يشكّل النقد البنّاء أحد أهم العناصر الداعمة لتطوّر المجتمعات وتقدّمها، والناقد والأديب السعودي الدكتور سعيد السريحي، من الأسماء البارزة في الحداثة النقدية العربية، وهو صاحب تجربة ثرية في هذا المجال.
في رصيد السريحي 14 كتاباً، كان آخرها "كي لا نصحو ثانية"، الذي تناول فيه خطاب الصحوة وآلياتها في السعودية، وذلك خلال العقود الأربعة الماضية.
في حواره مع "الشرق" أكّد السريحي أن ثمّة فكراً صحوياً ما زال يختبئ في المجتمع السعودي، ويجب تقصّيه ومعالجته. واعتبر أن تحريم القهوة في حقبة مضت، كان مبنياً على تصوّرات لا على حقائق، لافتاً إلى أن الانتقاد بشكل سطحي لا يعدّ منجزاً، وأن المثقف الحقيقي لا ينتقد لمجرد التشفّي، بل يجب أن يكون دافعه الوحيد هو البحث عن الحقيقة.
نبدأ من كتابك "غواية الاسم سيرة القهوة وخطاب التحريم" الذي صدرت طبعة جديدة منه بعد نحو عقدٍ وأكثر على الطبعة الأولى، ما الذي أردت قوله من جديد؟
استعدتُ من خلال الإحالة على تاريخ التحريم في سيرة القهوة، آليات تُتّبع لتحريم شيءٍ ما، وآليات الانتقال من التحريم إلى التحليل.
ما كان يعنيني في الكتاب هو الحديث عن هذه الآليات المتّبعة، وقد انتهيت إلى أن ما حدث من تحريمٍ للقهوة، إنما هو تحريم قائم على تصوّرات، فالحكم ليس بالتحليل أو بالتحريم، وإنما في تصوراتنا للشيء، إذ كان يعتقد أن للقهوة مفعول الخمر فتمّ تحريمها، وحين اطمئنوا إلى عكس ذلك حُلّلت.
الأمر الآخر الذي لا يقلّ أهمّية، هو الآليات التي تتّبع لجعل التحريم أو التحليل من المسلّمات، وما هي النصوص الغائبة التي تتمّ الإحالة اليها، وما هو الجدل الذي يحدث لإثبات هذا الحكم أو نفيه، كلّ ذلك حاولت أن أناقشه في كتابي عن القهوة.
وربما أردت أيضاً أن أقاوم انتشاراً جديداً لا ينتمي لثقافتنا، هو انتشار المقاهي، التي لا تحمل التاريخ والإرث الذي كانت تنعقد عليه مجالس الآباء ومجالس الصلح والخصام، وليست هي القهوة الأصيلة نفسها التي كانت تُقدّم للضيف.
لكن ألا تعتقد أن لكل جيل قهوة تتّسق مع ثقافته وزمنه؟
من دون شك، وأنا لا أنتزع هذا الحقّ من الجيل الجديد، ولا أضيق ذرعاً بأنواع القهوة الجديدة. أنا أدافع عن ثقافة ترتبط بالقهوة، فحين أشرب "قهوتنا" فإنني أحمل إرثاً ثقافياً وليس مجرّد مشروب، أما حينما أنتقل إلى "كابوتشينو" فإنني أتعاطى شيئاً لا يخصّ ثقافتنا، وهذا لا يعني أنني أرفضه أو أدعو لذلك، كما لا أدعو إلى تناول قهوتنا أيضاً.
أريد أن أقول إن وراء هذا الفنجان تاريخ عريق يخصّنا، ووراء ذلك الكوب تاريخ لا يعنينا، حتى وإن كان ينتمي إلى حضارة عريقة.
تحتفي وزارة الثقافة بعام القهوة السعودية عام 2022، فهل ذلك يعيد إلى الأذهان الإرث التاريخي لهذا المشروب؟
الاحتفاء بالقهوة السعودية والعناية بها وتحويلها لما يطلق عليه "براند"، هو بمثابة القوة الناعمة، وكما نستحضر إيطاليا من خلال البيتزا، وأميركا من خلال "الهمبرجر"، بإمكان العالم أن يستحضر السعودية من خلال القهوة، عندما تكون لها أماكنها وبيوتها في مدن العالم.
"كي لا نصحو ثانية"
كتابك الأخير "كي لا نصحو ثانية.. تفكيك خطاب الصحوة وآليات الهيمنة على المجتمع"، عنوانه ملفت وغلافه أيضاً، ماذا عن المحتوى؟
حاولت في هذا الكتاب الإجابة عن سؤالٍ محدّد، كيف استطاعت الصحوة أن تهيمن علينا لمدّة أربعة عقود، كيف رسموا صورة زائفة لمجتمع لم يكن بالصورة التي يتحدّثون عنها، كيف تمّ استدراجنا إلى هذه العزلة من باب هذه المعرفة، وما هي الآليات التي استخدموها.
لكن هل نحن بحاجة لمعرفة هذه الآليات وما فعلته؟
المجتمع يحيا حياته من دون أن يسأل كيف هيمنت علينا الصحوة، لقد بيعت مئات النسخ من الكتاب، لكن ذلك لا يعني شيئاً أمام مجتمع يتألّف من الملايين، لكن الذين أقبلوا على قراءة الكتاب هم أشخاص يتوقون إلى المعرفة.
دعني أعود إلى غلاف الكتاب، ألا تعتقد أنه يضعك أنت ودار النشر في مأزق قانوني مع أصحاب الصورة، وخصوصاً أنها صور حقيقية لروّاد المعرض وليست رمزية؟
جميعنا يعلم أن المحتسبين المتشدّدين كانوا يشكّلون تهديداً للمعرفة، وبثاًّ للرعب في معارض الكتب، سواء للناشرين أو لزوّار المعرض، إذ كان لديهم صلاحية مطلقة في مصادرة الكتب، والإساءة لمن لا يعجبهم من الناشرين.
أما بخصوص من ظهروا على الغلاف، فلا أعتقد أن أصحاب تلك الصور يريدون تذكير الناس بأنفسهم، واستحضار ما كانوا يفعلون، ولو كنت واحداً منهم كنت التزمت الصمت كي لا أنبش هذا التاريخ الأسود. أما بالنسبة للشقّ القانوني، فالدار هي من تستطيع الإجابة عن هذا الأمر.
كتبت إهداء الكتاب باسم الوزيرين الراحلين الدكتور غازي القصيبي والدكتور محمد الرشيد وزير التعليم سابقاً، لماذا؟
لقد كانا من داخل المؤسسة الرسمية، وكلاهما كان مناضلاً ضدّ الجهل الذي كانت تقودنا إليه الصحوة، غازي القصيبي بكتاباته، والرشيد بقراراته، وكلاهما كان جداراً صلباً، وكلاهما ناله من الصحوة ما ناله، ولم يطل بهما العمر حتى يرى كلّ منهما ما نحن فيه اليوم، بعد تجاوز تلك المرحلة والخروج من تحت عباءتها.
تواضع يا بني!
انتقدت المسرح الوطني في سلسلة من التغريدات، تعليقاً على أحد العروض الذي تناول الصحوة، علماً أنك لا تكاد تغادر منطقة الكتابة عن الصحوة وما خلّفته من آثار؟
سأبدأ من نهاية سؤالك، نعم كتبت عن الصحوة، لكن كتابي "كي لا نصحو ثانية"، هو الكتاب الوحيد ضمن 14 كتاباً لا يوجد فيها شيء عن الصحوة.
أما فيما يخصّ التغريدة، فضعها في سياق التغريدات لجملة مآخذي على تدشين المسرح الوطني. المسرح الوطني دُشّن في حقبة جديدة، لكنه لم يستطع تجاوز المرحلة في تعاطيه مع الصحوة، فالافتتاح لم يكن سوى عمل استعراضي يشبه ما يقدّم من أعمال لها جانب درامي بسيط، توحي بأننا تجاوزنا الصحوة، فها هي المرأة تغنّي، وها هي تظهر على المسرح، والحقيقة أن هذا ليس منجزاً في هذا الافتتاح.
قدّم عملاً مسرحياً عظيماً حتى وإن كان عن الصحوة أو غيرها، وطني، إنساني، اجتماعي أو تاريخي، أشعرني فقط أني أمام مسرح وليس أمام مسرح استعراضي.
أثق أننا تجاوزنا الصحوة بقرار، غير أن ثمّة فكراً صحوياً لا زال كامناً في المجتمع، ومازال بحاجة لدراسات تكتشف مكامنه وتعالج المجتمع منه.
انتقدت أيضاً في إحدى تغريداتك المتعلّقة بملتقى الأدباء في مدينة أبها جرأة الأدباء الشباب في التعريف بأنفسهم، ألا ترى أن مثل هذه التغريدات تُطلّ من برج المثقف العاجي؟
أنا هنا لا أتعالى على أحد، وإنما أحثّهم على شيء من التواضع، أشعر بشيء من الحزن على شاب لم يتجاوز العشرين ويقدّم نفسه، على أساس أنه الشاعر فلان، أو الروائي فلان.
أردت أن أقول له يا بنيّ تواضع ودع الآخرين يسمّونك شاعراً أو قاصّاً أو روائياً، لا أريد لهؤلاء الشباب أن يتعالوا على حقيقة أننا جميعاً تلامذة في حقل الأدب.
في ذات الملتقى، وصفتَ الأديب الذي يبحث عن التكريم بأنه زائف، ألا تعتقد أن الدعم الذي يحصل عليه المثقّف، سواء المخضرم أم العادي سيكون بمثابة حافز للتقدّم؟
صحيح، لكن دعني أفرّق بين وجود حافز للمثقف، وعمل المؤسسات الثقافية التي يجب أن تدعم الناشر والموزّع، لأنهم هم الذين يتحمّلون تكلفة النشر والتوزيع.
الرعيل الأوّل من المثقفين مثل عزيز ضياء، محمد حسين زيدان، عبد الله بن خميس، وأحمد الغزاوي، لم يبحثوا عن حوافز حينما كتبوا،
ولا زلت أؤمن بأن المثقّف الذي يجد كل شيء ممهداً له يتحوّل إلى كائن مترف، وبالتالي سيتحوّل إلى كائن مجامل.
السريحي شاعراً
بالرغم من أنك شاعر، لكن لا يحضر اسمك إلّا في خانة النقد، فهل السبب هو خوفك من الوقوع تحت مقصّ النقد الذي تمارسه باستمرار؟
لا، ليس ذلك، لكني ببساطة أقول إن ما أكتبه من الشعر لا يشكل قناعة لي، وقد قلت مرّة، أخجل أن أكتب شعراً كتب فيه "محمد الثبيتي قصيدة التضاريس"، وأقول لو أن لديّ مثل تلك القصيدة، لاستبدلتها بكلّ ما كتبته في النقد، أنا أكتب الشعر كأيّ إنسان قرأ الشعر وفُتن به، أكتب كأيّ إنسان يريد أن يعبّر عن نفسه.
المشهد الثقافي في السعودية في نموّ مستمر، ما رأيك بهذا التوسّع الثقافي؟
حركة الثقافة تأتي في إطار الحركة الشاملة التي تنهض بأطراف المملكة كافّة، لكي تقفز بها إلى مصاف الدول المتقدّمة، أشعر أننا سائرون على طريق هو طريق العالَم الأول.
اقرأ أيضاً: