
يمثّل الكهف البركاني في لانزاروتي- جزر الكناري، واحداً من أهم الشواهد الطبيعية على التقاء الفن بالجيولوجيا. غير أن فرادته لا تُفسّر بالطبيعة وحدها، بل بالحوار الفني الذي جمع الفنان الإسباني سيزار مانريكي وخيسوس سوتو، حين اشتغل كل منهما على تحويل إرث بركاني قديم إلى تجربة فنية جمالية.
انبثق هذا النفق من بركان "لا كورونا"، الذي خلّفت حممه المجمدة سلسلة طويلة من الممرات، امتدّت تحت سطح الجزيرة آلاف السنين، وعلى طبقات عدّة متنوّعة جيولوجياً.
خلفية جيولوجية
بدأ بركان "لا كورونا" نشاطه قبل نحو عشرين ألف سنة، حين انشقّت الأرض تحت ضغط الحمم الصاعدة من الأعماق. استمرّت الانبعاثات لفترة طويلة، فكوّنت أنهاراً من الصخر الساخن الذي تجمّد لاحقاً في طبقات متراكمة.
ومع خمود البركان تدريجياً، تحوّلت هذه المجاري المتجمدة إلى شبكة أنفاق طبيعية، لا تزال تحافظ على شكلها الأصلي، لتصبح لاحقاً موضوعاً لمشروعين فنيين متجاورين: خماليوس دل آغوا، وكويفا دي لوس فيرديس.
الفنان سيزار مانريكي: هندسة الجمال بين الماء والصخر
بدأ العمل الرسمي داخل النفق الحِممي عام 1966، حين كلّفت الحكومة المحلية في لانزاروتي سيزار مانريكي بإعادة تأهيل الجزء المنهار من النفق وتحويله إلى فضاء معماري– بيئي ينسجم مع جيولوجيا الجزيرة.
استمرّت أعمال التصميم طوال الفترة بين 1966 و1972. تمّ إنجاز المسارات، والحدائق البركانية، والفضاءات المفتوحة على السماء، إلى جانب تطوير المرافق الثقافية المتصلة بالمشروع.
مع نهاية هذه المرحلة، بات النفق واحداً من أبرز المشاريع التي جسّدت رؤية مانريكي في الجمع بين الفنّ والطبيعة.
أدرك مانريكي أن الجزء المنهار من النفق، حيث يتجلى جرف مفتوح على السماء، وبحيرة طبيعية مالحة، يحمل إمكانية إعادة بناء العلاقة بين الطبيعة والإنسان. فحوّل الفضاء إلى تكوين معماري– بيئي، تتداخل فيه الجدران البيضاء مع سواد الحمم، وتتقاطع فيه البركة الفيروزية المصمّمة مع البحيرة الأصلية.
كان هدفه تكوين انسجام بصري لا يخفي أثر الطبيعة، بل يضاعف حضورها. لذلك جاءت الأشكال منحنية، والمسارات مدمجة بالصخر، لتبدو كامتداد جيولوجي، وليس كإنشاء معماري منفصل. هنا يتجلى مبدأه الجمالي: الفن– الطبيعة/ الطبيعة–الفن.
العمارة الطبيعية – العمارة الوظيفية
تنتشر في المجتمعات ذات المساحة الضيقة، عمارة تُسمّى "العمارة الوظيفية". تقوم على استثمار الحيّز بأقصى درجات الاقتصاد. نرى ذلك في الشقق اليابانية الصغيرة ذات الجدران المنزلقة، وفي البيوت الإسكندنافية التي تختفي فيها الطاولات داخل الجدران. كذلك نراها في العمارة السوفييتية التي رفضت الزينة، واعتبرت الجمالية البرجوازية خروجاً عن روح الوظيفة.
غير أن مانريكي تجاوز هذا المنطق؛ فهو لا يعيد ترتيب الحيّز فحسب، بل يعيد صياغة صلة الإنسان بجذره الأرضي. الهندسة عنده ليست اقتصاداً في المساحة، بل إعادة بناء الضوء والماء والصخر داخل تجربة حسّية واحدة، موجهة للإنسان.
الفنان الإسباني خيسوس سوتو: شاعر الأنفاق المعتمة
في المقابل، دخل الفنان خيسوس سوتو النفق من عالم الظلام. حيث لا يصل أي ضوء طبيعي. هكذا صمّم نظاماً ضوئياً يكشف تضاريس الحِمم، دون أن يفضحها، وأبرز المعادن المتحجّرة في بقع ضوئية توحي بحركة صاعدة وهابطة، كأنها امتداد للنفق.
اشتغل سوتو على تهيئة الممرات للمشي، مستخدماً المادة البركانية ذاتها، كي يشعر الزائر بأنه يسير داخل بنية طبيعية، وليس في منشأة اصطناعية. كما أعدّ سلالم حديدية متينة يتمسّك بها الزوّار صعوداً ونزولاً، فجعل من السلامة جزءاً من المشهد الفني نفسه.
البحيرة الخادعة: سينوغرافيا الكارثة
تُعدّ البحيرة الخادعة إحدى أذكى ابتكاراته: بركة ضحلة تتحوّل، بفعل الإضاءة المموّهة، إلى عمق لا نهائي. يطلب الدليل السياحي الصمت وعدم استخدام الهواتف، كي لا تتشوّه الاستجابة الضوئية على سطح الماء. ثم يرمي حصاة صغيرة، فتنكشف الخدعة لحظة تصدّع السطح، فتظهر البركة. هنا يتحوّل الظلام إلى هندسة للضوء، ويتحوّل الوهم إلى درس في الإدراك.
ومع الإعداد الصوتي الطبيعي، صار جوف النفق مسرحاً جيولوجياً تُقام فيه حفلات تستثمر صدى الحِمم المتجمدة.
القسم القريب من البحر: استثمار الحرارة الدفيئة
يمتدّ الجزء الجنوبي من النفق نحو الساحل، حيث تقترب الصخور البركانية من مستوى البحر. هنا يلمس الزائر رطوبة الهواء وحضور الملح داخل تجاويف الحِمم. وهنا تحديداً أُقيم مطعم يستفيد من الحرارة الدفيئة المختزنة في جيوب الصخور، وهي حرارة متوارثة من نشاط البركان القديم. إنه مثال نادر على تحويل أثر جيولوجي خام إلى وظيفة حياتية يومية، تجمع بين الطبيعة والتقنية والطهو.
استثمار الكارثة في الحياة: شجرة الموز
زُرعت شجرة موزٍ عند مدخل النفق، بوصفها علامة على تحويل الخراب إلى حياة. فالمكان الذي كان قبل آلاف السنين ممراً للحِمم والنار، أصبح اليوم قادراً على حمل ثمرة حيّة. إنها استعارة بصرية تختصر فلسفة التلقي الجمالي. فأثر البركان يمكن أن يتحوّل من هول جيولوجي إلى إمكانية خصبة.
لم يعمل مانريكي وسوتو في الغرفة نفسها، لكنهما التقيا في الفكرة الكبرى: تحويل شأن جيولوجي كارثي إلى خطاب بصري حسّي.
في الجزء الذي يلتقي فيه الضوء بالماء والصخر يتجلّى مانريكي، وفي الجزء الذي يبتلع فيه الظلام كل شيء يتجلى سوتو. وهكذا يتشكّل عمل فني مزدوج: نصفه سماوي، ونصفه أرضي.
ميتافيزيقيا الكوارث
"ميتافيزيقيا الكوارث" ليست تمجيداً للدمار، بل بحثاً عن المعنى فيما بعد الكارثة. إنها تحويل الركام إلى ذاكرة، والصدمة إلى سردية، والصمت إلى شكل.
نرى تجلياتها في: بقايا جدران برلين التي تُركت شاهدة على سقوط زمن وبداية آخر. مبنى هيروشيما الذي تُركت أجزاء منه محترقة كي تبقى الذاكرة مفتوحة. تجارب فنية في بيروت بعد الانفجار تُعيد توظيف الحطام في أعمال تتأمل الألم والجمال معاً.
لا تكمن خصوصية النفق البركاني في جزيرة "لانزاروتي" في جيولوجيته وحدها، بل في كونه فضاء أعيد تشكيله بصرياً وسمعياً، ليصبح جسراً بين الكارثة والحياة. جمع مانريكي فلسفته المعمارية البيئية، بالفنان سوتو ورؤيته الضوئية، فصار المكان مشروعاً جمالياً متكاملاً، يزاوج بين الضوء والظلمة، بين البحر والبركان، بين الماضي البركاني والولادة المعاصرة.
هكذا يتجلى المعنى الأعمق للفن: أن الكارثة ليست نهاية، بل إمكانية للجمال والفن.








