"طه الذي رأى".. رؤية جديدة لسيرة عميد الأدب العربي

time reading iconدقائق القراءة - 9
غلاف رواية "طه الذي رأى" للكاتب حمدي البطران. - دار كلمة للنشر
غلاف رواية "طه الذي رأى" للكاتب حمدي البطران. - دار كلمة للنشر
القاهرة-ميّ هشام

"قبل أن تلد، رأت أمه في منامها أنها موجودة في حجرة بها اثنا عشر مصباحاً، كل مصباح يضيء مكانه، مع وجود مصباح مطفأ كانت إضاءة المنطقة الموجود فيها أقوى من كل المصابيح حوله".. هذا جزء مما حكاه الروائي حمدي البطران في كتابه "طه الذي رأى.. أيام ما بعد الأيام"، الذي يتناول حياة عميد الأدب العربي طه حسين.

الطفولة المعذبة، والتعايش مع كف البصر، أيام الأزهر، وبروز بذور التمرد في شخصية طه حسين، وصولاً إلى الالتحاق بالجامعة والابتعاث إلى فرنسا حيث التقى بشريكة حياته سوزان بريسو.. كلها محطات تطرّق لها البطران في كتابه الصادر عن دار كلمة ودار صفصافة مؤخراً، تحت تصنيف الرواية.

يتناول الكتاب أيضاً محطات لاحقة تلت تلك الفترات أبرزها أزمة كتاب في الشعر الجاهلي، ونص استقالة لطفي السيد من الجامعة إثر أزمة نقل طه حسين من عمادة كلية الآداب لوزارة المعارف العمومية، فضلاً عن توليه وزارة المعارف وتأسيسه منزله "رامتان"، الذي تحول لاحقاً إلى متحف ومركز ثقافي.

محطات روائية

وتأتي تجربة "طه الذي رأى" للكاتب والشرطي السابق حمدي البطران في صيغة محطات روائية، أشبه بالنموذج التقليدي لراوي القرية أو شاعرها الذي يحكي ويعزف الربابة، غير أن الملحمة المرويَّة هُنا ليست أسطورية، وإنما تستمد أحداثها من حياة حافلة سبق أن عاشها فتى نابغ، حتى تجاوزت شهرته وأثره حدود قريته الصغيرة، بل ووطنه.

وبالرغم من وعد الغلاف أن تحتوي رواية "طه الذي رأي" على أيام ما بعد الأيام، يعود الكتاب بطريقة "فلاش باك" إلى أحداث كتاب "الأيام"، بدءً من الميلاد والسنوات الأولى وفقد البصر، لكن جاءت غالبية هذه الأحداث مختزلة ومكثفة إلى حد كبير في فصول الكتاب الأولى.

ويوضح حمدي البطران، في حديثه لـ"الشرق" وجهة نظره في مخالفة الوعد الذي أبرمه مع القراء عبر الغلاف، مشيراً إلى أن تلك الأحداث لم يكُن بوسعه تجاهلها وعدم المرور عليها، لا سيما أنها تحمل تفسيراً لجذور عبقرية طه حسين وسر تفرد شخصيته.

ويضيف: "لعل العناد والإصرار هما مفتاح شخصية طه حسين، ويمكننا أن نستشف ذلك من خلال محاولاته الحثيثة لتعلم الفرنسية مرة تلو الأخرى، وإصراره على السفر إلى فرنسا والتغلب على العقبات التي وضعتها الجامعة في طريقه".

ويعتقد البطران أيضاً أن بذور التمرُد تظهر لدى حسين من البداية، إذ يورد الكتاب حادثة إبان عودته للقرية بعد العام الأول من الدراسة في الأزهر، إذ أخبر والده أن طقوس الأسرة ومجتمع القرية في التبرك بالأولياء مُحرمة، بالرغم من أنها كانت أحد أعمدة حياتهم اليومية.

ذلك التمرُد أورث حسين، وفقاً للبطران، الكثير من الأعداء، الذين كانوا مستعدين للترصُد له لاحقاً، وكان إسقاطه عمداً في اختبار العالمية بالأزهر، أحد أوائل المواجهات التي اضطُر فيها لحصاد ضريبة ذلك التمرد.

أزمة الشعر الجاهلي

ويحفل "طه الذي رأى" بعدد من النصوص المهمة لمن يريد الغوص في سيرة عميد الأدب العربي، لعل أبرزها مقتطفات عديدة من مذكرة النيابة في أزمة كتاب "في الشعر الجاهلي" التي كانت واحدة من المحن الكبيرة في حياة طه حسين.

وكان الكتاب الأزمة عبارة عن ورقة بحثية نقدية، استخدم فيها طه حسين منهج الشك، ليخلص إلى عدة نتائج، فتحت عليه أبواب هجوم من رجال السياسة ورجال الدين، الذين اعتبروه نبشاً في مسلمات لم يكن له أن يسائلها، ووصلت حد اتهامه بالإلحاد.

وتمخض ذلك الجدل غير المتوقع إلى ما يشبه الأزمة النيابية، ليحال أمر الكتاب كله إلى النيابة، التي تدير تحقيقاً مطولاً مع طه حسين ينتهي أخيراً إلى الحفظ.

وبحسب البطران، كانت مذكرة النيابة هي التي دفعته للتفتيش في سيرة طه حسين، إذ أثارت تعجبه بوصفه دارساً ومتخصصاً في القانون، معتبراً أنه "بخلاف ما هو متداول، لم أرَّ ما يشير الكثيرون إليه من تفتح المحقق المستشار محمد نور وإيمانه بحرية الفكر والبحث".

ويوضح البطران: "كنت مهتماً بالعثور على محاضر التحقيقات أيضاً لكني لم أتمكن من ذلك، غير أن مذكرة النيابة تلك جعلتني في حيرة من أمري، إذ أن كافة فقراتها تقيم الحجة على طه حسين وتدينه، بينما الفقرة الأخيرة الخاصة بقرار النيابة تسير في الاتجاه المعاكس وهو حفظ التحقيق".

ويضيف: "اتضح لي خلال الاطلاع على المصادر وما كُتب في تلك الفترة أن شيئاً في الكواليس هو الذي دفع وكيل النيابة لحفظ التحقيق، إذ أن طه حسين كان عضواً في حزب الأحرار الدستوريين، في ظل حكومة ائتلافية، وكانت إحالة حسين للمحكمة بناءً على شكوى النواب الوفديين بالبرلمان قد تدفع الوزراء الدستوريين إلى الانسحاب من الحكومة وإسقاطها، ومن ثم جاء الأمر من باب المواءمة السياسية".

دور سوزان

جانب آخر من الجوانب التي تعرض لها كتاب "طه الذي رأى" في شخصية عميد الأدب العربي، هو علاقته المتفردة بالسيدة سوزان بريسو، التي أصبحت زوجته وخير معين له في حياته.

وبينما يعتبر البطران أن واحدة من المحن التي تعرض لها حسين في بادئ حياته كانت رفض سوزان له حينما أفصح لها عن محبته قبل عدولها عن ذلك، يؤكد الكاتب أن النموذج الأسري الذي أبقى عليه الثنائي حتى نهاية حياتهما كان مثيراً للإعجاب.

ويرى البطران في الكتاب أن سوزان كان لها دور فاعل في مسيرة زوجها، مشيراً إلى أنها بالرغم من ذلك لم تنصهر فيها تماماً، إذ أبقت حتى النهاية على ديانتها المسيحية ولم تدفن بجواره.

واعتمد البطران في هذا الجانب على كتاب "معك" الذي كتبته سوزان بالفرنسية ونقله إلى اللغة العربية المترجم بدر الدين عرودكي، ويقول إن "طه حسين كان من القوة، أن خضع لواحد من أصعب اختبارات حياته ليقترن بسوزان، إذ جالس أحد أقربائها الذي كان قساً مسيحياً، وهو الذي أشار عليها بإتمام تلك الزيجة بعد الحديث معه، بالرغم من العراقيل الكافية للحول دونها كون الزوج شرقي ومسلم".

ويؤكد البطران أن "سوزان كانت حجر زاوية في مسيرة حسين، ويمكن استشفاف أثرها في كل خطوة من خطواته وإنجازاتها"، منبهاً إلى أنه "حتى بعد عودته لمصر ورحيلها عن وطنها، لم تصدّر له من مشاعر الاغتراب وصعوبة الانصهار في المجتمع المصري ما قد يؤثر على إنتاجه البحثي والأكاديمي".

وأشار إلى أن "ملَكة البحث العلمي لدى حسين، فضلاً عن الإنتاج الأدبي، أزهرت في مصر بعد العودة من البعثة بفضل سوزان".

وأتم البطران: "أستطيع القول أن ذلك العبقري الكفيف لم يحتج لحاسة البصر، إذ كان بصيراً، وامتلك طاقة كبرى هزم عبرها سلسلة من المحن التي كان من شأنها أن تئد مسيرته في مهدها".

محاولة جديدة

ويُعد "طه الذي رأى" محاولة جديدة للإبحار في سيرة عميد الأدب العربي. ليست الأولى، وبالتأكيد لن تكون الأخيرة، ضمن سلسلة من المحاولات، يتقدمها سِفر "الأيام" الذي كتبه حسين نفسه، وتناول فيه حياته طفلاً في كنف أمه وأبيه وأخوته يطور أسلوبه الخاص في التكيف مع كف البصر، وفتى نابغاً ومجادلاً في كُتّاب سيدنا وداخل أروقة الأزهر، وطالباً من طلاب البعثة المصرية إلى باريس.

وبخلاف كتاب الأيام، الذي تنتهي أحداثه بالعودة من البعثة، يمثل كتاب "معك" الذي كتبته قرينة طه حسين الفرنسية سوزان بريسو أحد أهم المصادر التي تطرقت لحياته الأكاديمية ومزاجيته وحياته الأسرية والاجتماعية من منظور الزوجة والحبيبة، كما يُعد "أيام مع طه حسين"، للدكتور محمد الدسوقي، الأكاديمي المصري والسكرتير والقارئ الخاص بحسين لسنوات، مصدراً مهماً آخر لتلك السيرة الثرية.

"ما بعد الأيام" مصدر آخر لسيرة طه حسين بقلم محمد حسن الزيات، زوج ابنة طه حسين ووزير خارجية مصر الأسبق، كان قد كتبه خصيصاً ليكون مرجعاً لجزء آخر من مسلسل الأيام ونشر في ثمانينيات القرن الماضي. كما نشر الروائي عبدالرشيد الصادق محمودي  "من الشاطئ الآخر: طه حسين"، جمع وترجم فيه وحقق وعلق على مقالاته باللغة الفرنسية.

أما في غير حقل السيرة، فيُعد كتاب "طه حسين.. تجديد ذكرى عميد الأدب العربي" من أحدث ما نُشر، للكاتب إيهاب الملاح، ويتناول الأثر المجتمعي والثقافي والنقدي لطه حسين.

اقرأ أيضاً:

تصنيفات