
كشف الصحافي والإعلامي السعودي محمد رضا نصر الله، أنه لم تكن هناك أي قيود على الحوارات التي كان يجريها أو إملاءات أو "تسييس"، سواء من المؤسسة الإعلامية الرسمية، أو من الضيوف أنفسهم، بل كان يحاورهم بكل شفافية والحجّة بالحجّة.
"الشرق" التقت نصر الله في هذا الحوار الذي استعرض فيه شؤون تجربته الغنية وشجونها:
بحكم تجربتك الطويلة في مجال الثقافة ما الفرق بين مثقّفي الأمس واليوم برأيك؟
الكثير من الأدباء والمفكرين الكبار، أمثال العقّاد وطه حسين وأحمد أمين حفروا تجاربهم بالعصامية والدأب المعرفي، واتّسموا بالثقافة الموسوعية، وهذا لم نعد نراه اليوم، بل أصبح يغيب عن مداولات المفكّرين والنقّاد والروائيين على وجه الخصوص، وأصبح الجيل الجديد أكثر تخصّصاً في قضايا المعرفة المختلفة.
تحدّثت عن الثقافة الموسوعية والثقافة المتخصّصة، أيّهما أكثر تأثيراً؟
التخصّص يشبع الموضوع بكل تأكيد، لكن الكاتب لا يستطيع أن ينقطع أو ينفصل عمّا كتبه المثقّفون الموسوعيّون، من أمثال أحمد أمين على وجه الخصوص وطه حسين، وحين أقارن بين ما كتبه أحمد أمين في "إسلامياته" الشهيرة، وبين ما طرحه المفكّر المغربي الدكتور محمد عابد الجابري في مشروعه "نقد العقل العربي"، أجد أنه استفاد من الإجراءات المنهجية الفرنسية تحديداً في تفكيك الخطاب، كما استند إلى جملة المعارف التي قدّمها أحمد أمين وحده من دون فريقٍ من الأكاديميين لمساعدته. كما أن طه حسين في "حديث الأربعاء" مثلاً، كان يتمتّع بالموسوعية على الرغم من تخصّصه الأكاديمي. كذلك العقّاد، فإذا احتكّمنا للمعيار النقدي، فسوف يبقى كتابه الشهير "ابن الرومي" من أوائل نقّاد الأدب الذين توسّلوا بالتحليل النفسي، علماً أن ذلك ليس تخصّصه، إلّا أنه أضاف وأبدع في هذا المجال.
تجربة غنية
كيف تنظر إلى تجربتك في الصحافة الثقافية ثم البرامج التلفزيونية؟
في عِلم الصحافة هناك الصحافي المُخبر، والصحافي المحلّل في السياسة، سواء المحلّية أو العربية أو العالَمية. وهناك أيضاً الصحافي المهتمّ بقضايا الأدب والثقافة، ولأني جئت من بيت يهتمّ بالكتاب ويتذّوق الأدب شعراً ونثراً، وجدت نفسي أميل لهذا اللون من الصحافة، ونحن نختلّف كثيراً عن الغرب، فالصحافي الغربي يتخصّص في جانب معيّن ويستمرّ فيه، أما على صعيد التلفزيون فكانت البداية عام 1974 حين سافرت إلى القاهرة لأرى توفيق الحكيم ونجيب محفوظ، وبالفعل أتيح لي ذلك، وحين كلّفت بإعداد وتقديم برنامج تلفزيوني في العام 1978 بعنوان: "الكلمة تدقّ الساعة"، قرّرت أن ألتقيهما في حوَارين، ثم استضفت زكي نجيب محمود، ويوسف إدريس، وغيرهم من الأسماء اللامعة.
أجريت حوارات مع أسماء مهمّة في الثقافة والأدب والسياسة، كيف تستعد لمحاورة ضيوفك على اختلاف تخصصاتهم؟
القراءة، ثم القراءة، على الرغم من أن مصادر المعرفة لم تكن متوفّرة ومتاحة كما هي الآن، ومع ذلك كنا نقرأ الجديد ونتابع ما يُكتب في المجلات في العالم العربي، سواء في القاهرة أو بيروت أو بغداد. فضلاً عن الكتب التي كنا نجلبها من خارج المملكة، وغالباً ما يستوقفها الرقيب في المطار. اليوم، وبـ"ضغطة زر" تستطيع توفير المادّة التي تريدها، وما أخشاه أن هذه السهولة في الحصول على المعلومة تجعلها سريعة التلاشي. وأعتقد أن القراءة لم تعد هدفاً في حدّ ذاته، القارئ يقرأ الرواية اليوم وهو ينتظر الحافلة أو المترو وكأنها قضاء للوقت، بينما في السابق كنا نسامر الكتاب مسامرةً، ونشبعه نقاشاً. ولذلك أحسب أن المعارف لدى جيلي ومن سبقونا ترسّخت في أذهانهم واستقرّت، سواء كانت في الشعر أو المسرح أو حتى السينما.
من يشاهد حواراتك مع كبار المثقّفين يدرك أن لديك إلماماً واسعاً بما يتحدّث عنه الضيف، فهل تعزو ذلك إلى الإعداد الخاصّ بكل حلقة؟
قبل أي لقاءٍ مع أي ضيف لا بدّ أن تقرأه جيداً وتطّلع على تجربته. إذ ليس من المنطقي أن تحاور شاعراً كبيراً مثل (محمد مهدي) الجواهري من دون أن تطّلع على شعره وتقترب ممّا سجّله في مذكّراته من مواقف سياسية واجتماعية. يجب أن يكون الحوار سجالاً بينك وبين الضيف، لا أن تسأله مجرّد سؤال ميكانيكي أو تقليدي، وهذا السجال هو ما يعطي المقابلة حيوية، وهناك من يتقبّل هذا السجال بصدرٍ رحب.
لا خطوط حمراء
خلال مسيرتك الطويلة، لا بد أنك التقيت من يتبنّى آراءً قد لا تروق لبعض الجهات المسؤولة، فهل كان يتم الاتفاق مع بين الضيف على خطوط حمراء محدّدة؟
إطلاقاً، بل كانت الحجّة بالحجّة، هناك صورة متخيّلة عن تسييس الإعلامي، لم تكن هناك أي قيود لا من المؤسسة الإعلامية الرسمية، ولا من الضيوف, كنت أحاورهم بكل شفافية، ويمكن التأكد من خلال قراءة الحوارات في كتابي "حوارات القرن" المكون من 3 أجزاء وصدر أخيراً وجمعت فيه 150 مقابلة وهي التي استطعت جمعها من بين المقابلات الصحافية والتلفزيونية التي تصل لقرابة 1000 مقابلة، ومن يطلع عليها سيجد أن الحوار لم يرتهن لأي قيود أو ضغوط وسيجد الأمر جلياً. أحياناً كانت تأتينا بعض الملاحظات أثناء اللقاءات، أتذكر في لقائي مع الأديب المصري توفيق الحكيم عام 1978 تطرّقنا لموقفه من قضية السلام بعد "كامب ديفيد"، وحينها أوقف البرنامج لمدّة دقيقة ونصف تقريباً، لكنه سرعان ما عاد البث، وبعد انتهاء الحلقة وجه الملك فهد رحمه الله وكان آنذاك ولياً للعهد، وزير الإعلام السعودي الدكتور محمد عبده يماني رحمه الله، بالظهور لتوضيح موقف المملكة من قضية "كامب ديفيد".
لماذا تمّ إيقاف برنامجك بعد لقاءٍ أجريته مع الأديب المغربي محمد شكري صاحب رواية "الخبز الحافي" المعروفة؟
عندما أجريت لقاءً مع الروائي المغربي محمد شكري، تم إيقاف البرنامج لمدّة 4 أسابيع. وبعد ذلك استنكر الملك الراحل فهد بن عبد العزيزي انقطاع البرنامج، على الرغم من أنه كانت لديه ملاحظات على الحوار المذكور. ولقد سأل رحمه الله (وين البرنامج؟) وعندما علم بأنه تم إيقافه فأمر باستئناف البث. ومنذ ذلك الوقت، حتى استكملت جميع المقابلات على مدى 5 سنوات لم يأتنا سؤال واحد على الإطلاق. والحقيقية أن القيادة السعودية بشكل عام كانت سعيدة بأن من أبنائها من يحاور كبار المفكرين والأدباء في العالم العربي. وكنت ألمس هذا الاحتفاء سواء بشكل مباشر من الملك سلمان حفظه الله الذي كان متابعاً للحركة الثقافية والإعلامية، أو ما كان يصلنا بشكل غير مباشر من الملك فهد رحمه الله. وكنت أسعى من خلال هذه الحوارات إلى تفتيت الصورة التقليدية، وإشعار الآخرين بأن في المملكة جيل جديد من أساتذة الجامعات والمفكّرين والأدباء، وهذا ما لمسناه من قِبل أبنائنا المبدعين والمبدعات الذين حصلوا على جوائز "بوكر" وغيرها من الجوائز الدولية في مجالات شتى.
إعلامي ولست أكاديمياً
لماذا لم تتجه للتأليف طيلة السنوات الماضية باستثناء المقالات؟
بسبب الكثير من الانشغالات، فقد بدأت كاتباً مهتمّاً بقضايا الأدب والنقد، وكانت لدي زاوية يومية بدأتها منذ عام 1979 بعنوان: "رؤية" في الصفحة الأخيرة من جريدة "الرياض". بعد ذلك تحوّلت إلى زاوية "أصوات." وفي المحصّلة أنا إعلامي ولست أكاديمياً.
كيف ترى الحراك الثقافي الذي تشهده المملكة في الفترة الأخيرة؟
ما تقدّمه وزارة الثقافة في المملكة مبشّر جداً في إطار رؤية 2030، كذلك برنامج التحوّل الوطني الذي أصبح يفتح النوافذ على الجهات كافة في العالم، وهذا أمر مهمّ، فالمملكة تمتلك من عناصر القوى الاستراتيجية ما يجعلها رائدة في القوى الناعمة أيضاً، وهي بلد فيه الحرمين الشريفين وفيه مواريث العرب.
* الصحافي والإعلامي السعودي محمد رضا نصر الله:
- بدأ رحلته عام 1974 كاتباً في صحف عدة منها: "الرياض"، و"اليوم"، ثم مجلة "اليمامة"
- عام 1979 بدأ زاويته اليومية بجريدة "الرياض"، والإشراف على الصفحات الثقافية وصفحات الرأي.
- أصبح مديراً لتحرير "الرياض الأسبوعي".
- يقدم برامج على شاشة التلفزيون السعودي وقناة "MBC" منذ نحو 3 عقود.
- في عام 2005 تم تعيينه عضواً في مجلس الشورى السعودي واستمرار على مدى 3 دورات متتالية.
- يشغل منصب الأمين العام للهيئة الاستشارية للثقافة في وزارة الثقافة والإعلام السعودية.
اقرأ أيضاً: