الشاعر والدبلوماسي شوقي عبد الأمير، من الأصوات الشعرية العراقية المهمّة. منذ بداية السبعينيات، كتبَ في الشعر الكلاسيكي ديواناً لم ينشره، لكنّه، عكف على قصيدة التفعيلة التي اختارها بوعي شعري، كما كتب في قصيدة النثر.
صدرت له مجموعات شعرية في اللغتين العربية والفرنسية تأليفاً وترجمة، منها، "أنا والعكس صحيح"، و" كتاب نادو"، و"ديوان الاحتمالات" وسواه، وفي الترجمة "نحّات الصمت" شعر غيوفيك، فضلاً عن كُتبٍ في المقالة والسرد الأدبي.
عمِل مستشاراً لدى منظمة "اليونسكو"، وأسس مشروع "كتاب في جريدة". ترأس تحرير جريدة "الصباح" العراقية، ومجلة "بين نهرين"، وأسهم بتأسيس مراكز ثقافية عدّة. توّج أخيراً شخصية العام الثقافية 2023، ومنحته وزارة الثقافة الفرنسية وسام الفارس في الفنون والآداب، الذي يعدّ أرفع وسام فرنسي.
شوقي عبد الأمير (1949) من الناصرية جنوب العراق، حاز بكالوريوس في الآداب من جامعة بغداد (1970)، وماجستير أدب مُقارن من جامعة "السوربون" (1977).
"الشرق" حاورت الشاعر العراقي حول إنجازه الإبداعي والدبلوماسي، في مراحل مختلفة، ترحّلاً ما بين اللغات والأجناس الأدبية.
هل صحيح أن ما يربط الشعر والدبلوماسية هو الكلمات واستشعار المواقف؟
الأمر ليس كذلك، فعندما تقرأ مثلاً الشاعر الفرنسي العظيم سان جون بيرس (نوبل الأدب 1960)، تجد أنه لم يغيّر اسمه اعتباطاً من ألكسيس ليجيه إلى بيرس. وهو كان دبلوماسياً من الطراز الأوّل في وزارة الخارجية الفرنسية في أثناء الحرب العالمية الثانية.
هذه ليست مفارقة عبثية، بمعنى هناك كوكبان في لغة الشاعر، أحدهما دبلوماسي الخطاب في ما يتعلّق باللغة؛ كالعلاقة مع الحقيقة والغاية والوظيفة، وهناك في النص شيء آخر مختلف، على الرغم من أننا نتحدّث عن الشاعر ذاته فحسب.
المكان هو المكان، ولا أنظر إليه كجغرافيا. والشاعر هو الذي يقرؤه مُلقياً عليه ما يريد من الغرض الشعري
هكذا، نقرأ قصيدة "ضيقة هي المراكب" (بيرس)، إلى جانب التقارير الدبلوماسية التي كان يكتبها أليكسس ليجيه، أو مَحضر توقيع معاهدة مع ألمانيا، بموجبها احتلت بولندا (وقّع المعاهدة بيرس نفسه). وعلى هذا المنوال وصولاً إلى الشاعر بابلو نيرودا، وعمله كقنصل لبلاده تشيلي في جيبوتي، وكذا الحال مع سيفيريس وغيره.
شعرية الديبلوماسية
هؤلاء هم عظماء الشعر. يشتغلون دبلوماسياً على اللغة، وتساعدهم دبلوماسية اللغة على ذلك. الشاعر باعتباره إلهاً في اللغة، يصنع منها ما يريد، فهي عجينته ما بين يديه، يستطيع توظيفها كما يحلو له، ولكنه، في جذوره يبقى شاعراً فحسب.
عندما يكون للشاعر استطاعة في اللغة، يُحقّق ذاته من خلالها، بوصفه شاعراً دبلوماسياً. إنّها اللغة ولا سواها. لقد مارستُ شخصياً الوجهين، ولم أعان من أي ممانعة، شاعراً في قصيدتي، ودبلوماسياً في عملي.
كتاب في جريدة
حقّق مشروع "كتاب في جريدة" نجاحاً خلال 17 عاماً من النشر، مدعوماً من اليونسكو، وبمشاركة صحف عربية عدّة. وهناك كلام يستبشر خيراً بإعادة إطلاقه مجدداً. هل ثمّة تطوّر في هذا الصدد؟
لستُ مِن يتحدّث عن مشروع "كتاب في جريدة"، إنّما تتحدث عنه الحاجة إليه، متمثلّة بالقرّاء ومسؤولي الصحف والمجلات، مستوضحين أسباب توقّفه المؤقت، مطالبين بإعادة إصداره.
بمعنى، أن هناك حاجة ثقافية إليه، لا سيما وأنه يعدّ أبرز مشروع ثقافي عربي موحّد؛ لقد تفرّق العرب عند كل القضايا المصيرية، لكنهم اجتمعوا على دعم المشروع بالسبل كلها. إنه مشروع تنويري عربي وحدوي، صفحة بيضاء في الثقافة العربية (أصدرنا 170 كتاباً بمعدّل مليوني نسخة، وهكذا تجاوزنا توزيع 350 مليون نسخة).
كما أرغب أن أوضح أمراً مهماً، وهو أن توقّف المشروع لم يأت بسبب انسحاب الشركاء أو مشكلات ثقافية في التوزيع والإعداد، بل إن راعي المشروع، ولأسباب خاصّة، لم يستطع الاستمرار بدعمه، وها نحن نعمل على عقد مؤتمر تحضيري في نهاية السنة، بعد أن قمنا بإعادة تأهيل وافتتاح مكتب بيروت الإقليمي. كما سينضم إليه شركاء جدد من مواقع إلكترونية ومهتمّين بالنشر الرقمي.
معهد العالم العربي
لماذا لم يتولّ العراق إدارة المعهد، بينما تقوم بدور مستشار رئيس المعهد لجهة العراق منذ العام 2019؟
هذه الدورة هي استحقاق للعراق بلا منازع، ولكن جاء ترشيح تونس متأخّراً، وفي غير مكانه، ولم يأخذ للأسف الشديد حيثيات ترشيح العراق سابقاً (لا يحقّ لتونس الترشّح لهذه الدورة، لأن هذه الدورة خاصّة بالمشرق، أما شمال أفريقيا فقد احتلت المنصب لثلاث دورات (المغرب، الجزائر، مصر).
كما أن رأي السفراء العرب بعد إجراء المقارنة بين المرشّحَيَن، كان لجهة العراق تماماً. لقد سعى العراق، ولا يزال متمثلّاً برئيس الوزراء السيد محمد شياع السوداني، الذي تحدّث شخصياً إلى الرئيس ماكرون بهذا الصدد.
يعُدّ معهد العالم العربي مؤسسة فريدة من نوعها، وواجهة ثقافية عربية دولية بامتياز. جمعت العرب ثقافياً، ونادراً ما نجد مثيلاً لها في الثقافة الغربية، في برلين، أميركا، إيطاليا وسواها، تُعرض نشاطاته الثقافية في العالم، منذ أربعين عاماً.
هناك حاجة ثقافية لمشروع "كتاب في جريدة"، ونحن نعمل على عقد مؤتمر تحضيري في نهاية السنة، بعد تأهيل وافتتاح مكتب بيروت الإقليمي
بدايات القصيدة
منذ ديوانك الأوّل "حديث لمغني الجزيرة العربية"، وصولاً إلى المختارات الشعرية "خيانة الألم" الصادر عن دار النهضة العربية بيروت 2023، وشعرك مشحون بالتراث الأدبي السومري، وأنت المولود في الناصرية، حاضنة مدينة أور التاريخية، كيف تصف ذلك؟
لا أؤمن بالأسطورة ولا بالتاريخ في الشعر. لا زمان، كما لا مكان مُحدّد للشعر، فكلّ نتاج إنساني، هو جزء من نصّ، يعتمدُ الخطاب والتأويل. أقول من دون مواربة: إذا كانت البدايات في النصوص، هي سومرية بامتياز، والأمر ليس اختياراً أو انحيازاً، إنّما تؤكده الحضارة الإنسانية ذاتها؛ فأوّل نص أدبي في التاريخ، هو سومري.
إنّ زمن الشعر، هو الزمن العمودي، الذي يستفهم، ويقيم علاقات مع الوجود، ومن ثم، يخترق الحاضر، بينما الزمن السردي هو الأفقي فحسب.
الترجمة هي أهمّ وأعمق أشكال القراءة. كنتُ معجباً بنصوص عربية كثيرة، وعندما حاولت ترجمتها إلى الفرنسية، وجدتها غريبة عني
وهكذا، لا يمكنني أن أقرأ نصّاً سومرياً "مَثَلُكَ، مَثَلُ بَقرةٍ عقيم، تبحثُ عن عجلها، الذي وجود له"، متجاوزاً الحمولة الشعرية الدلالية فيه. لا أستطيع أن أكتب نصوصي دون الوقوع تحت تأثير الأدب السومري. ما جعلني، متماهياً مع فكرة وهي: أن الشاعر المعاصر، يقف فوق أعلى هرم ارتفاعه (5000 سنة سومرية)، قاعدته في أور التاريخية.
هذه حقيقة أركيولوجية وليست تاريخية، فالرقائم لا تُزيّف، وعليه كلكامش الملك كما ملحمته لا يزيّف أيضاً، ولكن، على الشاعر أن يختزل التراكم الأدبي والمعرفي في نصّه، ويعمل على تدويره عصرياً، مقدّماً نتاجه، على أنّه نصه الشخصي فحسب، وإن استلهم ماضية الحضاري.
بناءً على رؤيتك إلى مدينة أور شعرياً وحضارياً، هل ما تعنيه بـ"أور- الشعر" هو المكان الشعري ذو الدلالات والرموز، لا سيما وأن لديك مجموعة شعرية بعنوان "ديوان المكان" (1997)؟
مكاني هو الشعر لا غير، لا يحمل المكان أي صفة، فهو كلّ شيء: عندما دخلتُ إلى مدينة بعلبك، دخلت إلى باخوس مباشرة، المكان هو المكان، ولا أنظر إليه كجغرافيا. والشاعر، هو الذي يقرؤه مُلقياً عليه ما يريد من الغرض الشعري. "الشعر مبثوث في كل حيّز واتجاه"، كما يقول الشاعر الفرنسي غيوفيك، فلا يحتاج الشاعر على هذا النحو إلى المكان إلا باعتباره ذريعة إلى الشعري، مع التأكيد على التفريق ما بين الشعر والقصيدة.
كما يقول نيتشه "لست سوى شاعر". الشاعر يشتغلُ في الشعر، ويحلم بالشعر، كأنّه مصير شخصي تراجيدي، أسوة بأبطال الملاحم والروايات
الشعر موجود في كلّ مكان، وفي كل ظاهرة، والشاعر، هو، مَنْ ينقل اللحظة الشعرية، وعليه تولد القصيدة. تكمن العبقرية في اختزال الوجود شعرياً.
هل الترجمة هي تأويل للنصوص؟
أعتقد أن الترجمة هي أهمّ وأعمق أشكال القراءة. كنتُ معجباً بنصوص عربية كثيرة، وعندما حاولت ترجمتها إلى الفرنسية، وجدتها غريبة عني، وكأنّي لا أعرفها، فاكتشفت في الآن ذاته قوتها كسمفونية داخلية في لغة الأم فحسب.
الترجمة هي تشريح حقيقي، هي إجراء عملية قلب مفتوح. تحيا القصيدة أو تموت جراءها. هكذا كانت تجربتي مع بعض قصائد الشاعر العراقي سعدي يوسف، وهو أوّل شاعر أترجم له.
أقول بما يتعلّق بالترجمة: القصيدة أحياناً، إمّا أن تكون جنينية لا تخرج من الرحم مطلقاً، أو تخرج منه، ولكن بصعوبة، أو تكون سهلة، لا صعوبة معها. لا يوجد نوع واحد من الشعر. هناك شعر يَعبُر الأسوار بسهولة، وآخر جنيني، يبقى داخل اللغة ويموت خارجها.
- وأين تجد نفسك في الترجمة أو الشعر؟
كما يقول نيتشه "لست سوى شاعر". الشاعر يشتغلُ في الشعر، ويحلم بالشعر، كأنّه مصير شخصي تراجيدي، أسوة بأبطال الملاحم والروايات.
تجربة إعلامية عريقة
ماذا عن تجربتك الإعلامية ودورك الريادي في تأسيس الصحف والمجلات؟
كنتُ شاعراً وكاتباً في تجربتي الإعلامية. الشاعر، هو كل شيء في حياتي، والشعر أهم تجربة لي.
ترأست تحرير مجلة الصباح العراقية (ثمانية أشهر)، وعملت مستشاراً في جريدة "الزمن "العمانية (سنة ونصف)، لكن تجربتي الشعرية والإعلامية الأهم هي تأسيس مجلة "بين نهرين" العراقية، ضمن رؤية إبداعية خاصّة عملت على رعايتها وتطويرها ترجمةً وملفات ثقافيةً فلسفية وتشكيلية، ما أسهم بنجاحها، لكنّها توقّفت لأسباب يطول شرحها، ونحن الآن بصدد إعادة إصدارها.
كيف ترى إلى اختيارك شخصية العام الثقافية 2023، ومنحك وسام الفارس للفنون والآداب من قبل فرنسا؟
هذا استحقاق أدبي جاء من قِبل اللغة التي اشتغلت فيها كتابة وترجمة وبحثاً وعلاقات إبداعية مع أشهر شعراء وكتّاب فرنسا، من بيكيت، إلى ميشيل دوغي وغيوفيك، وبرنار لوي وسواهم، صداقات شخصية ومشروعات إبداعية مشتركة، جسراً مشتركاً يربط الثقافتين الفرنسية والعربية، كما قالت وزيرة الثقافة الفرنسية.
الثقافة تقنية وجود للعربي، لا قوّة للعرب راهناً سواها، من دونها سينقرضون، وبها، يحقّقون ما يصبون إليه، وهكذا، فحلم الشاعر والمثقف معقود على ثقافته، ووجوده من وجودها.