كشف تحقيق للاتحاد الدولي للصحفيين الاستقصائيين (ICIJ)، ومؤسسة Finance Uncovered غير الربحية ومقرّها بريطانيا، عن أكبر عملية تزوير في سوق الآثار، الذي يعدّ أكثر الأسواقٍ غير المنظّمة في العالم، وأوّل ضحايا الحروب والأزمات، نتيجة أعمال النهب والتدمير التي تطال هذا التراث الإنساني.
وأسفرت عمليات البحث التي قام بها صحافيون ومراسلون، عن " العثور على نحو 1109 قطع أثرية ضمن مجموعة متحف متروبوليتان، لها روابط واضحة بأفراد متورّطين في نهب الآثار أو الاتجار بها، ومن بينها 309 قطع معروضة أمام العامة"، بحسب البيان الذي نشره الاتحاد على موقعه الرسمي.
وأعلن الاتحاد عن " العثور على سجلات توضح بالتفصيل كيف غادرت هذه القطع بلادها الأصلية نحو نيويورك، بما في ذلك القطع التي جاءت من بلدان حظرت منذ فترة طويلة تصدير التراث الثقافي. وتُظهر سجلات المتحف، أنه تمّت إزالة بعض تلك القطع بعد سنّ الحظر، ما أثار بلبلة حول أكبر المتاحف وأكثرها استقطاباً للزائرين في الولايات المتحدة".
نيبال وكشمير
وتوصّل التحقيق إلى أن أكثر من ألف قطعة من هذه المجموعة مرتبطة بتجار الآثار والمهرّبين، و250 قطعة منها تعود إلى نيبال وكشمير، وثلاثة منها فقط تملك سجّلات حول أصولها وكيفية مغادرتها بلاد المنشأ.
وركّز الاتحاد الدولي للصحافيين الاستقصائيين، على هذه المجموعات تحديداً، لأن نيبال وكشمير تعرضتا لعمليات نهب شديدة، لم تحظ بتغطية إخبارية واسعة.
وقال المتحدّث باسم المتحف كينيث وين لـ (ICIJ): "تلتزم إدارة المتحف بالتجميع المسؤول للقطع الفنية، وتبذل قصارى جهدها كي تضمن أن جميع الأعمال تتوافق مع القوانين والسياسات الصارمة المعمول بها خلال فترة الاستحواذ".
وأضاف: "تغيّرت القوانين والمبادئ التوجيهية المتعلقة بالاقتناء مع مرور الوقت، كما تغيّرت سياسات المتحف وإجراءاته أيضاً، لذلك يبحث المتحف باستمرار في تاريخ الأعمال التي تضمّها مجموعاته، بالتعاون مع زملاء من بلدان حول العالم، ولديه سجلّ حافل من العمل بناءً على المعلومات الجديدة التي يتلقّاها ".
دعم التهريب
في البداية، افتتح متحف متروبوليتان للفنون، معرضه غير الرسمي داخل مقر إقامة سابق في الجادة الخامسة بنيويورك، ثم دشّن رسمياً المبنى الخاص به عام 1880، وبعد فترة طويلة اشترى المتحف 174 لوحة فقط، في حين كانت تحوي صالات العرض بمتحف اللوفر في فرنسا بالفعل آلاف الأعمال.
حتى في الستينيات، كان أكبر متحف في أميركا الشمالية لا يزال يحاول اللحاق بركب المتاحف الكبرى. وقد سعت قيادة المتروبوليتان بجرأة، إلى عمليات الاستحواذ الكبرى على القطع، و"اتخذت نهجاً غير رسمي تجاه تهريب الآثار، بل وفي بعض الأحيان احتضنته، كدعامة أساسية لمصادر المتحف".
عهد هوفنج
في عهد توماس هوفنج، الذي تولّى إدارة المتروبولتان بين أعوام 1967 و1977، شرع المتحف فى موجة شراء قوية، في محاولة لبناء مجموعة آثار يمكن أن تضاهي المنافسين في لندن وباريس. وعلى مدى العقود التالية، ملأت المؤسسة قاعاتها ومستودعاتها بكنوز من اليونان، وإيطاليا، ومصر، والهند، وكمبوديا، وأماكن أخرى.
يعود الفضل إلى هوفنج في تحويل المتروبوليتان إلى متحف من الطراز العالمي للأعمال الكبرى.
ووصف هوفينج في مذكراته، كيف بنى خلال عقد من الاستحواذ العدواني، اعتمد على مجموعة من المصادر غير المشروعة، مجموعة مقتنيات المتحف. وكتب في مذكراته: "إن دوري في التواطؤ مع مهرّبي الفن، كان ضرورياً لمدير المتحف".
وبحسب التحقيق، "وافق هوفنج على شراء مجموعة كبيرة من الآثار الهندية، والكمبودية التي يشتبه في تهريبها، كما فصل في مذكراته مخاوفه بشأن أصول أعمل الخزف اليوناني المسروقة، أثناء وصول المدّعين للبحث عن أدلة. وعندما طلبت السلطات التركية إعادة الآثار التي يُزعم أنها مسروقة من المتحف، قدّم اعترافاً صريحاً بالذنب لزميله أمين المعرض".
ووفقاً لمذكراته، ذكر هوفينج أنه أخبر أمين متحف يوناني قائلاً: "نعتقد جميعاً أن الأشياء قد تمّ التنقيب عنها بشكل غير قانوني، لكن من أجل المسيح، إذا جاء الأتراك بالدليل من جانبهم، فسوف نعيد كنز اليونان الشرقية فقط، وهذه هي سياستنا. لقد انتهزنا فرصتنا عندما اشترينا تلك القطع."
قرارات أخلاقية
أستاذة جرائم الفن في كلية جون جاي للعدالة الجنائية، إيرين طومسون، قالت: "لقد تمّ إنشاء المتروبوليتان لينافس المتاحف الكبرى في جميع أنحاء العالم، وهم أرادوا أن يكون لديهم قطعة من كل شيء. لكن عندما تضع هذه الشروط مع بعضها، فهذا أمر خطير جداً لجهة اتخاذ القرارات الأكثر أخلاقية".
وقالت أنجيلا تشيو، باحثة مستقلة وخبيرة في الفن الآسيوي وسوق الآثار: "يُطلق على سوق الآثار أنه أكبر سوق غير منظّم في العالم، بل هو ذاتي التنظيم، ولا أحد يعرف ما يجري خلف الأبواب المغلقة".
وكشف أمين المتحف السابق لفن شرق آسيا، مارتن ليرنر، أنه اعتمد على "حسن نية ونزاهة التجار، ومن بينهم صديقي دوجلاس لاتشفورد، الذي اتُهم في أواخر عام 2019 بتهريب الآثار". (تم ّرفض لائحة الاتهام بعد وفاة لاتشفورد عام 2020).
ملاحقات
طوال عام 2022، صادرت السلطات الأميركية ما لا يقلّ عن 29 قطعة من مجموعة المتحف، بما في ذلك تماثيل نصفية يونانية وبرونزيات مصرية ولوحات قديمة وخوذات وتماثيل، وهناك قطع مصنوعة من الذهب والبرونز والتراكوتا، تمّ نهبها من مناطق البحر الأبيض المتوسط والهند.
في سبتمبر 2021، صادرت السلطات أكثر من 100 قطعة تعود للملياردير المتبرّع بالمتحف، مايكل شتاينهاردت. كانت الدعوى جزءاً من اتفاق مؤجّل للملاحقة القضائية تم إبرامه بين شتاينهاردت ومكتب المدعي العام للمنطقة، وشمل بعض القطع التي تمّ عرضها في المتحف المذكور. وقد حظر الاتفاق على شتاينهارت جمع الآثار مدى الحياة.
وكان متحف متروبوليتان قد وافق على إعادة تابوت ذهبي عمره ألفي عام من مصر القديمة، إذ تمّ تسليط الضوء عليه، بعد أن ظهرت نجمة تلفزيون الواقع كيم كارداشيان، وهي إلى جانب التابوت الأثري خلال حفل عام 2018. وأكد تحقيق أجراه مكتب المدعي العام في مانهاتن، أن "التابوت قد نُهب، وأن المتحف قد اشترى القطعة بعد أن أظهر لهم التاجر رخصة تصدير مزوّرة".
مراجعة السياسات
متحف المتروبوليتان ليس وحده في هذا، إذ تواجه المتاحف حول العالم مشكلة حول كيفية التعامل مع العناصر المنهوبة في مجموعاتها. عام 2022 قام متحف "هورنيمان" في لندن، ومؤسسة "سميثسونيان" في واشنطن، والعديد من المتاحف الألمانية وجامعي التحف الخاصة، بإعادة العناصر المنهوبة من نيجيريا إلى الوطن.
وفي الشهرين الأوّلين من العام الجاري، أعادت المتاحف وجامعو التحف من الولايات المتحدة وإسبانيا وأستراليا، عشرات الآثار المنهوبة إلى بلدانها الأصلية، وتصل كلفتها إلى ملايين الدولارات.
ومن المعضلات الكبيرة التي تواجهها البلدان التي تأمل في استعادة الأعمال المسروقة، ويواجهها موظفو إنفاذ القانون الذين يحققون في المجموعات المشبوهة، أن العديد من الآثار في أكبر المتاحف في العالم تفتقر إلى سجلات المنشأ. وهذا يجعل من الصعب معرفة ما إذا كانت الآثار قد سُرقت وبيعت بشكل غير قانوني قبل اقتنائها من قبل المتحف.
وقد أدّت صعوبة تأكيد تاريخ منشأ القطع الأثرية، إلى إعادة التفكير بالسياسات، وإذا ما كان ينبغي على المتاحف شراء التحف على الإطلاق. وقد أعاد المعرض الوطني الأسترالي أكثر من عشرة منحوتات تمّ شراؤها من خلال تاجر الآثار سيئ السمعة سوبهاش كابور بأكثر من 8.7 مليون دولار، بعد أن علم أنها كانت مسروقة، كما اتخذ مسؤولو المتحف قراراً بوقف المشاركة في سوق الآثار تماماً.
كبير أمناء المتحف الوطني برونوين كامبل يقول: "من النادر جداً أن يكون للقطع مصدر موثوق حتى نتمكّن من اقتنائها بشكل أخلاقي. إن سوق الآثار ينطوي على مخاطرة كبيرة ومشحونة أخلاقياً، ونفضّل بدلاً من ذلك استكشاف طرق جديدة ومبتكرة لتمثيل الثقافات المتنوّعة، من خلال العمل بشكل تعاوني مع بلدان ومجتمعات المصدر."
اقرأ أيضاً: