
تُعدّ الكتابة الشبحية من التيمات المُلهمة لمشاريع فنّية عدّة، يختلط فيها الإبداع بالنقل، تلك العلاقة بين صاحب الكتاب وشريكه السرّي في السرد والبناء والتنميق، وربما الأفكار، كانت وقوداً لأعمالٍ حفلت بالإثارة والخطورة، في مقدّمها فيلم الإثارة السياسية الشهير The ghostwriter لرومان بولانسكي، الذي طُرح في العام 2010، واحتفظ للكاتب الشبحي بنهاية مأساوية.
في مسلسل House of Cards الذي أنتجته شبكة نتفليكس أيضاً، انتهى تداخل الكاتب مع الرئيس الأميركي وقرينته وآخرين إلى عوالمهم السرّية بمصرعه، غير أن المصير المأساوي ليس دائماً الوجه الآخر للكتابة الشبحية، فمواقع الخدمات المُصغّرة تزخر بإعلاناتٍ عدّة لكُتّاب يعرضون خدماتهم نظير أسعارٍ محدّدة، مع إسقاط حقّهم في الملكية الفكرية والأدبية لتلك المواد.
تتّصل ممارسة الكتابة الشبحية على نحوٍ راسخٍ بصناعة النشر والتأليف، فالكاتب الشبحي أو كاتب الظلّ هو الكاتب الذي يلجأ إليه المؤلّف لصياغة أفكاره وإدراجها في كتابٍ أو مقال أو عملٍ إبداعي، مقابل مبلغٍ مادّي متّفق عليه، نظير أن تبقى مشاركته سرّية.
وتتفاوت أشكال تدخّلات الكاتب الشبحي في العمل، فقد يحضر في مسيرة المولّف منذ بداية الفكرة، وقد يجري توظيفه بعد الانتهاء من المسودّة الأولى.
وفي حين يبقى الكاتب الشبحي عادةً مجهولاً، فإن بعض كُتّاب الظلّ أصبحوا معروفين بأدوارهم، فمثلاً شارك الكاتب الشبحي لكتاب دونالد ترمب "فنّ الصفقة" كضيفٍ أساسي في سلسلة وثائقية ترصد سيرة ترمب الشخصية.
كما أنصفت بعض الدراسات الأدبية كاتباً شبحياً ساهم في روايَتَي "الكونت دي مونت كريستو"، و"الفرسان الثلاثة"، المنسوبة للأديب الفرنسي الشهير ألكسندر دوما، الذي يزعم أنه تلقّى عوناً من أوغست ماكيه، الكاتب الفرنسي الآخر الأقلّ شهرة.
تمرّد على السرّية
بعض الحالات التاريخية جاء فيها الوضع معكوساً، إذ كان المطلوب اسماً لا كاتباً، كالروائي وكاتب السيناريو الأميركي دالتون ترامبو مؤلّف فيلم "سبارتاكوس". لقد استعان بأسماء كُتّاب آخرين طيلة عشرة أعوام لتمرير سيناريوهاته، بعد حظره ضمن قائمة سوداء من الكُتّاب الأميركيين، الذين اتّهموه في أعقاب الحرب العالمية الثانية بالتعاطف مع الشيوعية، وازدراء الكونجرس الأميركي.
وفيما أصبحت خدمات الكاتب الشبحي أكثر توفّراً على مستوى العالَم، وخصوصاً عبر الإنترنت، ومواقع الخدمات المصغرة، طارحةً الإعلانات خصائص ومزايا أكثر تنوّعاً من إنتاج مؤلّف يحوز على رضا العميل فقط، كأن يكون المحتوى مدعوماً بخدمة تحسين محرّكات البحث SEO ، أو ضمان أن يقفز الكتاب إلى قوائم الأعلى مبيعاً، تشهد صناعة النشر موجةً من محاولات تمرّد كُتّاب الظلّ على سرّية أدوارهم.
وتُعدّ وظيفة "الكاتب المشارك" Co-writer التسمية الأكثر حداثة لكُتّاب الظلّ على مستوى المنشورات بالإنجليزية، وخصوصاً مع تصاعد الطلب على الكتب الموقّعة بأسماء المشاهير وسيرهم الشخصية في الأعوام الأخيرة.
كُتّاب مأجورون
في الذهنية العربية تحضر فكرة الكاتب العربي في أكثر من عمل، فمسرحية "جلفدان هانم" للأديب علي أحمد باكثير، التي أخرجها للمسرح عبدالمنعم مدبولي، تروي قصّة "عاطف الأشموني" الذي باع روايةً له تحت وطأة الفقر، وعندما اشتهرت بشكلٍ واسع، تراجع عن بنود تلك الصفقة معلناً أمام الجميع أنه "عاطف الأشموني مؤلّف رواية الجنّة البائسة".
وفي جولةٍ سريعة على مواقع الخدمات المصغّرة، كالترجمة والتدقيق والكتابة الشبحية الخاصّة بالمحتوى العربي، يُلاحظ أن غالبية تلك المواقع تختلف بالشكل لكنّها تتشابه في المضمون، فالإعلان عن خدمة مصغّرة ككتابة مقال، أو قصّة قصيرة، أو فصلٍ من كتاب، أو عدد محدّد من الكلمات حول أيّ موضوعٍ، كان نظير مبلغٍ محدّد، عادةً ما يكون 5 دولارات، مع إمكانية طلب المزيد ومضاعفة المبلغ سلفاً.
الملاحظة الأساسية حول تلك المواقع والإعلانات، هي أن الكتابة الشبحية، والتدقيق اللغوي، والتحرير الأدبي والأكاديمي، يختلط كلّه إلى حدّ بعيد في منشورات طالبي الخدمات، والمعلنين عن توفّر الخدمة أيضاً.
ومن نماذج المواقع التي تتيح تلك الخدمات المصغّرة: خمسات، ومستقل، واكتبلي، بخلاف إتاحة خدمة الكتابة الشبحية باللغة العربية في بعض مواقع الخدمات المصغّرة العالمية، كموقع "فايفر"، إذ يمكن أن تجد فيه كاتب ظلّ يكتب لك قصّة أطفال عربية، أو مقال نظير 5 دولارات أو أكثر.
وبالرغم من أن عروض المعلنين تتشابه إلى حدّ كبير، فإن بعضهم يحرص على التمايز عن غيره بالإفصاح عن مؤهّلاته ومهاراته بالتفصيل، وإحدى وسائل التفوّق تلك تتمثّل في كون العارض نفسه قد نشر كُتباً باسمه من قبل، ما يعني أنه خبير بالعملية الكتابية، وقادر على إخراج الكتاب في صورةٍٍ جاهزة للنشر، من دون أن تتعارض تلك الخدمة مع مشروعه الشخصي.
وأدب مستأجَر..
إلى جانب الكتابة الأكاديمية، فإن خدمات الكتابة الأدبية بمختلف ألوانها متوفّرة بشكل كبير على مواقع الخدمات المصغّرة، وذلك تحت فرع الكتابة الشبحية، مثل القصص القصيرة والقصائد وكُتب الأطفال والروايات.
بعض الإعلانات تقدّم أيضاً خدمات تكميلية لتجربة الكتابة، فإلى جانب خدمات التدقيق اللغوي والتحرير، يمكنك العثور على شخصٍ يصحّح الشعر ويضبط الأخطاء العروضية.
"كتابة النثر والخواطر"، بتلك الكلمات اختصر المصري محمد عبدالموجود خدماته على أحد مواقع الخدمات المصغّرة، إذ يصفه الموقع بأنه "بائع نشط".
ويروي عبدالموجود في حديثه لـ "الشرق"، أنه يزاول مهنة الكتابة الشبحية منذ ثلاثة أعوام في فرعٍ يعتبره الأقلّ شعبية لدى طالبي الخدمات، وهو كتابة النثر والخواطر الأدبية، مقابل كتابة المقالات التي تجد الإقبال الأكبر من قِبل طالبي الخدمات.
وبحسب عبدالموجود، فقد زاد الوعي العربي كثيراً بالمهن المتّصلة بالكتابة في الآونة الأخيرة، كما أن تلك المساحة عبر الإنترنت كانت ملائمة للكثيرين ممّن يتوقون للكتابة ولو بثمنٍ بخس ولا يجدون مساحةً للنشر، على حدّ تعبيره.
ويرى أنه لا للكاتب الشبحي من امتلاك مؤهّلات معيّنة كي يزاول تلك المهنة، أبرزها الشغف بالكتابة، يليها الاهتمام باللغة، ثم الإلمام بمبادئ الكتابة الجيدة، وبالرغم من الجدوى المادية لهذه المهنة، لكنّها تحفل بالصعوبات أيضاً.
ويعتبر أن أصعب ما يتّصل بتلك المهنة، تعديلات العميل وصولاً للمسودة النهائية، ويصف لحظة تسليم مسودة الأعمال قائلا: "تصيبني كآبة عندما أسلّم العميل نصّاً أبدعته من بنات أفكاري، وأشعر أنّني ضحّيت به مقابل حفنة من المال. هذا الشعور يلازمني عند كتابة القصص وكلّ ما يحتاج إلى التأليف، أمّا المقالات فلا بأس بها، إذ أستطيع توليد وكتابة ألف مقال".
البحث عن صوت
لا يرى عبدالموجود تعارضاً في كونه "كاتب ظلّ" مع مشروعه الأدبي الشخصي، معتبراً أنه من الجيد كتابة أفكار الآخرين لأن ذلك يحافظ على كفاءة عقلي".
ويعتبر أن المهمّة الأكثر صعوبة هي إيجاد رابط بين الموضوع وكاتبه، "فأنا أرغب دائماً أن أنتج أعمالاً عندما يقرأها العميل يشعر بهذا الترابط وكأنه من كتب النصّ بنفسه، ويمكن أن لا يشعر بهذا الارتباط، فأكون عندها قد أخفقت ككاتب شبحي، وربما نجحت كأديب".
يختلف محمد أحمد، وهو مُعلن آخر عن خدمات "الجوست رايتر" من الأردن، مع عبد الموجود حول مسألة صعوبة الكتابة بأصواتٍ مختلفة، مؤكّداً أنه "يستطيع تغيير الصوت كما يغير بين الشهيق والزفير".
تلك الحالة من الثقة بالمحتوى الذي يقدّمه أحمد عبر حسابه للعملاء، لا تنفصل عن إعلانه الذي يقدّم نفسه فيه "نصّ بجودة تفوق توقّعاتك، عملاؤنا في حالة من الذهول".
من جهته، يعتبر أحمد أن دوافعه للعمل ككاتب شبحي تختلف عن الآخرين، ما يجعل خدماته مميّزة، فهو يتّخذ الأمر كوسيلةٍ للتعرّف على أشخاص من مجالاتٍ وجنسيات مختلفة، مؤكّداً أن هدفه استكشافي وفيه شيء من الدراسة الاجتماعية.
وفيما يقدّم غالبية الكُتّاب الشبحيين "جودة الكتابة" على المهارات التي يجب أن يحوزها من يعمل في ذلك المجال، يختلف معهم أحمد قائلاً "نظرياً المؤهّل البديهي جودة الكتابة، لكن إذا كان النصّ المقدّم ذا جودة مرتفعة فما الذي يدعو مقدّم الخدمة ليمنحها لغيره؟"
خدمات تفوق التوقّعات
وفيما ينفتح أحمد على تقديم خدمات الكتابة بأشكالها كافّة، فإن تأليف الكتب هو اللون الوحيد الذي يتحفّظ عليه، ويلزم نفسه بشروطٍ عدّة قبل الشروع في إنجاز كتابٍ كامل.
ويبرر موقفه هذا إلى كون غالبية العملاء يطلبون كُتباً ستُنشر رقمياً، وخصوصاً عبر موقع أمازون، الأمر الذي يُصعّب مهمّته ككاتب، فينطوي الأمر على تنافسية شديدة، فضلاً عن صعوبة التنبّؤ بآلية عمل الخوارزميات التي تتحكّم بموقع الكتاب على الموقع، وظهوره في الصفحات الرئيسية.
إلى ذلك، فإن امتهان محمد للكتابة الشبحية لا يجعله قلقاً على مشروعه في الكتابة، ويقول "مستوى الخدمة التي أقدّمها يتفوّق حتى على توقّعات عملائي، لدرجة أن بعضهم حينما يجدني مشغولاً يفضّل أن ينتظرني شهوراً بدلاً من اختيار كاتبٍ آخر، كلّ هذا وأنا أكتب عمداً بأدنى مستويات طاقتي الإبداعية، فأقصى مستوياتي يحمل بصمتي في الكتابة، أو أسلوبي الشخصي".
جُهد مشترى
يشرّح أستاذ الأدب والنقد في جامعة حلوان الناقد الدكتور صلاح السروي لـ "الشرق"، أن ظاهرة الكتابة الشبحية هي نوع من سرقة الجهد، أو بالأحرى شراء الجهد دونما وجه حق، معتبراً أن الكتابة الشبحية لا ينطبق عليها تعريف الإبداع.
يضيف: "الإبداع ليس فقط أن تمتلك أفكاراً ولكن أن تمتلك القدرة على صياغتها أيضاً، ومن ثم في حالة الكتابة الشبحية فالإبداع منقوص لو أن صاحب الكتاب ليس لديه تلك القدرة".
ويرى أن "المبدع عندما يقوم بصياغة فكرته، تتداعى إليه أفكار أخرى تكون في ذهنه. نحن في النقد نقول الكتابة الأولى هي الكتابة الأخيرة، فإذا كتبت رواية أو قصيدة وضاعت منك، ثم حاولت إعادة كتابتها، تخرج في ثوبٍ آخر كأنها عمل جديد، فالكاتب ليس صاحب الفكرة، إذ إن أيّ فكرة تُقال في حديثٍ عابر قد تقع في يد كاتبٍ حقيقي يُخرج منها عملاً مهمّاً".
ويلفت إلى أن "التحرير الأدبي وظيفة معتبرة مثل المحرّر الصحفي، مهمّته تصويب العبارات، وتدقيقها من دون المسّ بصلب الموضوع".
ويؤكّد أن مساهمات المحرّر الأدبي في سياق كتب السير الذاتية، تقع ضمن دائرة مهامه، ويمارسها من باب التحرير الأدبي، وليس الكتابة الشبحية، موضحاً أن نشر مذكّراتٍ شخصية مثل مذكّرات الموسيقار محمد عبدالوهاب، أو حتى مؤلّفات اعتماد خورشيد، لا بدّ وأنها خضعت للتحرير الأدبي، كي تكون مقروءةً وخاليةً من الالتباسات والتكرارات التي تتميّز بها كتابات غير المحترفين.
معضلة نقدية
الكتابة الشبحية في غير حقول السِير الذاتية والمذكّرات بحسب السروي، من شأنها أن تخلق ما يشبه المعضلة النقدية، لا سيما إذا أصدر الكاتب أكثر من عمل، مستعيناً فيها بأكثر من كاتبٍ شبحي، إذ تتعدّد الأصوات، وتغيب البصمة الشخصية للأديب.
ويقول"من يشتري الإبداع ولو كان قصيدة أو رواية، وينسبها لنفسه، عادةً ما يكون صاحب العمل الواحد، أو الأعمال القليلة، وأيّ ناقد على قدرٍ معقول من الخبرة، يسهل عليه اكتشاف أنّ هذه الأعمال لم تنتجها قريحة واحدة، لأن العمل الأصيل يحمل جزءاً من روح صاحبه وتجربته".
بدوره، يرى أستاذ النقد الأدبي في جامعة الزقازيق الناقد الدكتور مدحت الجيّار، أن الكتابة الشبحية ظاهرة قديمة موجودة في كلّ المجتمعات، وفي كلّ أنواع الأدب، وعلينا أن نتقبّلها و ننتقدها في الوقت نفسه.
ويعتبر أن المعضلة الأولى التي تفجّرها الكتابة الشبحية تتّصل بشخصية المبدع، وتحوّله إلى وهم أو شبح. وفيما يعتبر أن ممارسة الكتابة بصفةٍ عامّة هي فعل مشروع مهما كان شكلها، يرى أنها يجب أن لا تتعارض مع قيمٍ فنّية أو أخلاقية.
اقرأ أيضاً: