عرف السودان فن الرسم والنقش والنحت منذ القدم، أي في عصر ما قبل التاريخ، إذ لا تزال جدران معابد الممالك النوبية شمال السودان تحمل آثار تلك الأعمال، واستمر هذا الحال حتى عهود الممالك المسيحية.
ومع بدايات النصف الثاني من ثلاثينيات القرن الـ20 الماضي، بدأ السودان تعليم التشكيل الحديث (الأكاديمي، والمدرسي) في مدينـة الدويم (150 كيلو متراً جنوبD الخرطوم)، على يد المسـتر جان بيير غرينـلو الذى قام بإنشاء مدرسة الخرطوم للتصميم والتي أصبحت كلية الفنون الجميلة والتطبيقية.
وعلى هذه الأرضية الثقافية التعددية الموجودة في السودان، أخذ الفن الشكيلي طابعاً محلياً خاصاً به، في شكل ما يطرحه من منتوج ثقافي أسهم في مسار الحركة التشكيلية العالمية من خلال رموز ينتشرون في بقاع العالم المختلفة.
في حين ارتبطت الفنون التشكيلية في البلاد، خلال العصر الحديث ارتباطاً وثيقاً بالتراث الوطني والبيئة المحلية والتطور الاجتماعي. فتطورت المهارات مع تطور التكنولوجيا وسهل تداولها، ما دفع الفنان السوداني إلى الاهتمام بها والسعي إلى إظهارها.
مدارس فنية
وتعاني الفنون التشكيلية في السودان، بحسب الفنان التشكيلي السوداني راشد دياب، من عدم الاهتمام المطلوب من الدولة وضعف درجه التذوق عند المتلقين. لذلك فقدت دورها المهم في بناء الدولة الحديثة عن طريق التنمية الشاملة التي تعتمد الثقافة وحركة الوعي المحفزة للإنتاج. وذلك نتيجة لعدم مواكبة السياسة أو السياسيين للفعل الثقافي، وهم الذين تولوا مقاليد السلطة.
وأضاف دياب: "بقصد أو من دونه لم ينتبهوا لأهمية الفنون في الحياة، وأنها مصدر المعرفة الجمالية التي تحدد الهوية الثقافية من خلال التنوع والثراء الذي يتميز به السودان".
ويؤكد التشكيلي السوداني أن دور الفنون لا يقتصر على اللوحة أو الشعر ومظاهر الفنون المختلفة، بل إن مجمل الحركة الاقتصادية تقوم على الرؤى الفكرية والتصميم مثل الصناعة والسياحة، فضلاً عن مناشط الحياة والذوق العام الذي ينعكس في السلوك الاجتماعي.
وأشار إلى أن التحديات التي واجهت الفنون التشكيلية في السودان لا يمكن حصرها، بقدر تنوعها، فهي مستودع الحكمة في الاختيار ومنبع المحبة والائتلاف.
كما أنها مرتبطة باللون والشكل لصهر المجتمعات وتفعيل حس الوجدان وصهره لتعزيز الوحدة بين مختلف القبائل والإثنيات وفقاً لدياب الذي يتابع قائلاً: "وهذا هو التحدي الأكبر، وأيضاً التدريب والتعليم وترقية الذوق ومحو الأمية البصرية، واحترام الآثار والتاريخ، وحفظ الذاكرة الجمعية بتأسيس المتاحف وإعادة تخطيط المدن جمالياً وغيره".
ويؤكد دياب: "لن يكون هناك سلام حقيقي دائم من دون ثقافة نابعة من هذا الوجدان المبني على الاهتمام بالإنسان السوداني، فنونه وعالمه الجميل الذي أضمرته الحروب والجوع. وعلى الرغم من كل العقبات التي واجهت الفنون التشكيلية، فإنها وبفضل الجهود الفردية لأجيال من الفنانين منذ بداية الخمسينيات، أثبتوا وجودهم على المستوى العالمي، ونشأت مدارس فنية، مثل مدرسة الخرطوم. ومع أنها لم تصدر بياناً، فقد كانت تحوي عصارة التجربة الوطنية في رؤيتها الإبداعية للواقع السوداني، وكان من أهم روادها الفنان إبراهيم الصلحي، وأحمد شبرين، وعثمان وقيع الله، وتوالت المدارس الفنية وتعددت مصادر إلهامها، من الأثر الإفريقي والعربي إلى اتجاهات عالمية مثل المدرسة الكردستانية".
الخطاب الديني
وفي المقابل يوضح الفنان التشكيلي والمصمم عبدالعزيز عبد الماجد، أن "الفن التشكيلي السوداني له تاريخه المعروف، الممتد إلى حضارات قديمة، مشيراً إلى أنه كان من الطبيعي أن يأخذ مكانته لأنه يقوم في بلد تتنوع ثقافاته وتتعدد، إذ يمتلك السودان ثقافة تحمل الوجهين الإفريقي والعربي.
كما أسهم تأسيس كلية الفنون الجميلة والتطبيقية في وقت مبكر (منتصف أربعينيات القرن الماضي) في أن يكون للتشكيل رؤيته الأكاديمية في إخراج سماته وملامحه الخاصة به. وعبر هذه المقومات كان للتشكيل السوداني تميزه، وانعكس ذلك في حضوره داخلياً وتواصله وانتشاره خارجياً".
لكن عبد الماجد يرى، أن الفن التشكيلي السوداني ما زال يواجه تحديات كثيرة، أهمها عدم الاهتمام الرسمي بالثقافة بشكل عام، فهي ليست أولوية عند أغلب الحكومات المتعاقبة.
كما واجه التشكيل كثيراً من التحديات وصلت إلى مرحلة تحجيمه وتقزيمه عبر محاكمته بالخطاب الديني الذي اعتمدته الحكومة السابقة في مواجهة جميع أشكال العمل الثقافي طيلة الثلاثين عاماً الماضية.
ويلفت عبد الماجد إلى أن واقع التشكيل السوداني الآن يغني عن السؤال، فما زال التشكيليون يعتمدون على المراكز الأجنبية أو الخاصة في عرض أعمالهم. كما تعتمد أغلب النشاطات على حراكهم ومبادراتهم الفردية، وما زال اتحادهم العام بلا دار تؤويه، وحتى كلية الفنون الجميلة ما زالت تحتاج إلى الكثير لتعود إلى سابق عهدها، وهي الصرح المعني بأكاديمية الفنون التشكيلية، وبالتالي تخريج الفنان التشكيلي السوداني المعني بالثقافة البصرية.
مناصرة الإنسان والجماعة
ويواصل عبد الماجد: "في ظني أن الفنون التشكيلية وبحسب تعريفها، ليس بالضرورة تقدم حلاً، بقدر ما تقدم من توجيه وإشارة ولفت نحو موضوع ما أو ظاهرة ما. ورغم ذلك اعتمدت رسالتها، بتعدد أشكالها وأنواعها، عبر تناول الإنسان السوداني من محيط بيئته وواقعه".
ويتابع: "هذا التناول لا تخطئه العين في النظر إلى الأعمال التشكيلية بخاماتها المختلفة وما تتناوله، من مواضيع. وأيضاً حتى في مجال تناول القضايا السودانية الكبرى، فعلى سبيل المثال في تجربة الثورة السودانية كانت مساهمة التشكيليين السودانيين حاضرة عبر استخدام الصورة بأشكالها المتنوعة والمتعددة، كإحدى الرسائل التي أسهمت في إنجاز الثورة".
وبحسب عبد الماجد فـ"التشكيليون هم من الفئات التي ناصرت الثورة مبكراً، والتحقت بتجمع المهنيين". مشيراً إلى أن للتشكيليين حضورهم عبر أعمالهم وآرائهم في مختلف القضايا. وكذلك عبر تجمعاتهم التي اختاروها سواء الاتحاد العام، أو المجموعات التخصصية، مثل جمعية المصممين الصناعيين. أو المجموعات النوعية مثل جمعية التشكيليات السودانيات.
ويعتقد أن الفن التشكيلي السوداني انتشر خارجياً بعيداً عن التوجه الرسمي لمؤسسة الدولة، بمعنى أن التشكيليين السودانيين تمكنوا بنشاطهم الشخصي، من أن ينجزوا أكثر المساهمات الخارجية، وكذلك الداخلية، محققين نجاحاً، بخلاف الآخرين.
ولو نظرنا للنجاحات التي تحققت عالمياً، يتأكد لنا هذا الرأي. فعلى سبيل المثال لا الحصر نجد أن هناك حضوراً لأسماء تشكيلية غير التي نعرفها سابقاً، مثل غسان عباس في أستراليا، وحسين عبد الرحيم، ورجاء أوشي في جنوب إفريقيا، وأبو شريعة في أوغندا، فضلاً عن الإشراقات الجيدة لمعتز الإمام في القاهرة، ومجموعة نيروبي، وقطر، والإمارات، والسعودية، وغيرها في العالم.
في السياق ذاته يقول الفنان التشكيلي السوداني علي الهادي علي إن "الفن التشكيلي في السودان شكل حضوراً في معظم قضايا وهموم الوطن، وظهر ذلك جلياً في ثورة ديسمبر من خلال الأنشطة البصرية المختلفة من لافتات مخطوطة، ولوحات جدارية، ومجسمات منحوتة لتخليد أرواح شهداء الثورة".
وأضاف علي "أنتج تجمع الفنانين التشكيليين السودانيين أكثر من ألف بوستر مناهضة للظلم وداعية للتغيير. وكذلك بيت التشكيليات السودانيات الذي أنجز العديد من المعارض التي أسهمت في نشر الثقافة السودانية بتنوعها واختلافاتها. وهناك "جماعة الحل" التي وثقت بورتريهات الشهداء على جدران الأندية والمدارس، و(مجموعة صفرجت) التي رسمت جدارية كبيرة تعد بين أكبر جداريات الثورات العالمية، وشارك فيها أكثر من 100 تشكيلي وتشكيلية في ميدان الاعتصام".
وتابع: "هذه رسالة إلى جميع المنظمات الإنسانية المعنية بالثقافة في العالم بالتوجه للرعاية والاهتمام بهذا الحدث الكبير، وكذلك كثير من الأفراد والجماعات التي ناهضت الظلم عبر اللوحة والرسومات وما زالت تناهض، وترفد الثقافة البصرية بنشر الكثير".
ويعتقد أن هناك العديد من الفنانين التشكيليين السودانيين المقيمين في مختلف دول العالم أسهموا في نقل الثقافة السودانية إلى تلك البلدان بلوحاتهم. وعبرها توطدت علاقات وشراكات مع دول مختلفة. وأسهم الإعلام الجديد، ووسائل الاتصال الحديثة في ربط الفنان التشكيلي المقيم داخل السودان بالمعارض العالمية والمسابقات والورش والمحاضرات، ومنهم من حاز على جوائز مهمة.