أسهمت الطفرة الثقافية غير المسبوقة التي تشهدها السعودية، في الحراك الثقافي الذي تتولاه قيادات شابة، شكلت هوية جديدة للمملكة، وأسهمت في تفعيل المقاهي والمكتبات وتحويلها إلى ملتقيات ثقافية وحوارية.
"الشرق" التقت المفكر والناقد السعودي الدكتور سعد البازعي، الذي لعب دوراً هامّاً في مجال الثقافة والنقد في البلاد، وشغل مناصب ثقافية عربية ودولية، وترأّس لجنة تحكيم الجائزة العالمية للرواية العربية "بوكر"، واحتل عضوية مجلس الشورى السعودي، ومجلس الصندوق الدولي لدعم الثقافة في اليونسكو، ورئاسة تحرير الطبعة الثانية من الموسوعة العربية العالمية، فضلاً عن عضوية المجلس العلمي لجامعة الملك سعود، كما ترأّس النادي الأدبي بالرياض، كما يملك في رصيده أكثر من 30 مؤلفاً في النقد والترجمة والفكر والأدب والفلسفة.
كيف تقرأ الحراك الثقافي الجديد الذي تتبناه المملكة من خلال مؤسساتها، وما مدى تأثيره؟
لا شك أن التأثير واضح على المستويات كافة، وأعتقد أن الشريك الأدبي اليوم، هو أبرز الفعاليات التي تضطلع بها هيئة الأدب والنشر والترجمة في وزارة الثقافة.
أما التأثير الذي يحدثه هذا الشريك الأدبي، فيتجلى على أكثر من مستوى، أبرزها المقاهي والمكتبات التي تمّ تحويلها إلى منصّات منتجة للثقافة والفكر والإبداع، إذ تجاوزت وظائفها ومهامها السابقة، وهذا بحدّ ذاته يعدّ إنجازاً.
أما المستوى الآخر فيتمثّل في فتح المجال أمام مناطق جغرافية في المملكة كانت بعيدة عن الحراك الثقافي، وأصبحنا نرى فيها فعاليات متنوّعة.
لكن ثقافة المقهى غابت لزمن عن المملكة بخلاف الدول العربية الأخرى، هل تعتقد أن تفعيل المقاهي حالياً يعدّ عودة بأثر رجعي؟
لا، لأن المقاهي تختلف من بلد لآخر، وهي حاضنة لنشاط ذاتي من قِبل المثقفين أنفسهم، كأن يأتي نجيب محفوظ وتجتمع حوله مجموعة من الأشخاص، فهذا لا يعني أن جميع مقاهي القاهرة كانت نشيطة، بل هي مقاهٍ محددة، مثل مقهى "ريش" ومقهى "نجيب محفوظ".
لكن ما يحدث هنا يختلف تماماً، إذ نلمس تعزيزاً لدور المقهى بشكل منظّم ومبرمج، وتحوّله إلى أندية أدبية وثقافية مصغّرة، وهذا ما يضمن لها جودة واستمرارية.
الأندية الأدبية والهوية
قبل فترة توقّف الدعم المالي عن الأندية الأدبية بعد نحو 50 عاماً بهدف تحويلها إلى جمعيات غير ربحية، كيف تقرأ هذا القرار؟
تعاني الأندية الأدبية منذ نشأتها من المشكلات، بدءاً من هويتها غير الواضحة، فهي لا تنتمي إلى القطاع الخاص ولا العام، كما أنها ليست حكومية ولا أندية خاصة، تمنحها الدولة دعماً معنوياً ومادياً بشكل سنوي، وتشرف على نشاطها بصورة غير مباشرة.
مضى خمسون عاماً تقريباً وهي في هذه المنطقة البينية، وكان يفترض أن يُحسم وضعها، كما أن محاولة وزارة الثقافة إيجاد حل لها من خلال تحويلها إلى جمعيات غير ربحية، ليس حلاً مثالياً.
الشيء الوحيد الذي سيضمن الدعم المادي هو الأوقاف، كما هو الحال في الجامعات الأميركية أو بعض الجامعات الأوروبية، وجامعة الملك سعود في المملكة أيضاً.
هل تعتقد أن استمرار الأندية الأدبية نحو خمسة عقود كان بسبب الندرة أو الجودة، وهل المقاهي تستطيع أن تقوم مقام هذه الأندية؟
لا شك أن الاستمراية كانت نتيجة الندرة بالتأكيد، فبعض الأندية استمرت فقط لأن المنطقة كانت تحتاج إلى نادٍ أدبي، أما عن إمكانية المقاهي، فلديها القدرة طبعاً، لكنها ليست مؤسسات وبرامجها تعتمد على ما هو متاح.
لديك حضور بارز لدى الشباب وعلى منصّات الأندية الأدبية، ما الفرق الذي لمسته بين التجربتين؟
اختلاف الجمهور طبعاً، فأنا هنا أخاطب فئة الشباب، وهذا أمر مبهج، في حين أن جمهور الأندية الأدبية يكون من فئات محدّدة أحياناً، إذ يحضرون في كل مرّة لأنهم مخلصون لهذا النادي.
كما لاحظت أن الذين يأتون إلى المقاهي جادّين، ينصتون ويتفاعلون أكثر ممن يحضرون في الأندية، والمقهى يشجّع الناس على أن تأتي إليه، لأنه يتمتع بالأريحية ويتخفّف من الرسمية والقيود.
تصدّع البرج العاجي
تهمة البرج العاجي أو المثقف النخبوي، هي أبرز التهم الملازمة للمثقفين، هل تعتقد أن الحراك الثقافي الراهن الذي تقوده فئة الشباب خلق صدعاً في ذلك البرج؟
هناك صورة نمطية ينبغي مراجعتها وإعادة النظر في مفهوم النخبوي، علماً أن النخبوية ليست مقصورة على الثقافة فقط، فهناك نخب اقتصادية ونخب سياسية وغيرها، وهذه طبيعة الأمور، ومن المستحيل أن يكون المجتمع بأكمله ناشط في مجال ما، لابد أن تكون هناك فئات.
لكن المشكلة الحقيقية تكمن في انعزال هؤلاء عن المجتمع، علماً أن الأمر لم يكن كذلك في الثمانينيات، فالأنشطة كانت تقام في الأندية الأدبية وهي مفتوحة للجميع، فالكُتّاب والشعراء يلتقون في هذه الأندية ويتحدثون، وكانوا موجودين في الصحف وينشرون أعمالهم، وهذا يؤكد أن النخب كانوا يتفاعلون مع المجتمع، ولم تكن هناك أبراج عاجية.
إذاً النخبوية هي مجرد تخيّلات؟
جزء منها هو عبارة عن تصوّرات غير صحيحة، وجزء آخر يتكئ على حالات حقيقية، والسبب أن بعض أنواع الثقافة يصعب إنتاجها وبثها جماهيرياً، ولابد أن تُنتَج في نوع من العزلة، فلا أتخيل أن إيمانويل كانط مثلاً كان يجلس في أحد المقاهي، ويؤلف "نقد العقل المحض"، أو كان يلقي محاضرة في أحد الأسواق.
من ناحية أخرى، أتحدث عن المبالغة في تعميم هذه الصورة، لأن الثقافة ليست كلها من هذا النوع، ولا تُنتَج كلها بمعزل عن المجتمع، فكيف لروائي أو شاعر مثلاً أن يكتب وهو بمنأى عن الحياة اليومية.
هل يستطيع المثقف النخبوي أن ينتج آلية تجعله قادراً على الاستمرارية؟
معظم المثقفين الذين تشير إليهم بالنخبويين، لم يعودوا كذلك، فالذي يكتب في "تويتر" لابد أن يصل إلى قاعدة جماهيرية عريضة، شبكات التواصل الاجتماعي غيّرت الصورة، كما غيّرت نوعية الخطاب الثقافي. أعتقد أن شبكات التواصل فرضت لغة وسطى.
لا ثقافة من دون اقتصاد
عام 2022 صدر لك كتاب بعنوان "الثقافة في زمن الجائحة"، هل تعتقد أن الجائحة خدمت الحراك الثقافي من خلال ما شهدناه من منصات افتراضية متنوّعة؟
التواصل الافتراضي له جوانب سلبية، لكن هناك جوانب إيجابية أكثر، الآن تستطيع أن تلقي محاضرة من منزلك ويتلقّاك من هو في الصين وأميركا أو أي مكان آخر. العالم الافتراضي أضاف لنا الكثير، وهذا مكسب كبير للثقافة.
لكن لذلك أثر سلبي أيضاً، إذ أن البعض أصبح يفضّل القيام بنشاطه على المنصّات الافتراضية، وهذا يقلّص من فرص التعارف والحوار بين المشاركين، ويحدّ من التواصل الإنساني، إذا بالغنا في الاعتماد عليه.
هناك من يرى أن السينما ديوان العرب الجديد، وأن الكتاب أصبح أقلّ تأثيراً، لا سيما وأنها تحظى باهتمام كبير على مستوى الصناعة والمتابعة، ما رأيك؟
هذه مبالغة شديدة. صحيح أن السنيما أثّرت ولا تزال، لكنها لن تضاهي الكتاب، فالولايات المتحدة من أكثر الدول إنتاجاً للسينما في العالم، بل والأكبر والأكثر هيمنة، ومع ذلك تبقى من أكبر الدول إنتاجاً للكتب، وحيثما ذهبت هناك مكتبات كبرى، ولا أقصد المكتبات العامة، بل المكتبات التجارية لبيع الكتب.
خندق الحداثة
تعدّ أحد رموز الحداثة في المملكة، ولم تتعرّض للإساءة كما تعرّض بعض الحداثويين، أين كنت من خارطة الصراعات؟
مسّني بعض الضرر، وأشير إليّ في كتاب "ميزان الحداثة" بشكلٍ سلبي، لكني لم أدخل في صدامات مباشرة مع أحد، ودافعت عن التيار الحداثي ولا زلت، وأؤمن بقيمة التجديد والتطوّر.
حاولت دائماً أن لا أكون مؤدلجاً أو متحيّزاً أو حادّاً في اختلافي مع الآخرين، وهكذا تجنّبت الصدام، علماً أن هناك من يبحث عن الصدام، لأنه يرى أنها الطريقة الأمثل لإيصال الفكرة، والتاريخ مليء بالأمثلة.
أعتقد أن الطبيعة الشخصية للإنسان تلعب دوراً، لكن الأمور اتضحت تدريجياً بمجرد أن بدأت ألقي المحاضرات وأكتب المقالات في دعم قصيدة التفعيلة مثلاً، والشعر الحر في مقابل القصيدة التقليدية، شعرت بالرفض، وبدأت موجة الردّ تكبر، أدركت حينها أنني في خندق أنا وغيري من المؤيدين للحداثة.
أعتقد أن خطابي لم يكن حاداً، كما أني لم أوجّه اتهاماً لأحد، ولم أعلن أن الحداثة يجب أن تلغي كل شيء آخر، ولم أروّج لمفاهيم مثل القطيعة مع التراث، فمثل هذا الطرح استفزازي، وأنا لا أؤمن بأن هناك قطيعة مع التراث لأن ذلك مستحيل.
لديك تجارب إدارية مهمّة ومتباينة، ما هو الأثر الذي يتركه المنصب في حياة المثقف والعكس؟
هناك وجهان لهذا الأمر، فأحياناً يكون من النعمة أن يشغل المثقف والكاتب مثل هذه المناصب، لأنه ربما سيكون أكثر تسامحاً، وهناك من يرى العكس، أي أنه عندما يكون المسؤول كاتباً يصبح أكثر تسلطاً وقد يكون له رأي خاص، لأنه يعتقد أنه أكثر فهماً ومعرفة.
أما عن الأثر الذي يحدثه المثقف في المنصب، فهناك نماذج مضيئة في هذا السياق، ومنهم الراحل عبد الفتاح أبو مدين، الذي رأس نادي جدة الأدبي لعقود، وكانت تلك فترة العصر الذهبي للنادي.
ومع ذلك أن تكون رقيباً هو الشيء الذي يهرب منه الكاتب، ويظل الأمر مسألة فردية، غير قابلة للتعميم.
اقرأ أيضاً: