
تستضيف قاعة الزمالك للفنون في القاهرة، معرض "حكمة الظل وبراءة النور" الذي يجمع باقة من أعمال الفنان محمد شاكر، تتنوع بين جداريات تنتمي إلى فئة التصوير باستخدام ألوان الزيت على الخشب، وبين أعمال "السمبلاج".
ويعتبر "السمبلاج" من الفنون البصرية التجميعية التي تعتمد على تجميع تراكيب فنية ثنائية وثلاثية الأبعاد، بما في ذلك الاعتماد على العناصر المصنعة، مثل العملات المعدنية أو الأواني وغيرها من المواد التي لم يكن الهدف من تصنيعها أن تصبح مادة فنية.
وانطلقت فعاليات المعرض في 18 سبتمبر الماضي وتستمر حتى 10 أكتوبر الجاري.
وفيما تعكس أعمال التصوير بالمعرض شغفاً خاصاً بالطبيعة وتشخص عناصرها، تأتي أعمال "السمبلاج" محتفية بخامات بعضها من الطبيعة، والبعض الآخر من المخلفات الصناعية، لتصبح نموذجاً للفن "الصديق للبيئة".
على هامش قمة المناخ
وترتب على فكرة المعرض دعوة الوسط التشكيلي المصري، من جديد لإشراك أعمال الفنان محمد شاكر، العميد الأسبق لكلية الفنون الجميلة بجامعة الإسكندرية، في معرض على هامش قمة المناخ التي تستضيفها مدينة شرم الشيخ في نوفمبر المقبل.
فمنذ الخطوات الأولى للمعرض، يحضر التأصيل الفكري للأعمال بشكل واضح، وكأن الفكرة والعمل الفني يسيران جنباً إلى جنب، فالفنان محمد شاكر، يصدّر المعرض بقصيدة من تأليفه، تشي بعلاقته اتجاه الطبيعة والموجودات التي أثمرت كافة أعماله المتجاورة على الجدران.
وقال شاكر في حديثه مع "الشرق"، إنه "يرى من عنوان المعرض (حكمة الظل وبراءة النور)، ربما معنى أشمل من تجربته التشكيلية، وليس عاكساً لها فحسب".
وأضاف: "في تجربتي، الفكرة العقلانية هي من تحدد الرداء الحسي"، معتبراً أن الفترة ما بين بزوغ الفجر وشروق الشمس، والفترة بين الغروب ودخول الليل، مناطق استخدمتها الطبيعة لتغذي تجربته، بوصفها معلمه وأستاذه الأول.
وتمتد علاقة شاكر بالطبيعة إلى سنوات طفولته وصباه بجزيرة الورد بمدينة المنصورة في دلتا مصر، حيث كان يستلقي في شرفة فسيحة ويسلم بصره للسماء، آنذاك.
ويعتبر شاكر، أن "النقائية" كمنهج واتجاه جعلته يتجه دون قصد لحالة فلسفية متصوفة، رغم ولعه بالقراءة، لكن التأمل كان سيداً لثقافته وصل من خلاله لتلك الرؤية المعنوية.
و"النقائية" هي حركة فنية قامت بين عامي (1918-1925) في فرنسا وأثرت على الرسم والعمارة الفرنسية. أسست في محاولة لإعادة النظام إلى فرنسا التي مزقتها الحرب العالمية الأولى.
هوية
وفي ما يشمل المعرض أعمالاً تنتمي لفئة التصوير إلى جنب أعمال "السمبلاج"، فإن مراجعة التتابع الزمني لتلك الأعمال تعكس صراعاً خفياً لشاكر خلال رحلته، يٌلاحظ بين الخامة واللون على مدار سنوات، انتهت بمصالحة ومزاوجة في أعمال "السمبلاج" الأخيرة.
وتُعد الملامس والبروز هوية واضحة لأعمال التصوير الموجودة بالمعرض، تظهر فيها جلية ضربة الفرشاة بألوان الزيت على سطح اللوح الخشبي أو الكانفاس (لوح قماشي)، لتتخذ بعض عناصر اللوحات أبعاداً ثلاثية، كأنها تريد أن تنطق، أو تتجسد فتفر من اللوحة.
أما أعمال "السمبلاج"، فتتميز التجارب الأولى بأنها غالباً معتمدة على خامات في صورتها الأصلية، دون تدخلات لونية، كالحجارة، أو الأصداف البحرية، أو الرمال، وغيرها، لتأتي المرحلة اللاحقة، لا سيما الأعمال التي جرى تنفيذها في العامين الأخيرين، حافلة بانفتاح واسع على المزاوجة بين الألوان والخامات، فضلاً عن التواصل مع المزيد من الخامات غير المتوقعة.
تلك الحالة يفسرها شاكر في حديثه لـ"الشرق"، بأنه كان مولعاً بالملمس من بداياته، فالألوان في بعض لوحاته بارزة، وكأنها تود أن تكون خامة، وليس مجرد صبغة على سطح اللوحة.
لاحقاً، شغلت شاكر تقنية الفسيفساء (الموزاييك)، ولكن ليس باستخدام خاماته التقليدية، كالأزمالدو والأحجار، وإنما استعان بمخلفات وأشياء ملتقطة من الشطآن.
وقال شاكر إن مرحلة الفسيفساء مهدت لشغف أكاديمي في رسالة الماجستير عن تاريخ وتقنية التصوير الجداري، لتأتي تجربة الدكتوراه بكلية الفنون الجميلة، مسجلة 39 تجربة لاستخدام البقايا والمخلفات داخل الإطار الفني.
بينما حرص في مرحلة التوظيف الأولية، على ألّا يمتزج اللون بالخامة أبداً، حيث أراد أن تكون الخامات، البطل على مدار سنوات دون تدخل، مشيراً إلى أن التجربة راقت للكثيرين، وشهدت إقبالاً من المقتنيين العرب والأجانب.
"غزارة التفاصيل"
المتابعة الزمانية لـ"حكمة الظل وبراءة النور"، تشي أيضاً بغزارة في أعمال "السمبلاج" خلال العامين الأخيرين، لا سيما والعمل الواحد يتسم بغزارة في التفاصيل والعناصر، وربما بعض الأنماط التكرارية التي تستلزم جهداً في التجميع، كالمفاتيح، أو الأقفال، أو حتى الأربطة، ومخلفات لمبات الإضاءة، وغيرها.
ورغم ذلك، يجد شاكر صعوبة في تحديد زمن استغراق تنفيذ العمل الواحد، مؤكداً أنه لا يمتلك رحلة واضحة المعالم مع العمل بدء من الإلهام حتى التنفيذ، غير أن العمل هو الذي يرتحل في إلهامه، وفق تعبيره.
ويوضح "دائماً تثيرني أشياء لم تخطر لي على بال، خصوصاً في التعامل مع الخامات.. يعني أحياناً الخامة تثير في تساؤلات وأفكار وحلول، بمجرد أن أقلبها وأضيف قد أغيرها وعشرات المرات، وقد تنتهي في دقائق، لكي تصبح إبداعاً، شديد البلاغة والبساطة في دقائق".
خلاف مسيرة العمل وصولاً للفكرة، فإن شاكر معتاد أن يبدأ العمل ولا ينهيه، أو وفقاً لقاموسه، يتركه منتظراً للتراكم والبناء، وفيما قد ينفذ تقنيات تحتاج لساعات وأيام وربما أسابيع ليتم تصليبها، والتدخل بالحذف والإضافة والتلوين، تتولد "عِشرة" بينه وبين العمل الفني.
ويستطرد: "بعض الأعمال زمن تنفيذها يجاوز السنة، وأحيانا أتركها لأنني لم أجد ما كنت أبحث عنه".
العمر الآخر، في عُرف تلك الأشياء الملتقطة والمنسية، هو كرامة لها، بحسب شاكر، الذي يفضل ألا تتعرض للإهمال والتحول لمخلفات، بل أن تزدان بها المتاحف والمعارض، في صورة يعتبرها "قمة الأداء الإنساني"، مؤكداً أن رسالة الفنان تجعله دوماً يمتلك الذكاء الذي يدعم الحياة للأشياء ويهبها صفة الديمومة والخلود، وما أكثرها.
تلك العادة اكتسبها شاكر، خلال ممارسته هواية الترحال الدائم، لا سيما في الأطلال والأماكن المهجورة، ولأحضان الجبال التي يروي التاريخ الطبيعي حياتها السابقة، فربما كانت قاع محيط أو بركان خامد في عصور سحيقة.
ويشرح: "كنت أقتني تلك البقايا التي تقذفها براكين الصحاري في مصر التي أعتبرها مناجم خامات، فيها الملمس واللون، الطبيعة هي أعظم مراكز الخامات الفنية".
فن صديق للبيئة
وتتقاطع أعمال شاكر من فئة "السمبلاج" مع تيار عالمي من الدعوة لإنتاج إبداعات تشكيلية "صديقة للبيئة"، ففيما تُعد قضايا المناخ والبيئة همّاً عالمياً مشتركاً، تجد نغمة الفن صديق البيئة صدى واسعاً.
ويعتقد أن علاقته بمصطلح الفن صديق البيئة تمتد إلى ما قبول بزوغ نجم المصطلح، فيقول: "طوال عمري وقبل ظهور المصطلح، كان لدي يقين أن كل شيء لابد أن يكون صديقاً للبيئة، ويؤرخ لإدراكه".
وأشار شاكر إلى تأثره بكتاب "Future Shock"، الصادر في السبعينيات للكاتب الأميركي آلفين توفلر، والذي لفت مبكراً إلى فداحة الآثار الجانبية لكل تقدم تقني وعلمي وصناعي أحرزته البشرية، لا سيما بدء من القرن التاسع عشر.
ويختتم قائلاً: "صدمة المستقبل أثر على جيل كامل دون أن يدري توفلر الثورة التي أحدثها في الفكرة الإنساني، وأسس لضرورة أن يكون كل ما يقوم به الإنسان صديقاً للبيئة بنقاءها وبراءتها"، معتقداً أن "الفن صديق البيئة، كمصطلح، ربما تكون قيمته أكبر من حروفه ومن شكله، ورسمه".