"فقال له قلبه: لا تجزع فقد ينفتح الباب ذات يوم تحية لمن يخوضون الحياة ببراءة الأطفال وطموح الملائكة".
هكذا ختم نجيب محفوظ رائعته "ملحمة الحرافيش"، بأمل معقود على باب الحياة. حالماً بأجيال شابّة تكمل نضال الإنسانية. وفي ذكرى ميلاده الـ112، ماذا يمكن أن يقال عن العربي الوحيد الحائز على نوبل الأدب.. وحتى لا يكون الاحتفاء به معاداً ومكروراً، تحدّثنا إلى سبع كاتبات مصريات من جيل الشباب.. وسألناهنّ كيف ينظرن إلى تجربة محفوظ؟ وإلى أي مدى تأثّرن به، أو تمرّدن عليه؟
لقاء أوّل
ثمّة لحظة نلتقي فيها بكُتّاب يؤثّرون فينا، بالمصادفة أو بنصيحة من الأكبر سناً.. تقول الكاتبة أمنية صلاح: "بدأت القراءة من الأقدم إلى الأحدث.. مع الرافعي وطه حسين، ووصلت إلى نجيب محفوظ في المرحلة الجامعية. أوّل عمل قرأته له كان "الشحّاذ"، أثّر فيّ وأثراني، فقرّرت مطالعة المزيد".
تتّفق الروائية نهى محمود مع أمنية في أنها تعرّفت على محفوظ في المرحلة الجامعية وتقول: "عرفته بعدما أنهيت معظم أدب السباعي، ويحيي حقي، ويوسف إدريس، وإحسان وأنيس منصور. آنذاك اشتريت من معرض الكتاب "الحب تحت المطر"، أعجبني اسمها واعتقدت أنها ستناسب ذوقي الرومانسي".
أضافت: "كنت أحب الكتب الرومانسية والنهايات السعيدة، وهو ما لم تقدّمه لي الرواية، على العكس كانت ظلال النكسة تخيّم على الأبطال، حكايتهم القاتمة وأقدارهم التي ساقت واحداً للعمى وآخر للضرب في الشارع وضياع مستقبله. ثلاث فتيات لهنّ حياة سرّية بدافع الفقر أو الرغبة في الحب، جريمة قتل ضحّى فيها أب بنفسه لينقذ سمعة ابنته. ما تبقّى داخلي كان إحساس الهزيمة. كنت صغيرة ورومانسية، وظننت أن الحياة أكثر لطفاً من ذلك، لكن الكاتب ساق المصائب بقسوة أغضبتني، فتوقّفت عن قراءته لسنوات".
بدورها تقول الكاتبة هناء متولي: "علاقتي بالقراءة كانت مبكرة، لكن اللحظات الأولى كانت ملك شكسبير وإحسان عبد القدوس، وبعد أن تعرّفت على عوالم محفوظ، أصبحت قارئة مخلصة له، وحسب ذاكرتي كانت "اللص والكلاب" هي النصّ الأول، وفي مرحلتي الإعدادية أجريت بحثاً عن "أولاد حارتنا" التي كانت تتعرّض لتضييق في الطبع والتداول".
قرأته بمحبة
تختلف تجربة الروائية سهى زكي، لأنها ولحسن حظها التقت الكاتب الراحل، تقول: "قرأت بعض أعماله في بداية تعلّقي بالقراءة، وكنت أتعجّب من قدرته على وصف الأماكن والشخصيات. ثم سحبتني أحلامي إلى الأماكن التي يجلس فيها مع شباب وكبار المبدعين، وأسعدني حظي بحضور ثلاث ندوات له بعد تعرّضه لحادث الاعتداء".
أضافت: "رأيته هادئاً مرحاً يتواصل مع الناس بمحبة وخفّة ظل، وكان بجواره شاب يقرأ له، ويوصل الكلام لأذنه. فترك داخلي أثراً جديداً لأعيد قراءة كل أعماله بمحبة. وأحسد نفسي أنني من الذين لحقوا به في أواخر أيامه".
من أسوان أقصى جنوب مصر تحدّثنا مع الكاتبة الشابّة تيسير النجار فقالت: "أخبرتني أمي أن هناك كاتباً مصرياً حصل على جائزة نوبل في الأدب اسمه نجيب محفوظ، كنت أشاهد الأفلام المأخوذة عن رواياته، وأحببت "السمان والخريف" و"بين القصرين" و"زقاق المدق"، ولم أعرف أنه الكاتب نفسه".
تتابع: "درست "كفاح طيبة" في الإعدادية، لكن كتبه لم تتوفّر في محيطي، وفي الثانوية وجدتها في مكتبة المدرسة، كنت أبحث عنه لأعرف كيف وصل إلى العالمية – هكذا كنت أسمع عنه- وأنا صبية قاطنة في النجع، وأول كتاب تأثّرت به كان "الباقي من الزمن ساعة"، لأني رأيت الشخصيات أمامي، في تلك اللحظة أحببت أن أكون كاتبة محترفة لا مجرّد هاوية".
التقاء الكاتبة شيرين فتحي بأدب محفوظ لم يكن سلساً، وعن تجربتها قالت: "حاولت التعرّف عليه في الرابعة عشرة، لكني لم أتآلف مع "ثرثرة فوق النيل". تجنّبته لسنوات حتى صادفتني "أولاد حارتنا"، وعبرت معها إلى عالمه الذي تلصّصت عليه سابقاً في أعماله الدرامية، حيث أغرمت بثلاثيّته في طفولتي، كنت أتغيّب عن المدرسة لأشاهد الحلقات".
شهادة شيرين تلفت النظر إلى تأثير الأفلام والمسلسلات المأخوذة عن الروايات في إشاعة الثقافة، وهو ما تقرّ به الكاتبة دعاء البطراوي: "كنت في الثالثة عشرة حين رأيت فيلم "خان الخليلي" فأعجبني جداً، وكلما أعجبت بفيلم أبحث عن روايته. وجدتها تناديني بين كتب أبي، فقرأتها وتماهيت مع أحداثها، كانت اللغة جميلة طيّعة، لذا انضم محفوظ إلى كُتّابي المفضّلين، وانبهرت بقدرته الفائقة على تحليل الشخصيات، وراقت لي رواياته الإنسانية أكثر من الفلسفية المفعمة بالرموز".
الحكّاؤون طيبون
في رصيد محفوظ أكثر من خمسين كتاباً، لكن المؤكد أن هناك كتاباً بعينه يبقى قريباً من القلب. تقول نهى محمود: "بعدما أصبحت كاتبة، وقعت بين يدي "العائش في الحقيقة" وفتتنتي. أحببت بناءها، تقنية الأصوات وحقبة فرعونية مفضّلة لديّ. فيما بعد قرأت الثلاثية ومعظم مجموعاته القصصية، أدركت عظمة ذلك الكاتب".
تضيف: "بدا الأمر أن أرواحنا تحتاج إلى الشحذ والنضج لفهم تجارب كبيرة مثل تجربته، وعندما أتممت الثلاثين حصلت على "الحرافيش" هدية عيد ميلادي، وأصبحت من رواياتي المفضّلة، لكني مهووسة أيضاً بـ "أصداء السيرة الذاتية" و"أحلام فترة النقاهة"، والكتاب الأخير اختارته أيضاً تيسير النجار.
بينما تستحضر سهى زكي عالمه الروائي قائلة: "تأكدت من محفوظ الذي ظل يكتب حتى وهو يحتضر بأن أحلامنا تكتبنا، كما في "أحلام فترة النقاهة".. الحكّاؤون هم دائماً طيبون وأذكياء، فأنت بقدر طيبتك، بقدر ذكائك في تقمّص كل شخصياتك الدرامية، عذبني في "ثرثرة فوق النيل" وجعلني أحلم بسعيد مهران كمخلص حقيقي".
تتابع: "لا يمكن أن أذهب إلى الإسكندرية، ولا أرى "ميرامار".. كرهتُ "سي السيد " وسلبية "أمينة"، وقلتُ لنفسي لا يهمّ من هو "الجبلاوي"، يكفي أن "أولاد حارتنا" صنعت أسطورة الرواية المثيرة، وأكثر عمل تمنيت أن أكتبه كان "حديث الصباح والمساء"، لأني مولعة بالزمن وتعاقب الأجيال".
عبقرية النصّ
الاختيار نفسه تذهب إليه أمنية صلاح وتقول: "أنا شغوفة بتلك الأعمال التي تريني "الزمان" طيفاً يمرّ أمامي بتقنية التصوير البطيء. من "حديث الصباح والمساء" تعلّمت أنه لا سقف للخلق الأدبي، وهذا يؤكد عبقرية محفوظ ونصّه، وعلى كونه ظاهرة متفرّدة، تجاوزت في رأيي "مئة عام من العزلة".
ولأسباب مشابهة، اختارت شيرين فتحي "أفراح القبّة": "أعجبني فيها تعدّد الأصوات ورسم الشخصيات من الخارج، ثم إعادة رسمها من الداخل على خشبة المسرح. محفوظ عبقري حوار خاصة حين يكتب بمزاج. فاجأتني الثلاثية التي لم أقرأها إلا بعد مشاهدتي للمسلسل بسنوات. كنت أقرأ الجمل وأسمعها بأصوات الممثلين وأدائهم".
فيما تعتبر هناء متولي نفسها من "حرافيشه" لولعها بكل أعماله ومقابلاته، وترى أنه "كان لها تأثير كبير جداً على المهتمّين بالأدب، وعن الأقرب لقلبها قالت: "أعتبر "الحرافيش" نصّه الأكبر، وأحب "بداية ونهاية" و"الطريق"، "أولاد حارتنا"، ومجموعته القصصية "خمارة القط الأسود" التي تحرّر فيها من القوالب التقليدية، وقدّم تقنيات تجريب ملهمة جداً".
درس الحياة
ربما تأثّرت الكاتبات بدروسه وتجربته في الحياة أيضاً، وليس فقط نصوصه. فما الذي تعلّمته دعاء البطراوي من محفوظ المبدع والإنسان؟ تجيب "تعلّمت أن كل شخصية مهما بدت سيئة في نظر المجتمع، لها جانبها المضيء الذي لا يعرفه أحد، فعلى هذه الأرض لا توجد ملائكية ولا شيطنة، فالإنسان قد يجمع بين الأسود والأبيض، إنها الإنسانية بكل ما فيها من صراعات وإخفاقات".
تضيف: "ربما أزعجني أن معظم بطلات رواياته هنّ فتيات ليل أو منحرفات، مثل "حميدة" في "زقاق المدق" و"ريري" في "السمان والخريف" و"نور" في "اللصّ والكلاب"، و"كريمة" في "الطريق"، و"إحسان" في "القاهرة الجديدة"، كلهنّ نماذج لنساء اتخذن الجسد ملاذاً للخلاص، وإن كانت "زهرة" في "ميرامار" هي الأجمل والأنضج في مواجهة هذا العالم البائس".
من جانبها قالت هناء متولي: "إن إخلاصه للفن وحده دون اللهاث خلف شهرة أو انتشار زائف، كانت أبرز صفاته. امتلك مشروعه واهتمّ به حتى الرحيل، من دون التشتت وراء صراعات أو الاستسلام لإحباط أو شعور عدم الاستحقاق. وظل دائماً قريباً من الناس دون مجاراة البدع الأجنبية في الكتابة، فقد كان يشبه نفسه فقط".
وقالت: "لست في وضع يسمح لي بتقييم تجربته، فهو المعلّم والأب الروحي، لكن آخذ عليه التحفّظ والمواربة، فهو تصدّى لأصعب الموضوعات، وللأماكن الخطرة، وكتب عن نماذج وقضايا حسّاسة، لكن بكثير من المسالمة والمهادنة، والإشارة من بعيد، وربما رأى أن هذه الطريقة تعدّ ضماناً له ليكمل طريقه في الكتابة، بعد تعرّضه للاغتيال المعنوي والمادي مراراً".
أما تيسير النجار فتقول: "تعلّمت منه الالتزام والنظام، وأن أكتب فقط، تلك هوايتي ووظيفتي، والنتائج تأتي من تلقاء نفسها ". بدورها قالت أمنية صلاح "يعجبني أن محفوظ ظل لصيقاً بمجتمعه، لصيقاً بالحارة، بالشخصيات الحقيقية المتغيّرة بطبيعتها، والمتأرجحة بين الخير والشر".
وتأخذنا نهى محمود إلى "بداية ونهاية" وتقول: أهمّ درس تعلمته كان من تلك الرواية، لأن محفوظ قال إنه كان يعرف تلك العائلة ويرى تصرّفاتهم المراوغة، فقرّر الانتقام منهم بالكتابة عنهم، وعندما شرع في ذلك تفهّم دوافعهم، وشعر بالتعاطف معهم. ذلك كان درسي الكبير أن أقف مع أبطالي في المكان نفسه، أشعر بطريقتهم وأراهم جيداً كما يظنون أنهم يعرفون أنفسهم. لا يمكننا أن نكتب عن شيء أو شخص لا ننحاز إليه".
بينما تلخّص سهى زكي درسها المهم: "أنا ممن يؤثّر فيهم تواضع العظماء. هؤلاء الذين يخلقون تأثيراً كبيراً، ومع ذلك يعيشون بسطاء لا يحتاجون إلى وقود مستمرّ من النفاق الاجتماعي والمجاملات. هذا التواضع كان أهم أسباب عشقي للكاتب الإنسان نجيب محفوظ".
هجوم وتجاوز
مع ذكرى ميلاد ووفاة محفوظ، يتجدّد الهجوم عليه من قِبل البعض، فثمّة من يتحدّث عن تجاوز الرواية العربية لمشروعه، ومن يستغرب التغنّي به حدّ التقديس. لكن تيسير النجار ترفض تصغير قامة محفوظ، لأن منجزه الضخم سيظل باقياً، ولأنه كان إنساناً عظيماً ذكياً وخفيف الظل، ولا مبرّر للانتقاص منه".
أما نهى محمود فتقول: "لا أظن أن الأدب العربي يمكنه ولفترة طويلة أن يتجاوز مشروعه، ليس للكيف فقط، ولكن لأنه قدّم كمّاً كبيراً جيداً وخالداً".
بدورها تتقبّل أمنية صلاح اختلاف الآراء وتقول: "الرواية العربية لا تستقيم إذا حذفنا منها تجربة محفوظ، وفي النهاية لولا اختلاف الأذواق لبَارت الفنون، ولا أحد ينكر أن محفوظ هو صاحب الأثر الأكبر في الرواية العربية".
ولأن سهى زكي اقتربت أكثر من حضوره الإنساني فهي تقول: "بالنسبة إلي، لم أحب يوماً طقوسه في الكتابة، فمعاملة الأديب مع عقله وقلمه بمنطق المواعيد لا يروقني، لكن هل يمكن أن أؤثّر في القرّاء يوماً مثلما أثّر نجيب في العالم كله؟".
تضيف: "ذات يوم دفع محفوظ خمسين جنيهاً من جيبه الخاص دعماً لشباب يطمحون لتأسيس مجلة أدبية، وصدر العدد الأول من مجلة "غاليري" الشهيرة التي دشّنت ولادة جيل الستينيات. وهكذا حملت سيرته الطيبة بعض هؤلاء المتحمّسين في بداية مشوارهم، إذ يظنون أنهم أكثر خلق الله إبداعاً، وللأسف سعى بعضهم إلى التقليل من إبداعه، ثم سرعان ما يكتشفون أنهم كانوا كهذا الشاب المسكين الذي طعنه في رقبته، وعندما سُئل في المحكمة: هل قرأت أعماله؟ أجاب بكل ثقة أنه لا يقرأ ولا يكتب! مع ذلك سامحه محفوظ النبيل الراقي".
أما هناء متولي فتقول: "كان قدره ومازال، أن يتعرّض للهجوم، لكنه لم يهتمّ أبداً، ولم ينزلق لحروب لم يرد خوضها، لذلك هذه الحروب لا تعني أي شيء.. لأنه ظل نسخة أصيلة متفرّدة، لا يمكن تقليدها، وبدلاً من التفكير في تجاوزه، على كل كاتب البحث عن نسخته الخاصة".
من جانبها تقرّ شيرين فتحي بأهمية التجاوز الإبداعي، وتقول "إن لم نتجاوز محفوظ الذي كتب آخر أعماله في الثمانينات، فهذا يعني أن أجلس أنا وزملائي في بيوتنا ولا نحرّك أقلامنا. بالطبع يجب أن نتجاوزه، لا أقصد قيمة ومكانة، ولكن على الأقل في الرؤية".
تتابع: "أستغرب من يؤلهونه ويقلدون أسلوبه آملين الوصول إلى نوبل. كيف تقلّد أسلوباً مضت عليه كل هذه السنوات؟ كتابة محفوظ جميلة في سياق عصره، لكن الكتابة الحالية إن لم تتطوّر وتتجاوز فلا جدوى منها. حقيقة تنتابني نوبات الضحك كل عام في ذكرى وفاته أو ميلاده من الصراع الناشب بين معجبيه ومهاجميه، ولا أرى أن الأمر يستحقّ كل هذا. جميل أن نأخذ من أدبائنا ونتعلم منهم، لكن من دون أن ننصّبهم آلهة".