يتفق المختصّون على أن اللسانيات هي الدراسة العلمية للغة فحسب؛ فدراسة اللغة قبل عصر العقل كانت غير علمية، تتعلق جوهرياً باعتبار اللغة مقدّسة، كما لدى الدراسات اللاتينية أو العربية.
قبل ظهور مصطلح اللسانيات linguistics، كان المصطلح السائد هو (الفيلولوجيا) بوصفه خيمة لكل الدراسات الإنسانية، ولم يظهر مصطلح اللسانيات في الإنجليزية إلا في القرن التاسع عشر.
كان مصطلح "علم اللغة" هو السائد، وبسبب كونه مركّباً من كلمتين، فضّل المختصّون استخدام مصطلح اللسانيات الأكثر رشاقة، ولم تعد مهمّة اللسانيات معاينة النصوص القديمة فحسب، بل اهتمّت بدراسة الكلام والملفوظ والمحكي واللهجات المتنوّعة.
"الشرق" أجرت حواراً مع الأكاديمي والباحث العراقي في اللسانيات سعيد الجعفر، الحاصل على شهادة دكتوراه في اللسانيات من جامعة سانت بطرسبورغ في روسيا 1990، الأستاذ السابق في جامعة ستوكهولم قسم الاستشراق، وفي جامعة أوبرو كلية الثقافة والتواصل في السويد.
الجعفر هو شاعر ومترجم، ترجم كتباً عدّة من السويدية والإنجليزية والروسية إلى العربية منها، كتاب "الاستشراق السويدي"، "الصدمة 11 سبتمبر" لنعوم تشومسكي، "الحُمرة وقصائد أخرى" للشاعرة السويدية إنغريد ارفيدوس وغيرها. يعدّ للنشر كتاباً مترجماً في "السيميوطيقا" عن السويدية.
ما هي أنواع اللسانيات المعاصرة؟
الانتقال من عصر الميثوس (ما قبل العقل) إلى عصر الوغوس (عصر العقل)، أسهم بظهور اللسانيات، فلم تعد هنالك لغة مقدّسة وأخرى مدنّسة، أو لغة جميلة وأخرى قبيحة، إذ صارت اللغات جميعاً تُدرس على السواء، فضلاً عن الثورة التي قام بها دي سوسير، عندما درس اللغة تزامنياً (سينكرونياً)، وليس تعاقبياً (ديكرونياً).
وهكذا، ظهرت اللسانيات النفسية الاجتماعية مثلاً، التي ارتبطت بالأنثروبولوجيا، فبرزت لدينا اللسانيات الأنثروبولوجية وسواها، وهناك تقريباً 33 فرعاً في هذا العلم، منها لسانيات القانون، ولسانيات الحاسوب، وعلم الدلالة، وعلم الإشارة، ولسانيات المنطق والنحو والفونولوجيا، واللسانيات التاريخية...
بماذا نستفيد من دراستها؟
يقول كلود ليفي شتراوس إن الإنسان هو كائن لغوي، واللسانيات موجودة في كل مكان وتحيط بنا. وهكذا، لا غنى لنا عنها. اليوم يُستخدم التحليل اللساني لكشف الجرائم، ومعالجة الأمراض النفسية، ومعرفة تاريخ الشعوب المختلفة، من خلال حلّ شفرات اللغات القديمة وتصميم لغات الكومبيوتر ولغة المنطق.
فضلاً عن ذلك، فإن العولمة تشترط معرفتنا باللغات لتسهيل التواصل بين البشر، وفي الحقيقة فكل الإشارات اللغوية التي نواجهها وبشكل متكرّر تتطلب معرفة باللسانيات.
يشير كتاب "الاستعارات التي نحيا بها" للمؤلِّفَين، جورج لايكوف، ومارك جونسون، إلى عدم استغناء البشر عن الإشارات والمعاني.
لكن ما هي أنواع الإشارات وما هو تأثيرها الاجتماعي علينا؟
تقسم الإشارات إلى أنواع عدّة، منها الإشارات بين الكائنات الحيّة bionics أو Bio Semiotics. وتتفرّع منها الإشارات بين الحيوانات zoo semiotics، والإشارات بين النباتات Phyto semiotics. أما الإشارات بين الآلات، فتدعى السبرنطيقا cybernetics.
بيد أن هذه الأنواع من الإشارات، لا تعادل إلا شيئاً بسيطاً قياساً إلى الإشارات بين البشر أنفسهم، وكذلك علاقتهم بمحيطهم. وهكذا، فهي الدليل إلى معرفة المجتمعات ودراسة أنساقها الثقافية والأدبية والنفسية، بل وحتى الاقتصادية. وقد حدّد بيرس أنواعاً ثلاثة هي، الأيقونة والرمز والمؤشر.
هذا يعني أن الكتابة وحدها ليست كافية؟
هنالك الكثير من الأنساق الإشارية جرى البحث فيها من قبل المختصّين في السيميوطيقا، منها نسق التنقيط أو الترقيم، والأرقام والحروف في الكيمياء والفيزياء والرياضيات، ونسق إشارات المرور، ولغة الصم والبكم، ونسق الشطرنج والدومينو والألعاب المختلفة، وأرقام السيارات ونسق الأوسمة والأختام وهكذا.
هذه الأنساق كلها، تخلط بين الجانبين اللغوي والصُوري، وعليه لا تكفي الكتابة أحياناً لتوضيح المراد، ويجب دعمها بتوضيحات من خلال الصور والأشكال المختلفة.
ما علاقة السيميوطيقا أو علم العلامات والأدلة والرموز بالأدب، وكيف تقودنا إلى فهمه؟
علاقة السيميوطيقا بالأدب كانت محلّ اهتمام الكثير من الباحثين، وبالذات وتحديداً ميخائيل باختين (1895 – 1975) وحلقته، حيث قدّم نظريته في ما وراء اللغة، وربط التحليل الأدبي بالسيميوطيقا. كما خاضت الشكلانية الروسية ومدرسة براغ وغريماس والبنيوية بشكل عام في الموضوع، وقدّموا إنجازات جوهرية حول نظرية الأدب.
يتداخل كل من الأسلوبية والنقد الأدبي والسيميوطيقا، في تحليل النصوص الأدبية، سواء كان في الشعر أو السرد، وتبرز الفونولوجيا كونها أداة لتحليل النصوص، فضلاً عن الإشارات التي يمنحها المحيط في جو القصيدة أو السرد.
فالإشارات الثقافية، مثل العادات والملابس والطقوس الدينية وكل تفصيل أنثروبولوجي، تؤثّر عميقاً في جو العمل الأدبي، ومن دونها، لا يمكننا الخروج بتحليل حقيقي.
لا يمكننا مثلاً أن نفهم الجو النفسي لقصيدة "غريب على الخليج" للشاعر العراقي بدر شاكر السياب، من دون معرفة الأنثروبولوجيا العراقية. وقد بحثت في أطروحتي موضوع حقل التداعيات الغني لدينا، بخصوص مفردة "النخلة" أو "الجَمل" قياساً إلى فقره في الثقافة الغربية، والتي تنظر إلى تلك المفردات كونها دخيلة (مجلوبة) exotic، تماماً مثل علاقتنا بالجليد أو عيد الميلاد وإشاراته الغنية لدى الغربيين.
ما هي خصائص اللغة السويدية وإشكاليات الترجمة منها؟
لقد ترجمت ثمانية أعمال من السويدية، ولمست أن ما يواجهنا في الترجمة من السويدية إلى العربية، هو موضوع النظام النحوي واللغوي المختلف جوهرياً بين اللغتين، إذ تنتمي السويدية إلى الفرع الجرماني في الشجرة الهندو- أوروبية، في حين تنتمي العربية إلى شجرة اللغات السامية.
وقد تكون مهمّة المترجم من السويدية إلى العربية أسهل نوعاً ما، قياساً إلى الترجمة من اللغة الروسية ذات المنطق اللغوي والنحوي المعقّد، وخصوصاً إلى العربية ذات المنطق اللغوي والنحوي الأكثر تعقيداً.
يعدّ كتابك "الاستشراق السويدي" مدخلاً للقارئ العربي الذي يجهل نوعاً ما هذا الموضوع، كما قدّمته بكونه غير مرتبط بالكولونيالية.
وصف إدوارد سعيد الاستشراق بأنّه يدور في فلك الدوائر الاستعمارية خدمةً لمصالحها، ولست هنا لأدافع عن الاستشراق السويدي مجاناً، بل أعتبره بحسب تخصصي وعملي، من أهمّ المدارس الغربية، الذي قدّم خدمة ممتازة للثقافة العربية.
بدأ الاستشراق السويدي بشكل فاعل منذ منتصف القرن الثامن عشر، مع تأسيس أقسام اللغة العربية في جامعتي لوند وأوبسالا، ولاحقاً مع الأعمال المهمّة للمستشرق الكبير تور أندريه، الذي يمكن أن نضعه على قدم المساواة مع مستشرقين كبار مثل بروكلمان ونولدكة.
كما كان هناك جهد هائل للمترجم إيريك هرملين الذي قام، وعلى مدى عشر سنوات، بترجمة أعمال كثيرة، وضعت الاستشراق السويدي منافساً للاستشراقين الألماني والفرنسي. إذ ترجم أعمال سعدي وحافظ الشيرازي وأعمال سنائي والعطار والرومي و(كليلة ودمنة).
كما زار الكثير من المصوّرين السويديين البلدان العربية، أبرزهم إيفان أجيلي الذي اعتنق الإسلام، وعاش لفترة طويلة في مصر وأتقن العربية.
وماذا عن دور الاستشراق السويدي المعاصر من قضايا العرب والمسلمين وثقافتهم؟
برز مستشرقون ومترجمون أفذاذ في القرن التاسع عشر، نقلوا إلى الثقافة السويدية الكثير من الأعمال المهمّة الخاصّة بالفكر العربي – الإسلامي، مثل أعمال أج أس نيبيرغ، الذي يتقن نحو عشرين لغة، وكان مدافعاً عنيداً عن العرب وثقافتهم.
أمّا في القرن العشرين، فهناك مستشرقون ومستعربون، من أمثال يان يربه، ويان ريتسو، وشيشتين إيكسيل، وإنجمار كارلسون، وقد قمت في كتابي (الاستشراق السويدي) باستعراض نصوص لمجموعة من أهم المستشرقين والمختصّين في الإسلام والرحالة، رغم أن موضوع الاستشراق السويدي، يحتاج إلى أنطولوجيا واسعة وشاملة.
كما يُعدّ الاستشراق السويدي، وهو فرع من الاستشراق الغربي، مدرسة لها أسلوبها ومميزاتها، مقارنة بالاستشراق السوفياتي الشهير بنهجه اليساري والغربي، وذلك، نظراً للأعمال الجليلة التي قدمها المستشرقون والفنانون التشكيليون والرحالة السويديون.
لماذا لا تعتبر الاستشراق السويدي كولونيالياً؟
منذ معركة "بولتافا" 1709، حيث هَزمت روسيا السويد عسكرياً، تخلّت الأخيرة عن دورها الاستعماري نهائياً، وعليه، لا يمكن أن نعتبر الاستشراق السويدي استعمارياً، كما أن المستشرقين السويديين كلّهم، كانت لديهم أهداف شخصية منها، عشق اللغة العربية، واهتمامهم بالمجتمعات العربية والإسلامية، من دون الانخراط في سياسة الدولة أو المؤسسات التبشيرية.