
رغم أن البعض قد يستبعد أن تحتوي الثقافة العربية، لا سيما المتصلة بمنطقة الجزيرة، إحالات تراثية عديدة للماء ومصادره والممارسات الشعبية المتمحورة حوله، وحتى اللغة المنطوقة والفنون، بالنظر للطبيعة الجغرافية للجزيرة العربية، إلا أن كتاباً جديداً يثبت عكس ذلك.
هذا ما يتناوله بالتفصيل كتاب "الماء في التراث الشعبي العربي"، للباحث المصري الدكتور مصطفى جاد، عميد المعهد العالي للفنون الشعبية بأكاديمية الفنون في القاهرة وخبير صون التراث غير المادي.
وصدر الكتاب على هامش فعاليات ملتقى الشارقة الدولي للراوي في دورته الـ22 التي حملت اسم "حكايات البحر"، وضمن إصدارات معهد الشارقة للتراث، فيقدم رحلة مكثفة في علاقة الماء بالتراث الشعبي في العالم العربي، الحاضر في كرامات الأولياء السائرين على الماء، والكائنات فوق الطبيعية التي تعيش في البحار والأنهار، فضلاً عن دلالاته الخاصة في الأحلام، وحضوره الخاص أيضاً في الاحتفالات الشعبية العديدة بالشرق الأوسط لأغراض متباينة.
ويعتبر جاد أن جهوده في ذلك الكتاب، الذي يضم 200 صفحة، ما هي إلا محاولة من اجل "لملمة شتات" للتراث الشعبي العربي المتعلق بالماء، يصلح أن يكون تمهيداً لإجراء دراسات متخصصة في كل مجال على حدة، فيما يوصي بإعداد أدلة عمل ميداني متخصصة في جميع عناصر الموضوع.
وإذ يعترف خبير التراث غير المادي بأن موضوع الماء في التراث يحتاج إلى الكثير من الجهود الجماعية وعشرات الدراسات والأطروحات، يعتقد أن الوقوف على رؤية الجماعة الشعبية للماء بأشكاله المتنوعة سوف تسهم بشكل فعال في الجهود العربية والعالمية للاحتفاظ به وتوظيفه لمصلحة المجتمعات العربية.
فلكلور الماء
يؤصل "الماء في التراث الشعبي العربي" للحضور القوي للماء حتى في الميثولوجيا والمزاج الأسطوري العربي، فعلى سبيل المثال، الجبل الأسطوري قاف، الوارد بعدد من المصادر العربية القديمة، أحد عناصر نظام الكون عند العرب والمحيط بالكرة الأرضية، هو نفسه محاط بسبعة بحار متحدة المركز ومتشابكة.
بخلاف الميثولوجيا والأسطورة، يتناول الكتاب فلكلور الماء بأنواعه المختلفة، وفي فصله الأول يتطرق للماء في المعتقدات والمعارف الشعبية؛ فهو مصدر للطهارة ووسيلة للعلاج.
وفيما تؤثر الدعوة لشرب ماء البحر في عديد من المواضع كناية عن الزخر أو المعاقبة لمن يلقي بالاعتراضات دون مبرر، يمثل شرب ماء البحر في بعض المواضع علاجاًشعبياً.
ويشير الكتاب إلى "السبع موجات"، الممارسة العربية المنتشرة في بيئات عربية عديدة، كأحد الممارسات العلاجية التي تعتمد بالأساس إلى الغوص في ماء البحر.
كما يشير أيضاً إلى ممارسة علاجية أخرى، يمارسها عادة صيادو الأسماك، وهي شرب ماء البحر لكن من الأعماق والمواقع البعيدة بغرض الاستشفاء أيضاً.
ويتصل هطول المطر كذلك بممارسات فلكلورية عبر مسميات عديدة لكل بيئة على حدة، يوردها الكتاب بالتفصيل، وتدور غالباً حول فعل الاستستقاء: كطقس "أم الغيث" في كثير من الدول العربية، وطقس "احتفال السحاب" بموريتانيا، "وصلب العدة" في سوريا، وطقس "روب توغ" بشرق إفريقيا، و"أم قطمبو" في ليبيا، و"تاسليت" و "بو غُنجة" بشمال إفريقيا.
وتتضمن السيرة الأسطورية لملك اليمن سيف بن ذي يزن بدورها روايات حول نشوء نهر النيل، التي تربط بين الملك العربي المبجل وسريان المياه في مجرى النيل، إذ علق مقشة في ذيل فرسه وانطلق من الجنوب إلى الشمال فحفر مجرى النيل المعروف، بحسب الأسطورة.
ما ورائيات مائية
ومن سيرة ذي يزن إلى السيرة الهلالية، تتصل عيون الماء وبرك الاستحمام على سبيل المثال بمشاهد ملحمية مستقبلية، فميلاد بعض الأبطال يجري التنبؤ به قرب بركة استحمام، تؤمها الطيور للشرب، والفتيات للاستحمام.
ويتطرق "الماء في التراث الشعبي العربي" أيضاً إلى العديد من المأثورات الماورائية حول الماء في البيئات العربية المختلفة، من تلك الممارسات "كب الماء"، والتي تبرز في مواضع متفرقة، ككب الماء وراء المسافر، والذي يعد مثار تشاؤم كناية عن أن المسافر لن يعود، كذلك السمات العلاجية لماء بئر زمزم، والتبرُك به، كاستخدامه في "طاسة الاسم" بالبحرين مثلاً، والمستخدمة في شفاء المرضى.
ويورد الكتاب نماذج عديدة من الكائنات فوق الطبيعية المتعلقة بالماء، والراسخة في تراث العرب، كأم الشعور، الجنية الساكنة للبحر والتي تسحب إليه من يسير بمفرده إلى جوار البحر ليلاً، يماثلها كائن "بابا درياه" بالخليج العربي، و"روعان" في الإمارات، و "الجرينة" في فلسطين، و"النداهة" في مصر، ويشتركون جميعاً في تشكيلهم خطراً على البشر، وسكناهم المياه.
ويتصل السير على صفحة الماء، باعتباره كرامة ومعجزة، في التراث العربي الشعبي غالباً بالأولياء والصالحين، كما هو منسوب إلى الخضر والعلاء بن الحضرمي.
كما أن أضرحة الأولياء عادةً، وفقاً للكتاب، تمتلك سفناً، بدعوى أنها تمكن الأولياء من القيام بواسطتها برحلاتهم البحرية، كما يحدث في مولد أبي حجاج بالأقصر المصرية.
والبحر خصوصاً، دون سائر مصادر المياه، يرتبط لدى العرب باستشراف المستقبل والتنبؤ به، حتى أن فصلاً من الكتاب حمل عنوان "البحر والتنبؤ بالمستقبل"، ليبين أن الأمر يبدأ من ممارسات البحارة في استشراف الطقس بعرض البحر من خلال علامات محددة، ويمتد إلى هدية البحر "الودع"، وممارسة "ضرب الودع"، أو "ضرب الرمال"، وهي ممارسة شعبية تشتهر بها نساء الغجر بهدف استشراف المستقبل.
قاسم مشترك
ويعد الماء قاسماً مشتركاً في عشرات من العادات وتفاصيل الحياة اليومية العربية، والتي يتوسع في إيراد نماذج منها "الماء في التراث الشعبي العربي"، والتي إن يكُن أغلبها معروفاً، فإن وضعها بين دفتي كتاب يشير لأي مدى تحتفي البيئات العربية بعنصر الماء، احتفاءً يصل حد الإجلال في بعض الطقوس، يشي بقدسيته في تلك الثقافات.
وبخلاف عادات العرب المتصلة بالماء في الميلاد، تعتقد الجامعة الشعبية أن للماء دور في علاج بعض العلل لدى الأطفال عبر بعض الطقوس، منها ما حضره الباحث صغيراً وأورده بالتفصيل في كتابه، حينما قامت نسوة العائلة بممارسة دق الماء في الهون لطفل متأخر في الكلام "عشان محمد يفسر"؛ كما ينص الحوار الذي يجري خلال ممارسة الطقس.
ولا تخلو طقوس الزواج أيضاً من الماء، بدءاً من حمام العروسين الذي عادةً ما يجري في الحمامات الشعبية، وصولاً إلى طقوس أكثر تعقيداً، كإلقاء الشعير المطحون بالبئر طلباً للبركة للأسرة الجديدة، أو حتى "موكب السيرة" الطقس السوداني الذي ينتهي إلى نهر النيل، ويتخلله أغنيات السيرة التي تغنى في موكب العروس المزين بسعف النخيل.
أما في الخليج العربي، فتكاد تماثل احتفالات "الحية بية" أو"الدوخلة" أضاحي الحجاج بمكة، لكن في صورة سلال تحتوي على حبوب سريعة النمو، يقذفها الأطفال في البحر ليلة عيد الأضحى على سبيل الأضحية.
وهناك احتفال شعبي مصري آخر يتصل بتجدد المناخ يعرف باسم "رعرع أيوب"، ويجري فيه تدليك الجسم بنبات الرعرع البري والاغتسال في البحر، اعتقاداً في قدرة ذلك الطقس على تجديد الطاقة والحيوية.
أما في احتفالية "استغفرولو" الصومالية، فتشارك الجماعة الشعبية في طقس جماعي بغرض تهدئة البحر والرياح، بحسب ما يورد الكتاب.
ولعل من أشهر الاحتفالات المتصلة بالنهر احتفال وفاء النيل، أو جبر خاطر البحر، تزامناً مع الفيضان، اعتقاداً بأن ذلك كفيل بتهدئة غضب النهر.
وبالرغم من الروايات العديدة حول طقوس تلك الاحتفالية، يركز الكتاب على رواية إلقاء هيكل من الطين على شكل فتاة، بخلاف الروايات الأخرى التي تؤكد على إلقاء شابة حية وجميلة وفاءً للنيل.
فن وحرفة
ومن العادات إلى الفن الشعبي، يفرد الكتاب فصلاً كاملاً عن الأغنيات الشعبية التراثية، والأمثال والمأثورات والحكايات وحتى الألغاز، التي يُعد الماء موضوعاً لها.
فكتاب "ألف ليلة وليلة"، على سبيل المثال، زاخر بالحكايات المتصلة بالماء، ومنها ما يعد الماء مسرحاً أساسياً للأحداث ومحركاً لها، ومنها التي تحضر فيها البحار لكن ليس بشكل مصيري في الأحداث.
ومن تلك الحكايات السندباد البحري، وبلوقيا، وحكايات الملك عجيب، وعبدالله البري، والحسن البصري، وغيرها.
ويورد الكتاب عشرات الألغاز والأحجيات المأثورة، التي تنتهي إلى الماء، مثل "الأصل مني وبي، أنا اللي في الوادي جريت.. العشب مني وبي، وبناره انكويت"، إلى جانب عشرات الأناشيد المحفوظة والمتصلة بالبحر والصيد، وحتى "الطرشة البحرية"، وهو نشيد يغنى للحاكم إذا كان مسافراً عبر البحر.
أما في أناشيد العديد، وهي أشعار ترددها النساء في رثاء الموتى، فالبحر قاس وغادر، ويجري تشخيصه والإسراف في الصور المتصلة به، لا سيما إن كان الميت غريقاً.
ولا تنتهي صفحات الكتاب قبل العروج من الباحث على الحرف التي تتصل بالماء، كنموذج السقاء البسيط، وبائع العرقسوس وغيرهم، وصولاً إلى حرف أكثر تعقيداً في اتصالها بالماء والسقاية والري، مثل "كيال ماء الفقرات" بالجزائر، ويُعنى بعدة مهام تتصل بماء الأقنية، بدءاً من حساب الحصص حتى الصيانة والإصلاحات.
وقد جرى تسجيل المعارف والمهارات المتصلة بممارسة تلك الحرفة في واحتي "توات وتيديكلت" على قوائم صون التراث غير المادي العاجل لليونسكو عام 2018.
اقرأ أيضاً: