"وقت إضافي آخر".. لفيلسوف في سن 102

time reading iconدقائق القراءة - 9
الفيلسوف الفرنسي إدغار موران - AFP
الفيلسوف الفرنسي إدغار موران - AFP
الدار البيضاء-مبارك حسني

مهلا أيها الموت، أنا أفكّر

عنوان الكتاب مُقتبس في حقيقة الأمر من كلمات تفوّهت بها إحدى محظيات الملك لويس الخامس عشر، تَستمهل الجلاد قبل أن تقطع المقصلة رأسها في فرنسا في القرن الثامن عشر. ربما ذلك ما قصده الفيلسوف الفرنسي إدغار موران، طالباً من الموت مهلة إضافية، بعد أن بلغ من العمر 102 عاماً. 

فما زال لدى موران (1921) ما يقوله، هو الذي تنضح ذاكرته حيوية، وتتمتّع بقدرة على تفكيك تعقيدات الوجود، هذه التي نَظّر لها بالطول والعرض، وفي العمق طيلة ثمانين سنة، عبر ما أسماه "إبستمولوجيا التعقيد".

بل وما تزال في جعبته القدرة على روح الدعابة، فقبل عامين، نشر تغريدة وهو يحتفل بمرور قرن من عمره، قائلاً: "تجنّبوا أن تصلوا إلى سن قرن من الزمن. أنصحكم بالمرور مباشرة إلى الرقم 101". 

نشر موران عدداً كبيراً من الكتب أهمها، "الإنسان والموت" سنة 1948، فضلاً عن "السينما والإنسان الخيالي" (1956)، الذي يعدّ دراسة أنثروبولوجية رائدة بإدماجها الفن السابع في حقل معرفي، أي في عصر لم يكن فيها هذا الفن يراود الحقل الأكاديمي الجامعي بعد، وبالتالي منحه شرعية فنية كان بحاجة إليها.

 كتابه الرئيسي "المنهج"، صدر في ستة أجزاء ما بين سنتي 1977و 2006، وفيه شرّح مفاهيم المعرفة واللغة والمنطق والإعلام والسلبية المعقّدة، ومفاهيم أخرى، وذلك في ارتباط مع التحوّلات العميقة التي طالت وتطال محيط الإنسان المعاصر باستمرار.

يحظى إدغار موران بالإعجاب، بسبب حماسته التواصلية وطول عمره، وهو يواظب على المشاركة في المؤتمرات والمقابلات أينما دعي، فهل لا يزال لديه ما يقوله؟ الجواب هو نعم، ولكن ليس كما تعتقد.

بروح الدعابة يبدأ إدغار موران كتابه، "في الواقع، أنا لا أعرف لماذا أصبحت في المئة من عمري، فوجئت كثيراً حين لم يخطفني الموت في سن التسعين، مما جعلني في آخر الأمر مُتعوّداً على الحياة"

من يدبّج مثل هذا القول غير المألوف، يستحق أن يتمّ الإنصات إليه، فقد وصل إلى درجة عالية مما نسمّيه الحكمة، من دون أن نقف عيانياً على من يُجسّدها حقيقة وواقعاً بحساب السنوات الطويلة المديدة. 

وهو ما يحثّنا على الالتفات بروية واهتمام كبيرين، لما يَنتج عن فضوله المعرفي تجاه العالم والناس، المفعم بالنشاط، المؤثر بشكل لا يضاهى. فقد تجاوز مرحلة الدهشة التي يعتبرها الفلاسفة الخطوة الأولى نحو التفلسف. ففي بداية الكتاب، تطالعنا هذه العبارة الحاملة لمعنى عميق الدلالة، رغم بساطة طرحها: "الشيء الأكثر إثارة للدهشة، هو أننا لا نُدهش تجاه كوننا نمارس فعل الحياة". 

الموت حاضر

ويحق له أن يقول ذلك، لأن ما يتضمن اللغز الغريب لديه ليس حدوث الموت، ولكن فعل الحياة، ما دام يعني أن نحسّ، نحب، نتعاطف، نحزن.. لأن الحياة عبارة عن مزيج كامل من العوامل والعاطفة والنشاط الدماغي الدائم. وهو حين يقول هذا الكلام فلأنه "جرّب" الموت وقاومه مراراً.

 لقد غافل الموت منذ ما قبل ولادته، حيث كانت والدته المريضة ترغب في الإجهاض. فصدمته الأدوية المُجهضة ولم تدمّره. وحين خرج إلى الدنيا، خرج مخنوقاً بالحبل السري حول رقبته، مما اضطر الطبيب إلى الإمساك بقدمه لمدة نصف ساعة قبل صفعه...

ثم، بعد وفاة والدته، أصيب بمرض غامض مع حمى بلغت 40 درجة. ثم قاومه خلال الحرب العالمية الثانية، حين أفلت مراراً من قبضة البوليس النازي. ثم استمرّت المقاومة حين تعرّض لأمراض خطيرة لم تتمكن من الفتك به.

شهية السؤال، شهية المعرفة

فيلسوف ومفكّر من هذه الطينة، لا يمكن إلا أن يضيف إجابات أخرى تضيء بعد جوانب هذا "اللغز" المُسمّى الحياة. وفي هذا الكتاب، الذي هو تجميع ذكي لنصوص شخصية تتراوح مُتُنُها ما بين الأدب والتاريخ وعلم الاجتماع والسياسة والفلسفة. وظّف ما اختزنه من معرفة شاسعة وروح هانئة متوازنة، تَحَصّل عليها طيلة عقود، لمساءلة الأشياء والظواهر المعاصرتين، وللحفر مجدداً في مدى تعقيد الواقع الإنساني والتفكير في مستقبل مجتمعنا البشري. 

ليس باعتماد منهج أكاديمي دراسي يصعب فهمه، ولكن باختيار الكتابة عن ثيمات تبدو بعيدة عن التنظير، بإمكانها أن تفتح باب الفهم على ما يستغلق علينا في خضم الأحداث الكبرى المتسارعة التي نعيشها يومياً. فيكتب مثلا عن أناقة طائر السنونو، وعن إنسانية الفيلسوف مونتين ما بعد مارانو، وعن مهمّة المثقف ونضال المرأة الإيرانية، كما يكتب عن الطب والمدينة والبادية.. 

في كل نصّ، تظهر ثنائية التأمل البهيج في كل ما هو جميل، وفي الإبداع الإنساني، وفي الحسرة التي تخترق هذا التأمل، حين يستشري الألم والقسوة ونزعة التدمير. وتبعاً لذلك، يتبدّى في عنفوانه كما لو أن ما كتب هو من طرف كاتب ذي حسّ نقدي في مقتبل العمر.

وفي الوقت نفسه، يتّسم في مضمونه بقدرة استشرافية للمستقبل تحار بين الأسف والأمل. "أشعر بالمتعة الجمالية عند التأمل في جمال الحياة، في طبيعة الشمس، القمر، النجوم. وأشعر في الوقت نفسه بحماس الناسك تقريباً تجاه العالم في داخلي، وتجاهي أنا داخل العالم."

نراه في لحظة بوح عالية يتحسّر على عدم استطاعته التعرّف على ما سينتج عن مجموعة الأزمات الهائلة التي تعيشها الإنسانية اليوم. يتأسّف على حاجته إلى سنة أو سنتين إضافيتين لإدراك ما يُرسَم حالياً، ويُدمّر، ويتشكّل. الشيء جعله يخاف أن تحلّ فترة نكوص طويلة في مستقبل الأيام.

 وربما تبرهن على ذلك بوضوح، الحربان الحاليتان بكل من أوروبا بعد أكثر من سبعين عاماً من الرخاء والسلام، وبالشرق العربي. هذا مع إشاراته بأن اللامتوقع من الممكن أن يطفر من حين إلى آخر، سواء كان سيئاً أو جيداً للبشرية. وهي لحظة تشويق تاريخية كاملة يخشى أن تفلت منه فلا يشاهدها. 

لكن هذا المعطى الأخير، لم يمنعه من الإسهام فيما قد يفيد في فهم ما آلت إليه الأمور. وهكذا يعتقد في مجال السياسة، أن الديمقراطية التي تعني الفصل بين السلطة التنفيذية والتشريعية والقضائية، تجد صعوبة كبرى في التجذّر في التاريخ تحديداً بسبب هذا الفصل، لأن تحقيقه يتّسم ببطء كبير في مجال التطبيق. 

فيلسوف ومفكّر من هذه الطينة، لا يمكن إلا أن يضيف إجابات أخرى تضيء بعد جوانب هذا "اللغز" المُسمّى الحياة

ويؤكد من جهة أخرى، أن الحاجة التي تشعر بها الشعوب نحو الحنين والعودة إلى الجذور المؤسسة لها، تدفع الكثيرين منهم إلى الاستزادة والاعتماد على عِرقهم ودينهم، فيقترح، بشكل مفاجئ وعكس المنتظر، أن تتعمّق وتتوسع من خلال الاعتراف بما يسميه الجماعة الأرضية للبشر. بل ويجب النهل من منبع الأرض - الوطن، الذي هو الكونيّ الجامع للبشر، وفي الوقت نفسه، المتفرد والمحدّد. 

وفي باب الأفكار الجديدة التي تميّز الكتاب، يرى إدغار موران أن الاعتقاد الذي ساد لعقود، بأن الطبقة العاملة الذكورية هي التي زرعت بذور الحرية، ليس صحيحاً. بالنسبة له، فإن تمرّد النساء هو الذي حمل بذور الحرية حالياً.

فالمرأة توجد في الطليعة في كل مكان. "دعونا ننحني أمامهن، أمام موتهن، وأزمنة حِدادهن. وحتى لو تم قمعهنّ في يوم من الأيام، فإن حركتهنّ ستسجّل في التاريخ باعتبارها لحظة سامية. لنقل: "امرأة حياة، حرية، بإضافة حياة". 

في قوة الثقافة، في قوة الشعر 

بين فكرة وأخرى، ومن شذرة تحليلية إلى تساؤل ذي طابع استعجالي خاص، لا يفتأ الكاتب يُذكّر بدور المثقف في عصرنا الحالي، الذي يُجابه في نظره مهمّة غاية في الصعوبة في "تاريخ الثقافة"، وهي عدم الانجرار لتأثير القوى التي تبخس التفكير، والتي تحاول جاهزة أن تلهيه عن الاستلهام، مما قدّمته العلوم المعاصرة، الوحيدة الكفيلة بمساعدته على التفكير في العالم والحياة والكائن الإنساني والمجتمع. 

في هذا الإطار، وبحسب ما يبدو تكملة للقول السالف، يستحضر موران في نصّه المعنون بـ "دفاعاً عن العلوم الإنسانية"، قوّة الشعر بما هو الأفق السامي الذي يجب الطموح إلى مراودته. لأن "الشعر يُمكّننا من الحصول على عاطفة خاصة، تُعلي من شأن كَيْنوناتِنا". وفعلاً، هي عاطفة شعرية وجمالية تفعل بعمق في الموسيقى والأدب والرسم، وفي سائر الفنون، مانحة إياها قوّة وتأثيراً، تؤدي إلى عَيْش "حياة شعرية" قَمِينَة بصَدّ الركاكة والأنانية في الحياة اليومية، "ما يمنحنا الحماسة والكثافة والتواصل".

من خلال ما أوردناه، يتضح بأن إدغار موران، وهو ينشر كتابه هذا، الثاني خلال سنة 2023، يودّ كمثقّف منخرط في عصره، ألا يجعل التقاعد يتسلل إلى آلية التفكير لديه. وفي ذلك رِبحٌ للفكر الإنساني. 

تصنيفات

قصص قد تهمك