اعتبر الروائي الجزائري واسيني الأعرج، أن النص الروائي الحقيقي يخضع لمعايير مهمة تتمثل في الشخصيات والزمن وتسلسل الأحداث واعتبارات أخرى. وأكد لـ"الشرق" أن هذه الاعتبارات هي ما يتيح للنصوص الروائية الدخول في ما أسماه بالمقامرة الفنية، أما روايات "الخواطر" فليس لها مكان على طاولة المنافسة.
وفي الحوار الذي أجرته معه "الشرق" على هامش معرض الشارقة الدولي للكتاب، كشف الروائي الجزائري عن قناعاته حول الكتابة الروائية، والمشهد الثقافي في العالم العربي، وعن خمسين عاماً من الكتابة وعن توقيت "استقالة" الكاتب أو توقفه عن الإبداع.
- قلت في أحد لقاءاتك إنك ترأست العديد من لجان التحكيم التابعة لجوائز عربية كبرى في حقل الرواية ووجدت أن الكثير من المشاركات هي خواطر يُطلق عليها تسمية رواية.. ماذا كنت تقصد بذلك؟
هناك نوعان من الروايات، أولاً الرواية الجادة التي بذل كتّابُها الكثير من الجهد ليقدموا عملاً رائعاً، فحين تقدم رواية لمسابقة يجب عليك أن تعلم أنك تقدم نفسك بهذا العمل لتثبتك أحقيتك، وإلا فلن ينظر لعملك بجدية.
أما النوع الآخر فهو ما أسميته "الخاطرة"، ولا بأس بأن الشاب أو الشابة يرغبون في كتابة شيء ويودون اقتسامه مع القارئ، ولا أصف تلك الكتابة بالسيئة أو الجيدة، لكني أقول هذه ليست رواية.
الرواية عبارة عن نظام وبناء وشخصيات ومساحات وأزمنة وأحداث متسلسلة، هناك جهد يتضافر من خلال كل هذه العناصر، والأعمال التي تستجيب لهذا المنظور يمكن لها أن تدخل في المقامرة الفنية وسجال المسابقات، أما روايات الخواطر فليس لها مكان على طاولة المنافسة.
وأتمنى من الشباب عدم التسرع في تقديم أعمالهم للجوائز، لأن الجوائز صارمة جداً ولا يمكن أن تنطلي على الناس مثل هذه الكتابات، فهناك النقاد والمفكرون، ومن الأفضل أن تتأخر سنة أخرى وتكتب نصاً بدون أخطاء، لأن المشاركة تمنح النص فرصة كبيرة للقراءة والتحكيم.
- هل تؤيد كثرة النتاج الأدبي الذي نشاهده تحديداً في الروايات، وهل هذه الكثرة تخدم واقع الثقافة العربية أم أنها تهوي بها؟
حين يتكاثر النتاج الأدبي فالغث يغطي على الجيد أحياناً، خذ على سبيل المثال الجزائر قبل أن يتوقف معرض الكتاب بسبب الجائحة، فقد صدرت 520 رواية، لكن من بين هذا العدد لم يبق إلا قرابة عشر روايات قادرة على دخول السوق وخوض المنافسة.
لكن لا تستطيع في الوقت نفسه أن تحرم الناس من التعبير عن أنفسهم من خلال الكتابة، وفي المحصلة النهائية من حق أي شخص أن يكتب ما يشاء، لأن الكتابة تعبير عن فيضان داخلي يريد الكاتب أن يخرجه ويشاركه القارئ، وعند هذه الحدود يجب أن يتوقف هذا النوع من الكتابة.
لكن التحكيم منطقة أخرى، يجب أن يدرك الكاتب أنه إزاء نصه نشر الكثير من الروايات وقد لا يظهر نصه إذا ما قورن بتلك النصوص، ولذلك فالتريث في الكتابة من الممكن أن يدفع بالكاتب للأمام على عكس التسرع الذي قد يؤدي به لنتيجة غير مرغوب فيها.
- لديك نظرة خاصة تكاد تكون ديدناً لا تحيد عنه في الكتابة، وهي ربط الكتابة بالألم، في المقابل قلت إن الكتابة مرتبطة لديك بالسعادة.. كيف يكون ذلك؟
دعني أستشهد بروايتي عن الأديبة مي زيادة "مي ليالي إيزيس كوبيا"، قصة "مي" قصة مأساوية في كل ما حدث لها من اتهام بالجنون وغيره من الأحداث المؤلمة التي انتهت بموتها وجنازتها البسيطة جداً.
السعادة تكمن في خلق صورة أخرى لهذه الكاتبة من خلال الأدب، ولذلك أشعر بسعادة ككاتب لأني استطعت أن أعيد الاعتبار لشخصية كانت منسية، ووضع الحقيقة في الواجهة.
وأشار الأديب الجزائري إلى قول الكاتبة الراحلة: "أتمنى أن يأتي من ينصفني بعد موتي"، مؤكداً أنه حاول أن ينصف هذه الأديبة الكبيرة.
وتابع "هنا مكمن السعادة، وهو أن يأتي لك القراء وأنت ترى في عيونهم السعادة رغم أن الرواية مأساوية لكنهم يشعرون بأنهم اكتشفوا تفاصيل جديدة لمي زيادة أخرى".
- الحراكات الثقافية المختلفة من مهرجانات ومعارض وغيرها، هل حقاً تخدم الساحة الثقافية أم أنها مجرد تمظهر وضجيج مفرغ من المضامين الحقيقية؟
نحن نعيش زمناً قاسياً، هناك بلدان تكاد تختفي من الخريطة، ودعني أستشهد بسوريا التي كانت تمثل أفقاً ثقافياً كبيراً، كذلك العراق وما آل إليه، ليبيا أيضاً وغيرها.
ولذلك دعنا نكون إيجابيين، فمن الجيد أن نرى مثل هذه الحراكات الثقافية، وهذا الإصرار على أن للثقافة دوراً يمكن أن تلعبه في مجتمعاتنا في ظل هذه الأوضاع وفي وسط هذا الخراب الذي يشهده العالم العربي، لكن في الوقت ذاته يجب أن نقيس أنفسنا بما يحدث في العالم؛ فنحن لا نعيش في خريطة مستقلة، ولكننا جزء من عالم أكبر.
وباعتقادي أن الكاتب لا يستطيع أن يحل مشاكل العالم، لكنه يستطيع أن يمنح فسحة للأمل، يستطيع أن يفتح فجوات داخل الظلمات، الظلمة مثل الستار فإذا استطاع الكاتب والمثقف إحداث ثقب في هذا الستار فسيتمكن النور من الدخول، وينسحب هذا الأمر على الفعل الثقافي أيضاً، ربما هذا لا يحدث أثراً آنياً لكن على المستوى المتوسط والبعيد باعتقادي أنه سيحدث شيئاً إيجابياً.
- كتبتَ الرواية التاريخية والرواية الاستشرافية، ومؤخراً كتبت عن الحاضر في رواية "ليليات رمادة" التي تناولت فيها الجائحة، ماذا تريد أن تقول من خلال هذا القفز بين الأزمنة؟
عندما تكرر نفسك يمكن أن تقتل الفعل الروائي داخلك لأنك أعدت إنتاج شيء يعرفه الناس، وإذا ما تحدثنا عن "ليليات رمادة" فإنها تختلف عن رواية "مي زيادة" كلياً، فرواية "مي زيادة" هي تصوير لمأساة الفرد بينما "ليليات رمادة" هي تصوير لمأساة المجتمع بكامله من خلال الوباء الذي اجتاح العالم، وبمستوى رمزي أيضاً، حيث الوباء يتحول لحالة أعمق من الوباء الحقيقي، وباء اقتصادي وباء السرقة والنهب والتدمير والصراعات العرقية والإثنية، وكل هذا محاولة لإحداث نوع من التوازن حيث إن الوباء لا يعني الوباء فقط ولكن يعني شيئاً أكبر من ذلك.
- نصف قرن من الكتابة.. ماذا منحتك وماذا أخذت منك؟
الحقيقة أني لا أفهم من يقول إن الكتابة لم تمنحه شيئاً، ربما قد يكون الأمر مفهوماً بالنسبة له، لكنه بالنسبة لي ليس مفهوماً.
الكتابة منحتني الكثير، منحتني سعادة أن أكتب، سعادة أن أوجد، سعادة ألا أمرّ على هذا العالم بشكل عبثي، خمسون عاماً مرت وأنا أحاول أن أترك بصمة صغيرة أو نقطة داخل هذا البحر اسمها "واسيني الأعرج" وسأكون سعيداً جداً لو تم ذلك.
وحتى إن لم يتم ذلك فسأكون أيضاً سعيداً لأني طيلة خمسين عاماً وأنا أبتكر النماذج وأنتج الشخصيات وأغوص في حيواتهم.
الكتابة منحتني كذلك "الاعترافات"، فمن يستوقفك للتوقيع أو للحديث أو لالتقاط صورة معك فهذا كله تعبير عن المحبة، وهذه المحبة هي وليدة الكتابة، وكما تمنح الكتابة الكثير من الحب كذلك تمنح الكثير من التعب.
كما منحتني الكتابة الكثير من الجوائز، وعندما تتراكم كل هذه الأمور فمن المؤكد أن تكون سعيداً، ومع ذلك كله فسعادة الكتابة بحد ذاتها هي أكبر سعادة.
- هل يجب أن يتوقف المثقف أو الكاتب عن الكتابة والإبداع أو "يستقيل" في مرحلة ما؟
لا، لا يستطيع لأن هذا المثقف هو نفسه الكاتب، أنا أكتب روايات وأكتب نصوصاً وأستمتع، ولكني أيضاً أنا مواطن عربي أشترك في الصحافة، أكتب مقالات أشارك في ندوات لأن المصائر العربية تهمني.
وبالتالي لا يمكنه الاستقالة لأن المثقف جزء منك وله وجهة نظر في كل ما يحدث، في المقابل أنت الروائي، والرواية هي عالم الخصوصية بالنسبة للروائي، بينما الجانب الثقافي هو العالم العام.