة انتحار عندما كانا في الكلية، يومها كان وجيه مقيماً في أحد بنسيونات القاهرة الفقيرة، وأصيب بما أسماه "نوبة تشنّج ذهني"، تجعله راغباً في الموت حسبما كتب لديانا في إحدى رسائله، ولكن أنقذه صديقه رمزي، الذي جاء بالمصادفة في تلك الليلة لزيارته.
كانت مفاهيم النجاح لدى عائلة غالي الأرستقراطية مرتبطة بالثراء، أو التفوق في الدراسة أو المنصب المحترم، لذا يبدو شخص مثل وجيه بالنسبة لهم فاشلاً، صعلوكاً، سكيراً لا يفيق من الشراب، مثيراً للمشكلات ومنبوذاً ومستبعداً.
ففي بيت أحد أصدقاء غالي، احتفظ بنسخة من رواية "بيرة في نادي البلياردو"، أهداها غالي لأحد أقاربه كتب عليها عبارات بالفرنسية، معناها: "أنظر إليّ، إلى قريبك (..) لقد نجح، يا فلاح، انظر إليّ فأنت لا شيء".
كان غالي يريد أن يقول للعائلة بعد صدور روايته، إنه نجح بمفاهيمه هو لا بمفهومهم عن النجاح!
لا أسرار
لا شيء يُثبت انضمام وجيه غالي إلى أي من تنظيمات اليسار، أو ممارسته العمل السياسي في مصر قبل رحيله عنها عام 1950، تكوينه النفسي يجعله أبعد ما يكون عن الالتزام السياسي.
في واحدة من رسائله إلى ديانا، يخبرها بقبوله العمل في معسكرات الجيش البريطاني بألمانيا، فكتب: "هل تصديقين هذا، لقد أجازوني في تحريات الأمن!"، وروى حواره معهم: "هل أنت شيوعي: لا (..) هل انضممت إلخ إلخ: لا (..) متعاطف مع النظام: لا".
وواصل في رسالته: "سوف أؤتمن على أسرار الناتو والجيش البريطاني"، وأضاف ساخراً: "لا توجد أسرار، بالطبع، هي فقط وظائف سهلة للجميع مع أحواض سباحة، وملاعب تنس إلخ".
ربما لم يكن وجيه منتمياً بالمعنى التنظيمي، ولكن متعاطف إلى حد كبير مع حركات سياسية معارضة، أو مع المهمشين كموقف ضد العائلة - عائلته بالتأكيد - في قصصه.
"الورود حقيقية"
يُشير المترجم وائل عشري، إلى اعتماد وجيه غالي على التجربة الذاتية كمادة للكتابة، لذا سنجد في قصة "صديقي كمال" (إحدى قصص مجموعة الورود حقيقية)، إشارة إلى مشاركة (الراوي/ وجيه) في مظاهرات الطلبة في عام 1946، التي انتهت بفتح كوبري عباس على المتظاهرين.
ويشير أيضاً سمير بسطا، في حواره مع ديبورا ستار إلى مشاركة وجيه في التظاهرات ضد النحاس باشا، وضد الاحتلال الإنجليزي لمصر، وكان ممن يطلق عليهم "مثيري الشغب".
ولكن وجيه لم يستمر في موقفه الثوري، إذ يضيف بسطا: "عوضاً عن المثقف الشيوعي الثوري الذي اعتقدتُ أنه سيظل عليه دوماً، أصبح وجيه مهووساً بالنميمة والسيدات، وتفاصيل الطعام والشراب، عاد إلى جذوره البرجوازية التي كان يهرب منها".
كما أن هناك إشارات عديدة في يومياته ورسائله إلى تفضيلاته السياسية، والمعرفية والإنسانية، وعندما دخل إلى المستشفى لإجراء عملية جراحية، راح يتذكر من يمكنه أن يترك لهم ثروته، إذا أصبح غنياً بعد صدور روايته، اختار أن يتبرع بأملاكه في مصر لابن عمه "فتحي": "لم أره سوى مرة واحدة، ولكنني سمعت أنه سُجن بسبب أنشطته في مصر".
كما كان وجيه مولعاً بشكل خاص بالأدب الروسي، بل حاول أن يتعلم الروسية، وكان يرى أنطون تشيخوف أعظم كاتب عاش على الإطلاق، وهو مع مكسيم جوركي، وفلاديمير نابوكوف، ينظر إليهم باعتبارهم "سادة الكلمة"، بل كانت قراءة "الحرب والسلم" للكاتب الروسي ليو تولستوي، أحد مبررات وجيه للتكاسل عن الكتابة.
وكتب في إحدى رسائله: " كيف يمكن لأي شخص، يكنّ حباً للأدب، أن يكتب رواية تافهة بعد قراءة مثل هذه الأعمال، وهو ما يعنى – على ما أعتقد أنني لن أكتب رواية أخرى".
بطل تراجيدي
ورغم ما يكتنف حياة وجيه من إثارة وغموض، إلا أن كتاباته تقدم لنا شخصاً أشبه بالأبطال التراجيديين، الذي يعرف نهايته، ويسعى إليها، بل يسعى حثيثاً إلى تدمير ذاته نفسها.
ابن الأسرة البرجوازية المصرية الذي يفقد أباه مبكراً، وتتزوج أمه شخصاً آخر، فيترك الإسكندرية المدينة التي ولد فيها إلى القاهرة متنقلاً بين بيوت الخالات، يفشل في دراسة الطب في القاهرة، فيتركها إلى باريس لدراسة الطب لكنه يفشل أيضاً، فيتنقل بين مهن مختلفة ومدن متعددة، ما بين باريس، ولندن، والسويد، ثم هامبورج ورايت في ألمانيا، قبل أن يستقر في لندن خلال سنواته الأخيرة.
تطارده فكرة الانتحار، أو يطاردها، ويعرف تماماً أنها مصيره الذي لا يحاول أن يتفاده، بل يسير إليه بكامل إرادته، ويفعل كل شيء ممكن من أجل أن يعجل به.
يكتب في يومياته: "الذهاب إلى طبيب نفسي لن يكون سوى مزحة. أعرف في أعماقي أنني منتحر محتمل".
ويكتب: "إنني أحدب يستطيع أن يٌقوّم ظهره، لكنني ضعيف جداً، كسول جداً عقلياً، شديد الاستهتار واللامسوؤلية لأواظب على استقامة ظهري، أواسي نفسي بفكرة الانتحار، نتيجة ضعف وجبن تامّين".
كتب غالي هذه المقاطع في يومياته في مايو 1964، وبعد 4 سنوات اكتملت المأساة تماماً، عندما انتحر في إحدى ليالي شتاء لندن، ليموت في أحد مستشفيات لندن بعد عشرة أيام، فشل الأطباء خلالها في إنقاذه حياته.
المحاولة الأخيرة للانتحار تمّت، بعد فشل محاولات أخرى سابقه، منها ما حكاه ابن خالته سمير بسطا في حوار معه في مقدمة اليوميات: "ذات مرة، أخبرني أنه حاول قتل نفسه بالغاز في سيارته فولكس فاجن، ضحك وضحك من ذلك، لأن أحد رجال الشرطة قرع نافذته، وأخبره بأنه يركن السيارة بشكل غير قانوني".
كانت كتابة اليوميات وسيلة وجيه، من "أجل التشبث بمسحة من سلامة العقل"، ووسيلته لكي يتوقف عن السير في "طريق الجنون"، ألا يبقى وحيداً.
وعلى الرغم أن اليوميات تقدم لنا شخصاً صاخباً، متعدد العلاقات، محاطاً بالأصدقاء، والأقارب الذين يترددون عليه، ولكن لم تكن هذه العلاقات سوى محاولة منه، كما يكتب: " لأمنح نفسي الثقة، لأتباهى أمام نفسي أيضاً".
هذه الثقة المفقودة في الذات قديمة لدى غالي، إذ وصفه أحد أساتذته أثناء الدراسة في مدرسة فيكتوريا كوليدج، بأنه "شخص لا يمكن ملاحظته، تقريباً لم يكن ماهراً".