الرواية السودانية تتنبأ بالحرب وتسرد مآسيها المتوالية

time reading iconدقائق القراءة - 9
مشهد جوي لدخان أسود يغطي السماء فوق العاصمة السودانية الخرطوم جراء الاشتباكات بين الجيش وقوات الدعم السريع. 19 أبريل 2023 - AFP
مشهد جوي لدخان أسود يغطي السماء فوق العاصمة السودانية الخرطوم جراء الاشتباكات بين الجيش وقوات الدعم السريع. 19 أبريل 2023 - AFP
حاتم الكناني

برز أدب الحرب في السودان شعرياً، بوصف الشعر السوداني التعبير الأقدم عن التحوّلات الاجتماعية في سودان السلطنة السنارية (1504- 1821) وما بعدها. ورصد الناقد السوداني محمد محمد علي (1922- 1970)، في مؤلفه "الشعر السوداني في المعارك السياسية" (1821- 1924)، إسهام الشعر القومي (الدارجي)، والشعر الفصيح، في نضالات السودانيين للتحرر من الاستعمار. 

وتناول محمد محمد علي الفترات السياسية منذ المهدية، وما قبلها، إذ ارتبط الشعر آنذاك بمعارك التحرر من المستعمر. ولا تُذكر معركة شيكان (1883)، إلا مقرونة بقصيدة الشيخ محمد عمر البنا (1848 – 1919)، التعبوية، التي شاع أنه ارتجلها أمام الجيش بحضور قائد الثورة المهدية في السودان، محمد أحمد المهدي، قبيل المعركة بلحظات ضد جيش هكس باشا الغازي، ويعدها النقاد إحدى "إلياذات" التاريخ السوداني، ومطلعها: "الحرب صبر واللقاء ثبات والموت في شأن الإله حياة".

لكن تحوّل طبيعة الصراع في السودان بعد استقلال 1956، من حرب هدفها التحرر الوطني إلى حرب ذات طبيعة أهلية، أو داخلية، جعل الحرب موضوعاً للرواية السودانية؛ لا سيما مع ما يصفه الناقد السوداني مصطفى الصاوي بانفجار عصر الرواية السودانية في تسعينيات القرن العشرين.

خاض السودان حرباً تعد من أطول الحروب في القارة الإفريقية، في جنوب السودان، واستمرت منذ 1955 حتى اتفاق أديس أبابا، الذي أتاح سلاماً منذ 1972 وحتى 1983، حين ألغى الرئيس الأسبق جعفر النميري الاتفاقية، لتندلع الحرب مرة أخرى وتنتهي باتفاقية نيفاشا 2005، وتفضي إلى  انفصال إقليم جنوب السودان إلى دولة مستقلة في عام 2011 بعد استفتاء عقب فترة انتقالية. وفي عام 2003 اندلعت الحرب في إقليم دارفور، غرب السودان، وما زال السودانيون يعانون ويلاتها حتى اندلعت في الخامس عشر من أبريل معارك حربية بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في العاصمة الخرطوم.

الرواية والحرب

يشير النقاد السودانيون إلى أن روايات كثيرة كانت الحرب، وما تنتجه، هي موضوعها الظاهر: "تخوم الرماد" لمنصور الصويم، "المجالس" لعبد الماجد عليش، "سبعة غرباء في المدينة" لأحمد حمد الملك، "قصة آدم" لعاطف عبدالله، "جمجمتان تطفئان الشمس" لمنجد أحمد المصطفى، "أحوال المحارب القديم" للحسن البكري، "فريق الناظر" للهادي علي راضي. ولا يفوت بالطبع في ذكر الرواية السودانية والحرب، ما أنتجه الروائي السوداني عبد العزيز بركة ساكن: "مسيح دارفور"، و"الطواحين"، وغيرها من رواياته التي فككت طبيعة الحروب، وتأثيراتها الوخيمة على المجتمع السوداني.

يقول الكاتب الصحافي يوسف حمد لـ"إندبندنت عربية": "في هذه اللحظة نحن نعيش يوميات الحرب بكثافة، نشاهدها وجهاً لوجه، ولهذا السبب، أرجو ألا أكون عاطفياً جداً لأقول إن تاريخ الرواية السودانية، خلال ٦٠ سنة ماضية، مرتبط بالحرب". ويضيف حمد: "هناك  تقارب ورفقة ما بين بداية الحرب الأهلية من جنوب السودان (١٩٥٥) وتاريخ ظهور الرواية السودانية في ستينيات القرن الماضي، وكلما تطورت واحدة، أمسكت بيد الأخرى حتى وصلنا إلى حرب دارفور الشرسة، والحرب التي اندلعت حالياً".

ويلفت الروائي منصور الصويم في حديث لـ"إندبندنت عربية"، إلى التحوّل العميق في أدب الحرب بين قصيدة البنا التعبوية، ومثيلاتها في الشعر السوداني في سبيل الدفع بالمناضلين إلى مقاومة الاستعمار، وما تناولته الرواية السودانية الحديثة حول الحرب، بعد الاستقلال، إذ انحازت إلى إدانتها. 

وبحسب الصويم، فإن تغيّر طبيعة الحرب نفسها من حرب ضد المستعمر إلى حرب داخلية بعد استقلال البلاد، دفع بالرواية إلى إدانتها مطلقاً، وبدلاً من أن تكون الرواية السودانية أدباً تعبوياً، عملت على اكتناه جذور الحرب، وقراءة مظاهرها وآثارها على المجتمع.

تنبؤ وتاريخ

يعد نقاد سودانيون رواية "تخوم الرماد"، لمنصور الصويم، والصادرة في عام 2001، بأنها تنبأت باندلاع الحرب في إقليم دارفور، التي وقعت في عام 2003، كما يشير القاص والروائي الهادي راضي، في حديث لـ"إندبندنت عربية"، ويرى تطابقاً بين أحداث الرواية وتداعيات الحرب في دارفور. وتقدم "تخوم الرماد" شخصيات تنتمي إلى بيئة الحرب، أفراد الشرطة الفاسدين، الإدارات الأهلية، والشخصيات المنحرفة في المجتمع، وتنتهي بمشهد احتقاني يبشر بالاندلاع الوشيك للحرب.

لكن رواية أخرى مثل "أحوال المحارب القديم" للحسن البكري، نظرت إلى الحرب في السودان من منظور التحرر الوطني، وامتزجت عوالمها بين الأسطورة والتاريخ، ليمتد زمن الرواية بين القرنين التاسع عشر والعشرين، فتلامس الحياة السودانية منذ ما قبل المهدية مروراً بالحربين العالميتين وحتى نهايات القرن العشرين.

أما رواية "مسيح دارفور" لعبد العزيز بركة ساكن، فهي "أقرب إلى الرواية التوثيقية، كما يشير الروائي والناقد معاوية محمد الحسن، إذ يبدو أن ساكن جعل روايته أقرب إلى التحقيق الصحافي بالاستناد إلى وقائع حقيقية كاغتصاب النساء، والتجنيد الإجباري، وانتهاك حقوق الإنسان، في حرب دارفور". لكن الحسن يرى في حديثه لـ"إندبندنت عربية"، انحياز "مسيح دارفور" إلى ما يسمى أيديولوجيا الهامش والمركز، التي تتبناها قطاعات من الحركات السياسية والمسلحة في السودان.

وتحكي رواية "جمجمتان تطفئان الشمس" لمنجد أحمد المصطفى، قصصاً لمجموعة من النساء اللائي جمعهن معسكر للنزوح، جراء اندلاع الحرب، ومع كل حكاية تحكيها إحداهن تتعدد الأصوات الروائية، ومن ثم الزوايا التي تنظر بها كل واحدة إلى الحرب. وتتناول الرواية حالات الموت والاغتصاب، والاختفاء القسري.

هاجس إنساني

يقول صاحب "تخوم الرماد"، منصور الصويم، إن "الحرب بما تمثله من هاجس إنساني ظلّ يؤرق البشرية في كل مراحل تاريخها الممتد لملايين السنين، وبما تمثله دوماً من تهديد لاستمرار هذه البشرية، ووجودها على سطح هذا الكوكب بصورة آمنة؛ وبما تعنيه أبداً من تهديد لكل القيم النبيلة والخيرة والإنسانية. وتحت كل هذه المعاني أو المسلمات يصبح من حق الإنسان، المقاومة والمدافعة، هذا الأمر الكارثي الذي نسميه حرباً".

ويعتقد الصويم أن على الكاتب المثقف، المبدع، اتخاذ موقف تجاه هذه الفكرة الانهزامية، بالوقوف ضدها، وبالانحياز لكل ما يمكن أن يحقق السلم والأمن، ويجتث الحروب من جذورها. وهو ما يرتبط لديه ارتباطاً عضوياً بالكتابة والمنتوج الأدبي أو الإبداعي. 

ويضيف: "إن مقاومة أو محاربة التشوهات الإنسانية والانحرافات المجتمعية -والحرب أسطع صورها- هم أساسي من هموم الكتابة والإبداع بصورة عامة؛ وهذا يعني أن الهم التاريخي المجتمعي والإنساني أحد الشروط الأساسية التي تنبني عليها الكتابة الإبداعية".

ويلفت الصويم إلى أن مصطلح أدب الحرب يتحدد لديه بمنأى عما اصطلح على تسميته بالأدب المعنوي أو الأدب التعبوي؛ ويرى أن المصطلح يعمل على شجب الحرب وإدانتها إطلاقاً دون موقعتها تحت أي مسميات إجرائية أو تبريرية.

ويضيف: "كتابة لا تحفل بالمتغيرات المجتمعية، وما يعتريها من تفكك وانحلال هي نتاج ظواهر في ظاهرها الغموض والانبهام؛ وفي بروزها المباغتة، وإن كانت تتكون ببطء وفي غفلة من الجميع؛ كتابة لا تحفل بكل هذا، غير جديرة بالتوقف لديها؛ على الأقل تحت الظرف التاريخي الراهن؛ محلياً وعالمياً؛ إذ كيف يمكن أن تُكتب والموت المجاني المجنون يحاصر الجميع؟".

هذا المحتوى من موقع "إندبندنت عربية"

تصنيفات