"ثقافة الكاسيت في مصر الحديثة".. تحت هذا العنوان أصدر الباحث الأميركي أندرو سايمون دراسته الحديثة عن دار نشر جامعة ستانفورد، والتي يرصد فيها ملامح الدور الذي لعبه شريط الكاسيت في تاريخ مصر الفني والسياسي والاقتصادي، من خلال كونه مؤشراً على تحسن الحياة الاقتصادية أو وسيلة مفضلة للتواصل الأكثر دفئاً بين الأحباء وأفراد الأسرة، إلى دوره في انتشار الموسيقى وصعود جيل جديد من المطربين، ووسيلة للتربح أو التعبير عن آراء سياسية مغايرة لرأي السلطات.
ويتناول الباحث الأميركي سيرة شرائط وأجهزة الكاسيت، معتبراً إياها "تاريخاً" محت الإنترنت والتكنولوجيا أثره، متسائلاً: ماذا سيقول "شريط الكاسيت" إذا تحدث؟
وفي حين اختزل باحثون أهمية أشرطة الكاسيت في أداة وظفها المغتربون لإرسال خطابات صوتية لذويهم، فإن المؤرخ المختص بشؤون الإعلام والثقافة الشعبية في الشرق الأوسط الحديث والمحاضر في "كلية دارتموث" في ولاية نيو هامبشاير الأميركية يعتبرها وسيلة توزيع شعبية، استُخدمت على مدار عقود، وساهمت في تفكيك سيطرة المؤسسات الرسمية على الإنتاج الفني.
حصاد الغربة
ويشير المؤلف إلى انتشار أجهزة وشرائط الكاسيت بشكل كبير في سبعينات القرن العشرين، تزامناً مع سفر أعداد كبيرة من المصريين إلى الدول العربية لامتهان الطب والتدريس وصولاً إلى أعمال التشييد والبناء.
ففي تلك الحقبة، كان جهاز الكاسيت على رأس مشتريات المغتربين العائدين، إذ أورد الكتاب قصة رواها ابن أحد العاملين في العراق، الذي اشترى والده جهاز الكاسيت مقابل 20 ديناراً عراقياً، ثم حرص على التقاط صورة فوتوغرافية بصحبة الأصدقاء مع الجهاز الجديد وإرسالها لذويه في صعيد مصر.
ومن بين الملاحظات التي رصدها المؤلف، حدوث تحول بارز في الرسوم، التي كانت تزين واجهات البيوت في ريف مصر ترحيباً بالعائدين من الحج، حيث تضمنت الرسوم جهاز كاسيت، كعلامة على الرفاهية والقوة الشرائية، التي اكتسبها صاحب المنزل نتيجة عمله في الخارج.
الكاسيت والسادات
ويرصد الباحث الأميركي الحياة الاجتماعية لجهاز كهربائي، عبر صفحات الكتاب، لا سيما بالتزامن مع سياسات الانفتاح الاقتصادي، التي عنونت فترة حكم الرئيس المصري محمد أنور السادات، والتي عبر فيها جهاز الكاسيت بسلاسة من فئة "كماليات البيت الحديث" إلى إحدى ضرورياته.
ويستعرض الكتاب كيفية تفاعل النخبة والمواطنين العاديين مع تلك الظاهرة، عبر الإشارة إلى حرص شخصيات عامة على مصاحبة جهاز الكاسيت خلال الظهور الإعلامي، مع إمكانية تتبع صعود ذلك المشهد في ألبومات صور المواطنين العاديين، الذين تحوّل جهاز الكاسيت المحمول إلى صديق لهم في جلساتهم، وحتى في رحلاتهم الصيفية على الشاطئ أو لتسجيل مناسبات عائلية.
ومن خلال بحث موسّع في أرشيف الصحف والمجلات، استعرض سايمون أكثر من قصة صحافية لمشاهير كان جهاز الكاسيت رفيقهم في الصور الصحافية المصاحبة، مثل المطرب عبد الحليم حافظ، والرئيس أنور السادات، الذي ظهر في قصة مصوّرة تحت عنوان "يوم في حياة السادات" يطالع الجريدة، وإلى جواره جهاز الكاسيت، في ما اعتبره الكاتب "إعلانات مجانية" لتلك التكنولوجيا.
جريمة وتهريب
واستعرض أندرو سايمون علاقة الكاسيت بالجريمة، عبر دراسة حالة للتغطية الإخبارية لثلاث جرائم اتصلت بالكاسيت في الفترة بين أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات من القرن العشرين، وعالجتها مجلتا "روز اليوسف" و"صباح الخير" من خلال عناوين مثل "سقوط عصابة سرقة الكاسيت من السيارات" و"معارض وزارة الداخلية لاستعراض المسروقات المضبوطة".
كما وثقت الأخبار المنشورة في تلك الفترة حضور جهاز الكاسيت ضمن أبرز العناصر في عمليات التهريب، التي وجدت لها منفذاً عبر مدينة بورسعيد، شمال شرقي مصر على رأس المدخل الشمالي لقناة السويس.
وتحوّلت المدينة في تلك الآونة إلى منطقة تجارية حرة، فضلاً عن توفر "الكاسيت المهرب" بحوزة من كانوا يعرفون آنذاك باسم "تجار الشنطة"، وفي متاجر "شارع الشواربي" بوسط القاهرة، التي كانت منفذاً معروفاً للبضائع المهربة.
الدولة والكاسيت
وتزامناً مع الصعود الكبير لشرائط الكاسيت، يوثق الكتاب أيضاً لحالة مجتمعية شاملة، اعتُبرت فيها شرائط الكاسيت المتهم الأول والأخير المسؤول عن التلوث السمعي وفساد الذوق الموسيقي.
وأصبح المطرب الشعبي أحمد عدوية رمزاً لتلك المرحلة لتزامن ظهوره مع بروز آثار "سياسات الانفتاح الاقتصادي"، التي أسفرت عن حالة ثراء سريع للكثيرين عبر القيام بأعمال السمسرة والتهريب وتجارة الكماليات ومغامرات الربح السريع.
وكان الاستثمار في سوق الكاسيت حينذاك واحداً من تلك المغامرات، فقد كان معتاداً أن تمر بمحل جزّار لبيع اللحوم في يوم لتجده في اليوم الآخر قد تحوّل إلى مقر لشركة كاسيت، حتى تضاعف عدد شركات الإنتاج من 20 شركة عام 1975، إلى 365 عام 1987، و500 شركة بحلول العام 1990.
ونددت التغطيات الصحافية بموجة الغناء الهابط والضوضاء المصاحبة لهذا الانفجار في شركات الإنتاج المملوكة لمنتجين غير متخصصين بغرض تحقيق الربح السريع.
عدوية وعبدالوهاب
وينظر الباحث الأميركي إلى الهجوم الكبير على أحمد عدوية في ضوء عداء أكبر تجاه منظومة الإنتاج الجديدة الموازية للنموذج التقليدي للإنتاج الموسيقي، إذ كانت الإذاعة المصرية، ولجنة الاستماع الخاصة بها، هي من تحدد من يصلح للغناء، كما تحدد حتى عدد مرات بث أغنيات مطرب بعينه يومياً وعلى مدار الأسبوع.
وأثارت المبيعات الاستثنائية لشرائط عدوية (40 ألف نسخة من الشريط الواحد) حفيظة زملائه أيضاً، فمنهم من شنوا هجوماً ضارياً على شخصه وإنتاجه الفني من خلال عناوين الصحف، أو حتى في الأوساط الفنية، بحسب الدراسة.
ويلفت الباحث إلى أن الموسيقار الراحل محمد عبد الوهاب هاجم عدوية في بادئ الأمر، ثم تفاوض معه لاحقاً للانضمام إلى شركة صوت الفن، التي امتلكها مع عبد الحليم حافظ، ما اضطر الشركة المنتجة لشرائط عدوية "صوت الحب" إلى رفع أجره لتجاهل عرض عبد الوهاب.
ويختتم سايمون فصله عن عدوية بمفارقة مثيرة، ففيما كانت شركة "صوت القاهرة للصوتيات والمرئيات"، التابعة للدولة، قد جرى تنشيطها في تلك الآونة لإنتاج فن لمواجهة موجة الفن الهابط بمعايير الدولة وقتها، استحوذت تلك الشركة على حقوق ألبومات أحمد عدوية، وباتت منافذها تبيع شرائطه.
أرشيف الظل
وفي حديثه لـ"الشرق"، قال سايمون إن دراسة "وسيط الجماهير: ثقافة الكاسيت في مصر الحديثة"، هي نتاج 10 سنوات من البحث، والتأثر بالفترة التي عاشها في القاهرة بين عامي 2010 و2011، لدراسة اللغة العربية، والتي تركته أسيراً للثقافة الصوتية المصرية حتى بعدما عاد إلى الولايات المتحدة لإتمام دراساته العُليا.
وقدم سايمون في تلك الفترة أوراقاً بحثية عديدة عن شخصيات فنية مصرية، بدءاً من المغني والملحن الشيخ إمام ووصولاً إلى الفنان الشعبي شعبان عبدالرحيم، وكان القاسم المشترك بينها جميعاً "شرائط الكاسيت"، ما جعله يفكر في إعداد الكتاب.
وسعى سايمون، كما يقول لـ"الشرق"، إلى كتابة فصل من تاريخ مصر دون الاستعانة بأرشيفها الوطني، إذ اعتمد على عدد من الأفلام والمذكرات ومنشورات وسائل التواصل الاجتماعي إلى تسجيلات الكاسيت والصور الشخصية ومجلات مثل "روز اليوسف" و"آخر ساعة"، فيما اعتبره "أرشيف الظل" في مصر ومحاولة يرى أنها لفتت انتباهه إلى أنواع مختلفة من القصص، التي تتيحها الأرشيفات الأخرى.
الشيخ إمام والكاسيت
وفي حين مكّنت أشرطة الكاسيت في مصر عدداً غير مسبوق من المواطنين من تحدي الرواية الرسمية، كما حدث في حالة أغنية "شرفت يا نيكسون بابا" للشيخ إمام والشاعر أحمد فؤاد نجم، على إثر زيارة الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون للقاهرة عام 1974، والتي انتقدت حفاوة الاستقبال وتصويره بأنه استقبال جماهيري من الشعب المصري في أول زيارة لرئيس أميركي بعد الحرب، يفترض سايمون أن أشرطة الكاسيت كانت لها حياة اجتماعية حافلة أيضاً في المنطقة العربية.
ويقول: "بالتأكيد كان لأشرطة الكاسيت خارج مصر حياة اجتماعية أيضاً، وما زال هناك المزيد من القصص التي تستحق أن تُروى، ليس فقط عن الكاسيت، وإنما عن كافة الوسائط الأخرى".
ويربط سايمون بين الحديث الجاري في مصر عما يسمى بـ"أغاني المهرجانات" واتهامها بالإسفاف، وما حدث حول ثقافة الكاسيت في سبعينات القرن العشرين، ويرى أن ذلك قد يكون امتداداً لصراع دام عقوداً حول "ماهية الثقافة المصرية ومن له الحق في تشكيلها"، على حد تعبيره.
ويختتم سايمون حديثه قائلاً إنه يستعد حالياً لإعداد كتاب مستقل عن المطرب والملحن الشيخ إمام سيد، الذي أفرد لتجربته قسماً كبيراً من كتابه "ثقافة الكاسيت في مصر الحديثة"، لا سيما أنه يعتبر الشيخ إمام وأحمد عدوية نموذجين يشتركان في أنهما ساهما في تشكيل الثقافة المصرية، رغم محاولة السلطات إسكاتهما.