من منا لم يجد في حضارة مصر القديمة شيئاً يفتنه أو يحاكيه؟ ولا عجب في ذلك، فهذه الحضارة العظيمة مهما بدت بعيدة عنا في الزمن، تبقى قريبة في جغرافيتها وآسِرة في غموضها.
وسواء تعلق الأمر بأبجديتها الصورية، أو بهندسة صروحها الرائعة، أو بآلهتها التي تحضر بجسد إنسان ورأس حيوان، أو بوجوهها الكبرى، مثل إخناتون ورمسيس الثاني وخوفو وتوت عنخ آمون ونفرتيتي وكليوباترا، ستبقى هذه الحضارة من دون شك مصدر شغف وافتتان لنا، شرقاً وغرباً، حتى انقضاء الزمن. والدليل، عدد المعارض التي تحظى سنوياً بها، وآخرها معرض "فرعون، أوزيريس والمومياء" الذي ينظمه حالياً متحف "غرانيه" في مدينة أكس أن بروفانس الفرنسية، ويستمر حتى نهاية العام.
يقام المعرض في وقت تحتفل فيه مصر بافتتاح متحف الحضارات الذي يعد من أهم المتاحف العربية.
وتكمن قيمة المعرض في كون متحف "غرانيه" يملك ثاني أكبر مجموعة من التحف المصرية في فرنسا، بعد متحف اللوفر، وفي استقدام القائمين عليه من اللوفر ومن متاحف أوروبية أخرى قطعاً مهمة لبلوغ هدفهم من هذا المعرض، أي يوفر لزواره فرصة توسيع دائرة فهمهم لحضارة ما يزال الغموض يلف جوانب عدة منها.
وتتوزع محتويات المعرض على صالات ثلاث وفقاً لثلاثة محاور: فرعون وخدم مملكته والأبجدية الهيروغليفية كنماذج عن ديمومة مصر؛ أوزيريس والآلهة الأخرى كتجسيد لأسرار الطبيعة التي يتعذر على البشر بلوغها، وأخيراً، العالم الآخر وتصور المصريين القدماء الفريد له.
رسم ونحت
في الصالة الأولى، نعرف أن عبارة "فرعون" كانت تشير أولاً إلى القصر الملكي، قبل أن ترتبط بشخص الملك، وأنها لم تكن تُستخدم أبداً بصيغة الجمع بل كصفة تُلقى على الملك الجالس على العرش، لا على من سبقه أو سيتبعه من ملوك.
وفي هذا السياق، نتعرف إلى مختلف التيجان الخاصة به ورموزها، وإلى مختلف تماثيله نحتاً ورسماً التي لا تشكل في الواقع بورتريهات له، بل رموزاً تعبيرية (idéogrammes). وإذ يحتل الفرعون رأس الهرم الإداري المعقد، يتألف الهرم من أمراء وموظفين كبار كانوا يضطلعون بمهمة إدارة المملكة تحت إشراف وزير كبير يمكن التعرف إليه عن طريق الشارة التي يرتديها حول عنقه.
ومن التماثيل التي كان يتركها هؤلاء الوجهاء في معبد مدينتهم أو في مقابرهم، يتبين لنا أن المصريين القدماء كانوا يمثلون الإنسان بوجوه متعددة بغية الإمساك بأقصى حد من السمات التي تحدده، وأنهم لم يكترثوا لتمثيل الأشياء كما نراها، بل كما نتصورها، وهي مقاربة تختلف راديكالياً عن تلك المعتمدة في الحضارات الأخرى.
ومن المميزات الأساسية للصورية المصرية: حضور الوجه والذراعين والساقين والقدمين بطريقة جانبية، بخلاف العين والكتفين، إذ يحضران بطريقة أمامية. أما تقديم قدم على الأخرى فغايته التعبير عن قدرة الإنسان على الحراك والفعل.
ولأن الكاتب، أو الناسخ، هو أحد أشهر رموز مصر القديمة، نراه داخل هذه الصالة في تماثيل مختلفة جالساً القرفصاء، يمسك بيده اليسرى مخطوطاً من الورق البردي ويطوي أصابع يده اليمنى كعلامة على فعل الكتابة. أما قدرته على الكتابة فتشير إليها الأبجدية الهيروغليفية التي تعلو المخطوط.
في الصالة الثانية، يتبين لنا أن المصريين القدماء، مثل جميع شعوب العصور القديمة، سعوا إلى تفسير العالم والقوى الغامضة الفاعلة فيه عبر لجوئهم إلى القوة الخارقة.
من هنا غزارة آلهتهم التي كانت تختلف من مدينة إلى أخرى، علماً أن بعضها كان يتمتع بهيبة واعتبار في مختلف أنحاء البلاد، مثل أوزيريس، ملك مصر الأول وفقاً إلى التقليد، الذي قتله شقيقه "ست"، ثم أعادت إحياءه أخته وزوجته إيزيس وأنجبت منه حورس. من هنا تجسيده أمل الانبعاث، وتحوّل مدينة أبيدوس، حيث مدفنه، إلى مركز كبير للحج انطلاقاً من الألف الثاني قبل الميلاد، وتشييد مصريين كثر مقابرهم ومعابدهم الخاصة حول المعبد الكبير المكرس لتعبده، بهدف المشاركة في انبعاثه، خصوصاً خلال الاحتفالات السنوية.
مصر القديمة
ولمنحنا فكرة عن غزارة آلهة مصر القديمة، تحضر في هذه الصالة تماثيل برونزية صغيرة كثر إنتاجها في الألف الأول قبل الميلاد وتمثل هذه الآلهة بطريقة هجينة، أي بجسد إنسان، رمزاً لقدرتها على الفعل، وجسد حيوان يحدد هويتها. ولا عجب في هذا التمثيل، فالمصريون كانوا يلجأون إلى نموذج الطبيعة الملموس للتعبير عن تصورهم لهذه الآلهة وقدراتها.
أما التماثيل برأس إنسان وجسد حيوان، فكانت نادرة، كتلك المرصودة لتمثيل كائن "أبو الهول" الأسطوري. وثمة آلهة بشكل حيواني هجين، مثل توريس التي تحضر برأس تمساح وجسد فرس بحر وقدمي أسد، أو بشكل حيواني صافٍ (ثعبان أو أسد أو صقر...)، وآلهة أخرى كانت تتجسد على الأرض بشكل حيوان وحيد كان يضطلع بوظيفة وسيط بينها وبين البشر.
وفي الألف الأول قبل الميلاد، انتشر تحنيط آلاف الحيوانات، على أنواعها، كما تشهد على ذلك مومياء وبيضة تمساح ونعشان لسمكتين في هذه الصالة.
أما الصالة الأخيرة من المعرض، المرصودة لطقوس الدفن وللمقابر في مصر القديمة، فنعرف فيها أن احترام هذه الطقوس، ثم تقديم أقارب الميت هبات له بعد موته، كانا يسمحان له "بعدم الموت مرة ثانية"، وأن المقبرة المهمة كانت تتألف من معبد مشيد على سطح الأرض، يتقدمه بهو أحياناً، ومن ديماس سفلي.
وفي المعبد الذي يتضمن دائماً تمثالاً يمثل الميت، كانت عائلة هذا الأخير تقدم له الخبز والجعة، بعد رد إليه حواسه بفضل طقس "فتح الفم" الذي كان يتم بأدوات خاصة قبل إنزال جثمانه المحنط إلى الديماس.
أما عملية التحنيط، فكانت تقتضي بإفراغ الجسد من أعضائه، باستثناء القلب، وبوضع هذه الأعضاء في خواب خاصة، ثم بلف الجسد بشرائط من قماش ثم بكفن.
نعرف أيضاً في هذه الصالة أن المصريين القدماء لم يكتفوا بضمان حياة الميت بعد رحيله، بل أرادوا جعلها هنيئة وممتعة قدر الإمكان. وفي هذا السياق، ولتجنيبه العمل الزراعي الذي سيُفرض عليه، حتى وإن كان فرعوناً، كانت توضع في ديماسه تماثيل صغيرة تمثل خدماً وتحمل على ساقيها نصاً محفوراً يأمرها بالعمل مكانه.
وبما أن عدم اضطراره إلى العمل كان يفتح له باب التسلية والتمتع بالرفاهية، كانت توضع أيضاً في ديماسه آنية مختلفة وأدوات السفور والتبرج والتبهرج، وأحياناً آلات موسيقية، من دون أن ننسى "كتاب الموتى" الذي من المفترض أن يشكل دليلاً له في رحلته إلى العالم الآخر، ويتضمن دعوات للآلهة وصلوات، ووصفاً لما سيلحق به في العالم الآخر من عقاب وثواب، وتعاويذ هي بمثابة إرشادات تمكنه من تخطي العقبات والمخاطر التي ستصادفه في رحلته.
لكن أهم من الأشياء الكثيرة التي نتعلمها في هذا المعرض، ولا مجال هنا لمحاصرتها، هو القيمة الفنية والإيحائية للتحف والمخطوطات الغزيرة التي يتألف منها. ومن بينها: لوحتان منقوشتان على الحجر من هرم "خوفو"، عدة شواهد قبور، مخطوطات، ناووس حجري ومومياؤه، مومياء تحضر بتصوير مقطعي (tomographie) يسمح لنا بمعرفة كيف حُنِّطت، منحوتات وتمائم جنائزية من عصور مختلفة، وخصوصاً التمثال الملكي الضخم الذي استُقدِم من متحف اللوفر ويبلغ ارتفاعه مترين.
باختصار، قطع مهما كانت مألوفة لنا، بسبب إشعاع الحضارة الفرعونية وشهرة آثارها، تبدو للمتأمل فيها دائماً غريبة، ملغّزة، كما لو أنها من عالم آخر.