في عام 2018، أدرج فن الأراجوز على قوائم منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة "يونسكو" للتراث، بوصفه تراثاً إنسانياً مصرياً.
لحظة الاعتراف الأممي سبقتها سنوات طويلة من الجهد، ومقاومة الصور الذهنية للدمية وقيمتها الفنية، وحالياً ينتظر فن الأراجوز مزيداً من التناول العصري لموضوعاته، ونقل خبرات اللاعبين الشعبيين إلى الأجيال الجديدة.
استنكار ثم استلهام
أستاذ ورئيس قسم المسرح في "جامعة حلوان" نبيل بهجت، قاد جهود إعادة الاعتبار لدمية الأراجوز وتراثها ولاعبيها. وقال لـ"الشرق" إنه بدأ رحلته مع الأراجوز وخيال الظل قبل أكثر من 20 عاماً، وكان تبنيه للأراجوز وبحثه في أرشيفه مثار دهشة زملائه في الوسط الأكاديمي، لكن الوضع اليوم يختلف فهو يرصد "تبدل النظرة النخبوية لدمية الأراجوز".
وأضاف بهجت بعد ختام مهرجان الأراجوز المصري الثالث في بيت السناري بالقاهرة: "داخل الجامعة، أو على مستوى التوظيف الفني، يشهد الأراجوز اهتماماً، لا سيما خلال السنوات الـ10 الماضية، سواء من الأعمال المسرحية العديدة التي استلهمته، أو حتى البحث العلمي، فهو اليوم حاضر في أبحاث الأساتذة ورسائل الماجستير وغيرها".
وأشار إلى أن "النظرة المشوبة بالتهاون والإنكار" تبدلت تماماً اليوم إثر إدراج الأراجوز على لائحة "يونسكو"، إذ أصبح حاضراً في المؤسسة الثقافية الرسمية والمؤسسة الأكاديمية ومؤسسات المجتمع المدني على حد سواء، وأصبحت دمية الأراجوز وكذلك فن خيال الظل، بوصفهما من أهم فنون الفرجة الشعبية التي جرى تهميشها لعقود، في قلب المركز الثقافي، وتم إنصافهما مقابل الأشكال المسرحية الأخرى.
جذور فرعونية
بهجت اعتبر أن أحد الآثار الإيجابية لتسجيل الأراجوز، هو الإقرار بمصرية تلك الدمية، وملحقاتها، فالأراجوز لديه 14 دمية ملحقة به، مشيراً إلى أنه في السابق كانت هناك دعاوى بأن الأراجوز وخيال الظل قدما من تركيا إلى مصر، مؤكداً أن العكس هو الصحيح.
وأوضح: "بحسب كتابات ابن إياس (مؤرخ مصري)، وشهادة مؤرخين أتراك حتى، تحرك خيال الظل من مصر لتركيا، حينما شاهد (السلطان العثماني) سليم الأول، المخايل (فنان خيال الظل) يؤدي مشهد إعدام (آخر سلاطين المماليك في مصر) طومان باي".
وأضاف بهجت: "دمية الأراجوز أيضاً مصرية، فأنا أميل إلى أنها تحريف لقراقوش، وكتاب (الفاشوش في حكم قراقوش) لابن مماتة، سخرية من بهاء الدين بن قراقوش وزير صلاح الدين الأيوبي، فضلاً عن الجذور الفرعونية لتلك الدمية".
لاعبون مزيفون
بهجت اعتبر أن الخطر المحدق بتراث الأراجوز حالياً، يتمثل في توقف اللاعبين الشعبيين، مشيراً إلى أنه بعد تسجيل الأراجوز "ظهر عدد كبير من اللاعبين المزيفين بحثاً عن الأضواء، والذين تلقفتهم وسائل إعلام للأسف من دون وعي ووضعتهم في صدارة المشهد كمصدر لتاريخ لعبة الأراجوز".
وأضاف: "الراوي المزيف يدرك التكنيك (الطريقة)، لكنه لا يحفظ النمر (النصوص) التراثية، وقد يستطيع استخدام الأمانة، وهي الآلة المسؤولة عن الصوت المميز للأراجوز، لكنه غير معايش للفنانين القدامى"، أما اللاعبون الحقيقيون الذين اعتبرهم كنوز بشرية متحركة فهؤلاء "تلقوا الفن بالمعايشة ومؤهلين لنقله إلى غيرهم".
وقال بهجت إنه عمل عبر فرقة "ومضة" للأراجوز وخيال الظل للمزج بين اللاعبين الشعبيين وآخرين، بهدف نقل الخبرة إليهم.
وأشار بهجت إلى أن فرقة "ومضة لخيال الظل والأراجوز" طبقت منطق "الأسطى والصبي"، لتمرير تراث الأراجوز وخيال الظل إلى أجيال أصغر سناً تصبح فيما بعد حاملة للتراث.
وأوضح: "من البداية كانت لدي قناعة بأن ورش العمل مهما طالت فهي غير كافية لنقل التراث، ومن ثم اعتمدت على نموذج المعايشة لنقل الخبرة وخلق بيئة تعلم مختلفة، والتي زامل فيها الشباب اللاعبين الشعبيين، فتعلموا منهم، وأرى أن ذلك النموذج قابل للاستنساخ ليس في الفنون الشعبية فحسب، كرواة السير الشعبية، وإنما قد يمتد إلى عدد من الفنون اليدوية التراثية والمنتجات الشعبية التراثية المصرية".
ويفرق بهجت بين أكثر من مستوى لتقديم عروض الأراجوز، أولها الاستعادة، وتتمثل في تقديم الفقرات التراثية القديمة، والتي يعتبرها حقاً للاعب الشعبي الذي يحفظها، أما المستوى الآخر فيتمثل في التوظيف الفني والاستلهام، وهو "حق للجميع، بل ضرورة".
مسرح مكتمل؟
إحدى الإشكاليات التي لا يمل بهجت من طرحها هي ما إذا كان الأراجوز ظاهرة مسرحية، أم مسرح مكتمل الأركان، وما يترتب على ذلك من الإنصاف الأكاديمي للأراجوز خصوصاً، وفنون الفرجة الشعبية عموماً.
وأوضح: "أظن أن الأراجوز لابد أن يعاد النظر له داخل المقررات الدراسية، لأنه حتى الآن يتم تدريسه كظواهر مسرحية وليس كمسرح مكتمل الأركان، إننا بالفعل بحاجة لتخصيص مقررات دراسية له".
وشدد بهجت على أن التعامل على نحو جاد مع تلك الأشكال المسرحية أصبح ضرورة بوصفها مسرح خاص بالثقافة المصرية، موضحاً: "أخذنا تعريف المسرح الغربي وأردنا أن نطبقه على بيئتنا فأخرجنا كل مسارحنا من مفهوم ووعي المسرح، نحن في أمس الحاجة لتدريس تلك الفنون داخل الكليات الفنية، بحيث نستلهمها ونبني مسرحاً وفناً ينطلقان مما نمتلك من معارف".
مستقبل الأراجوز
وفي حين تكافح غالبية الفنون لمنافسة طغيان التكنولوجيا، يراهن بهجت على فنون الفرجة الشعبية واستمرارها، لاسيما الأراجوز وخيال الظل، موكداً أن تلك الفنون تحمل في طياتها عوامل البقاء، فالجمهور يحتاج إلى تفاعل وتواصل مباشر، مقابل ما سماه وسائل "اللاتواصل الاجتماعي".
ويعول بهجت على ذاكرة الجمهور، فكما استمتعت الأجيال بمشاهدة عروض الأراجوز في الماضي، سيواصل الأحفاد الاستمتاع به لأنه جزء لا يتجزأ من ذاكرة الجينات الخاصة بهم، وفق تعبيره.
ويعتبر بهجت أن الاعتراف العربي بالأراجوز جاء مبكراً، إذ استطاعت فرقة "ومضة" أن تفرضه من خلال مشاركاتها المتعددة عربياً، حتى أنه كان بطلاً لعرض افتتاح مهرجان مسرح الطفل العربي بالكويت في عام 2013، كأحد الأيقونات المسرحية.
كما كرمت الهيئة العربية للمسرح رموز وحملة تراث الأراجوز ممثلين في الراحل صابر المصري أحد اللاعبين الشعبين، إضافة إلى التكريم من الشيخ سلطان القاسمي، ودائرة الثقافة بالشارقة، والتواجد المستمر في مهرجانات المسرح بالمغرب وتونس وغيرهم، واستلهام فنانين عرب للأراجوز في عروضهم، معتبراً أن ذلك يؤكد مكانة فنون الفرجة الشعبية المصرية في السياق العربي.
وأضاف أنه بعد التجاهل على مدار سنوات طويلة، نال اللاعبون الشعبوين بعضاً من رد الاعتبار، لكنهم يستحقون التكريم دوماً باعتبار "الفنان الشعبي كنز بشري حامل للتراث".
اقرأ أيضاً: