نصف قرن على رحيله.. ماذا بقي من إرث طه حسين؟

time reading iconدقائق القراءة - 12
عميد الأدب العربي طه حسين. - adbookfair.com
عميد الأدب العربي طه حسين. - adbookfair.com
القاهرة- شريف صالح

عاش طه حسين حياته بشجاعة، كتب بشجاعة، وعكست مؤلفاته ثراء حياته، حيث ضرب بسهمٍ وافر في القصص والروايات والمقالات والنقد والدراسات الاجتماعية والتاريخية والدينية.

كان طه حسين (نوفمبر 1889 - أكتوبر 1973) عَلماً موسوعياً، وأوّل أديب عربي يتمّ ترشيحه لجائزة نوبل للأدب، خاض معارك لا حصر لها.. ولعلّ أصدق توصيف له ما قاله عبد الفتاح كيليطو: "لم يبق بعد طه حسين أي شيء قابل للإعجاب، ولم يعد ثمّة وجود لأبطال". 

ربما لأن طه حسين في سجالاته كانت عينه على القارئ العربي، كي يأخذ بيده إلى مستقبل أفضل، لا إلى ماضٍ موهوم. والسؤال الآن الذي طرحناه على كوكبة من المبدعين والنقّاد.. ما الذي تبقّى من طه حسين في ذكرى نصف قرن على رحيله؟

تمثال صغير

من كلية الآداب التي تولى عمادتها مرّات عدّة، تحدّث لـ "الشرق" الأكاديمي خيري دومة أستاذ الأدب العربي، فقال، "ربما لم يبق منه سوى تمثال صغير أراه كل يوم في مدخل المبنى، نُقشت عليه هذه العبارة (أ. د. طه حسين)، وكأن الرجل الذي ملأ الدنيا وشغل الناس، تقلّص إلى أستاذ دكتور مثل كل الأساتذة الدكاترة، وما أكثرهم! كما بقيت قاعة مجلس الكلية التي تحمل لافتة كتب عليها (قاعة طه حسين)، لكن للأسف لم يعد له حضور مميّز، ولا يوجد برنامج لدراسة أعماله".

سألنا هل هذا يعني فشل مشروعه؟ فأجابنا الناقد والأكاديمي محمود الضبع، "تنجح المشروعات الفكرية إذا أحدثت تغييراً في الواقع المجتمعي والحياة العلمية، من هذا المنظور فإن مشروعه لم ينجح، من جهة لأن البحث العلمي ومؤسساته عادت إلى ردّة فكرية تبحث فيها الآمن والمأمون، ولا تسمح بما قد يثير القلق، ومن جهة أخرى لأن العالم العربي سقط في خديعة السيولة الثقافة الميديوكرية، ولم تعد عنايته بالجاد والعميق، وإنما بما يحقّق الحشد الجماهيري، أي تعامل مع المثقف والعالِم بوصفه سلعة وليس بوصفه قيمة".

ولماذا انقرض نموذج طه حسين كأستاذ جامعي؟ يعتبر الضبع "أنه انقرض لأن طرق تنشئة الطالب انحرف مسارها، واهتمّت بالبيروقراطي والوظيفي، وأعني تقليص نظام البعثات، وإلغاء استضافة الأساتذة من أنحاء العالم، فضلاً عن إلغاء الكتب والترجمات من نظام الترقية، والاكتفاء بصيغة واحدة هي البحث المنشور في دورية محكمة (وهي كلمة خادعة)".

أضاف: "ويمكن فهم أسباب هذا الانقراض، بالعودة إلى نظرية "تأثير دانينج كروجر"، أو ما يطلق عليه نظرية الجهل المكتسب".

موسوعية وجماهيرية

لم يختف طه حسين وراء أسوار الجامعة، بل تشعّب مشروعه إلى صحف ومجلات، وبرنامج "حديث الأربعاء" في الإذاعة. فعقله الموسوعي بقي متّصلاً بالجماهير. 

هذا ما يلفت الأكاديمي المغربي محمد مشبال، الذي يعتبر "أن إعادة قراءة طه حسين في سياقنا الثقافي، قد يكون مخرجاً لنا نحن المشتغلين بالأدب، من الأزمة التي نعانيها جرّاء كساد بضاعتنا، ومن الشك الذي تسلّل إلى نفوسنا حول جدوى المعرفة التي نقدّمها لمجتمعاتنا، في ظل حياة لا صلة لها بالكتاب من حيث هو مصدر للمعرفة والتثقيف، أو وسيلة للمتعة العقلية".

مشروع طه حسين لم ينجح لأن البحث العلمي ومؤسساته عادت إلى ردّة فكرية لا تسمح بما قد يثير القلق، ولأن العالم العربي سقط في خديعة السيولة الثقافة الميديوكرية

وقال: "عندما نعيد قراءة أعمال طه حسين، فإنّ أهم درس يستخلصه المثقف العربي لتجاوز الوضع الحالي، هو الخروج من وهم التخصّص، وفكّ العزلة عن ذاته، فإذا كان العالِم مطالباً بالتخصّص الدقيق، فإن المثقف مطالب بتنويع المعرفة لتحقيق أمرين مهمّين ومتلازمين: أولهما المعارف الإنسانية التي لا تقوم بذاتها معزولة عن الأخرى، وثانيهما المثقف لا يتوجه بخطابه إلى فئة معيّنة من القرّاء بقدر ما يتوجه إلى عموم القرّاء".

أضاف: "أدرك طه حسين هذه المسألة، فمؤلفاته ليست متعددة الاختصاصات فقط، ولكنها متداخلة؛ فإذا كتب نقداً أدبياً لم يكتبه على نحو ما يصنع النقّاد المختصّون، بل على نحو ما يصنعه ناقد، يبدع في أشكال التواصل مع قارئ، لا يعنيه من قراءة العمل النقدي سوى الظفر بمتعة أو فائدة قريبة لا تكلفه جهداً".

وتابع: "باختصار الدرس الأهم الذي يمكن أن يُستخلص من تجربة طه حسين، هو موسوعيته التي أصبحت ضرورية لأي مثقف معاصر، أراد أن يخرج من ضيق التخصّص إلى آفاق المعرفة الرحبة".

إقامة بين ثقافتين

وتحدّثت الشاعرة والأكاديمية اللبنانية زينب عساف المقيمة في أميركا، عن ملمح آخر في مشروع طه حسين، "إذ تكمن أهمية الرجل في إقامته داخل ثقافتين، كونه اكتنز الحضارتين العربية والغربية، حتى أن أحد معاصريه الفرنسيين اعتبره مثقفاً فرنسياً".

وقالت "إنه وبسبب فهمه العميق للحضارتين، أصبح مثقفاً مكتمل الرؤية، تكمن أهميته في نزاهته الفكرية وإخلاصه لمشروعه. حتى أن معارضيه من اليساريين الذين اعتبروه مثقف الطبقة البرجوازية، لم ينفوا عنه صفة النزاهة، وإيمانه بضرورة تحديث النظام الثقافي والتعليمي المصري".

ورأت عساف أن "هذا التلاقح بين ثقافتين، ساعده في قراءته المجدّدة للتراث، وإعادة طرح الأسئلة، وتوخّي الأمانة التاريخية في تحليل ماضي الحضارة الإسلامية. لكن للأسف لم يتم البناء على ما قدّمه، بل شهدنا إما عودة عقيمة إلى الماضي، أو تبني أعمى لكل ما ترميه علينا الحضارة الغربية".

اختاره دونالد روبينسون في كتاب عن أهم مئة شخصية مؤثرة في العالم مع أينشتاين وبرتراند راسل. وكان أوّل كاتب عربي يرشّح لجائزة نوبل

معارك لا تُنسى

ولفت الروائي السعودي فهد العتيق، إلى أن معارك طه حسين الأدبية "كانت صاخبة في حينها، وكانت أسئلته وشكوكه مثيرة لجدالات كبيرة، وصادمة لجمهورها قبل نحو مئة عام".

 أضاف: "في تلك الفترة كان هناك فصل صارم بين الواقع والخيال، لكن في عصرنا تغيّر كل شيء وتماهى الواقع مع الخيال في حكاية أدبية ممتعة، ولم نعد نسأل كثيراً هل هذا واقع أم خيال، وصرنا نتقبّل فكرة أن الفترة الجاهلية القديمة ورموزها التي تحدّث عنها في كتابه المثير للجدل "في الشعر الجاهلي"، ليست بالضرورة خيالاً كاملاً أو واقعاً دقيقاً، فهذا لا يقلل من استمتاعنا بقصص وأشعار الجاهلية التي نعتبرها جزءاً مهماً من تراثنا. وقد كتبت عنها فصلًا في روايتي "الملك الجاهلي يتقاعد".

من جانبه يؤكد مشبال، "أن طه حسين إذا ساجل لم يهمه الانتصار في معاركه بقدر ما يهمه ترسيخ فكرة الاختلاف في عيشنا المشترك".

استحقاق نوبل

خصّص المستعرب جاك بيرك سنتين من دراسته في "الكوليج دو فرانس" لدراسة طه حسين ودوره في تاريخ الثقافة العربية، بينما منحته جامعات عريقة مثل أوكسفورد وليون وروما وأثينا الدكتوراه الفخرية. 

وطوال حياته ارتبط طه حسين بعلاقات وصداقات مع كبار المبدعين حول العالم، مثل أندريه جيد، وطاغور، وجان كوكتو، وآراجون، وهيلين كيلر، وماسينيون. 

واختاره دونالد روبينسون في كتاب عن أهم مئة شخصية مؤثرة في العالم مع أينشتاين وبرتراند راسل. وكان أوّل كاتب عربي يرشّح لجائزة نوبل، وربما لا يعلم كثيرون أنه رشّح 21 مرة بين عامي 1949 و1969، ومع ذلك لم يحصل عليها!

من خلال معاينة تجربته مع سوزان التي "أبصر بعينيها"، نلاحظ النديّة، فهي كانت ترافقه في أماكن لا توجد فيها نساء، وهو لم يفصل قضايا المرأة عن القضايا التحرّرية كلها

الحب والمرأة

هل تطابقت حياته مع أفكاره؟ المعروف أنه ارتبط بزوجته سوزان قرابة ستين عاماً، وأنجبا أمينة (1918- 1988) زوجة محمد حسن الزيات، وزير الخارجية المصري الأسبق، ثم شقيقها الأصغر مؤنس (1921 -2004) الذي تزوّج ليلى حفيدة أمير الشعراء أحمد شوقي.

وفي كتابها "معك" تقول سوزان "لعل ما بيننا يفوق الحب" وتضيف: "عندما يكون شأن المرء شأن طه، فإنه لا يعيش ليكون سعيداً، وإنما لأداء ما طلب منه".

تحلل الكاتبة زينب عساف نظرته إلى المرأة فتقول، "من خلال معاينة تجربته مع سوزان التي "أبصر بعينيها"، نلاحظ النديّة، فهي كانت ترافقه حتى في أماكن لا توجد فيها نساء، كما أنه لم يفصل قضايا المرأة عن القضايا التحرّرية كلها، مثل تحرير الإنسان من الانحيازات الضيّقة، وتربية فكرة المواطنة والانتماء الواسع، وتسلّح المرأة بالعلم والمعرفة”. 

ولعل ما يؤكد فرضية عساف، أن طه حسين كان أوّل من قاتل لإلحاق الفتيات بالدراسة في أوّل جامعة مصرية، وحضر بنفسه حفل تخرّج أول دفعة من الطالبات.

تراجع التنوير

إذن آمن طه حسين بقيم الاستنارة وطبّقها، فهل تراجعت الآن؟ يجيب محمود الضبع، "إن عصر التنوير بأكمله انتهى عالمياً، وبدأنا عصر الذكاء الاصطناعي، وكل يوم يمرّ على الشعوب العربية من دون أن تبدأ بناء نظام الذكاء الاصطناعي الخاص بها، فإنها تخسر كثيراً".

أضاف: "إن العلماء العارفين بطبيعة التغيّرات الآن، يدركون كيف أن مفاهيم العلم والثقافة والوعي جميعها يتغيّر جذرياً، وعلى نحو فائق السرعة. لكن هذا لا يمنع الاستفادة من القضايا العديدة التي طرحها، مثل قضية الأصالة والمعاصرة، والشعر الجاهلي، واستعادة التراث، وتربية الرأي العام، والتعليم، والتنمية".

نبتة الأمل

يشترك خيري دومة مع طه حسين في جذوره الريفية، وعن تجربته الملهمة يقول، "إن طه حسين يجسّد رحلة صعود عظيم، ظلت مبعث أمل دائم في مواجهة المحن. فمنذ عام 1929، حين نشر الجزء الأوّل من رائعته "الأيام"، رسم الطريق الصعب للصبية الفقراء من أبناء الفلاحين والموظفين الصغار، الذين كان عليهم أن ينحتوا في الصخر ليتاح لهم ولوطنهم التعلم والتقدّم والحرية والعدل"..

يضيف: "رحل الرجل منذ 50 عاماً، وجرت في النهر مياه كثيرة، تآكلت منجزاته على الأرض، خصوصاً في مجانية التعليم، وتراجعه على نحو لم يخطر ببال، تخلخلت الدنيا نفسها وتغيّرت. فهل بقي شيء منه بعد كل هذا؟ الإجابة هي نعم.. لو لم يبق منه سوى الأمل لكان دواء كافياً يتجدّد به المصريون وتتجدّد الإنسانية.. فنحن بحاجة إلى نبتة الأمل التي زرعها، وبحاجة إلى روح التكامل التي أكلتها المصالح الضيّقة".

المقبرة والبيوت

في مقابر الخليفة دُفن طه حسين، ثم لحقت به ابنته أمينة، بينما دُفنت زوجته في مقابر مسيحية، ومؤنس في فرنسا.. فرّق الموت بين أفراد الأسرة الأربعة. ثم دار لغط  أخيراً حول هدم مقبرته، وسعي عائلته لنقل رفاته إلى فرنسا، وجرى تكذيب ذلك، مع الإقرار بمرور جسر فوقها ليزعج رجلًا كره الضجيج وعشق الحدائق وتغريد الكروان.

أما بيوت حياته، فقد انتقل من عزبة الكيلو في مغاغة إلى القاهرة ثم فرنسا، وبعد عودته تنقّل في شقق كثيرة في حي السكاكيني وناحية قصر النيل، ثم مصر الجديدة، ثم بيت الزمالك، الذي كان قريباً من مدرسة الفنون الجميلة.

عام 1956 شيّد فيلا ذات حديقة قرب طريق الأهرامات، وأطلق عليها اسم "رامتان". وللأسف بعد أربعة شهور من رحيله تعرّضت الفيلا للسطو، ومما سُرق "قلادة النيل"، أرفع وسام مصري، كان منحها له عبد الناصر، وساعة "اللونجين" التي بقي يرتديها لنصف قرن.

الطريف أن حيّ الزمالك الذي عاش فيه عشرين عاماً، أطلق اسمه على "محطة صرف صحي"، عندما رغب في تكريمه، ما أثار السخرية، فأزيل الاسم. أما رامتان فأصبح متحفاً يخضع لوزارة الثقافة حالياً، لكنه ليس في أحسن أحواله.

فماذا عن بيته في مسقط رأسه؟ يحدّثنا من مغاغة الكاتب محمد عبد القوى حسن بأن"أهل طه حسين تركوا المنيا، وعزبة الكيلو باتت جزءاً من مغاغة مع التوسّع العمراني. ولا يوجد أي أثر يدلّ عليه سوى إطلاق اسمه على أحد الشوارع. كما تردّد طه حسين على استراحة في "تونة الجبل" في ملوي، لكن لا يوجد بها أي متعلقات شخصية له، وهي خاضعة الآن لوزارة السياحة".

سألنا عبد القوي عن البيت الذي ولد فيه طه حسين، فأوضح "أنه لم يعد له أثر، ويشغل موقعه الآن "سوق للخضار"!

تصنيفات

قصص قد تهمك