هي فاجعة يمكن أن تحدث في أي مكان، لكن كان في المُستطاع، ليس تجنّب وقوعها إذا كانت مقدّرة، ولكن التقليل من درجة التراجيديا فيها، ومن الخسائر البشرية الناجمة عنها. إذ رافقها نظام إغاثة يتحكّم فيه وضع سياسي خاص، عنوانه "الاستيطان" وما يفرضه من وضع إنساني مُحزن على الفلسطينيين.
الحادثة تعكس واقعاً بلغ درجة من التعقيد لا يمكن توقّعها. وهذا ما حصل في يوم شتوي عاصف من فبراير 2012، بعد تدهور حافلة مدرسية على طريق القدس السريع، جرّاء اصطدام شاحنة عملاقة بها ذات 18 إطاراً، فاشتعلت فيها النيران.
توفي جرّاء الحادثة أستاذ مرافق وستة أطفال، وأصيب البعض بحروق بالغة، بعد أن تعرّضت محاولات إنقاذهم لعقبات كبيرة، بسبب نقاط التفتيش الإسرائيلية.
في البداية، كتب ناثان ثرال، الصحفي الأميركي اليهودي المقيم في القدس، مقالة عن الحادثة، على غرار أي صحفي وجد مادة صحفية تخرج عن المألوف، ونشرها في مجلة "نيويورك ريفيو أوف بوكس" عام 2021.
لكن هَوْل الحادث وما رآه من ملابسات غير عادية، جعله يبلغ درجة من التأثّر، فقرّر أن يخصّص لها كتاباً كاملاً بعد وقت قضاه في البحث والتحرّي، عدد صفحاته 336 في ترجمته التي تولّتها أكبر دار نشر في فرنسا، دار "غاليمار".
يتتبع الصحفي الأميركي رحلة أب فلسطيني يحاول العثور بين الضحايا على ابنه البالغ من العمر 5 سنوات. ويقول في حوار مع موقع " Electric literature" بتاريخ 4 يناير 2024: "بعد الحادث، لم أستطع إلا أن أفكّر في الآباء والأطفال والمعلمين، الذين كان معظمهم من سكان القدس، وهم أشخاص يشاركونني المدينة نفسها، لكنهم يعيشون حياة مختلفة جذرياً".
صحيفة "New Yorker"وصفت الكتاب بأنه "استحضار قوي لمجتمع ذو مستويين"، واختارته كأحد أفضل 12 كتاباً واقعياً لعام 2023.
وكتبت مجلة "نيويورك ريفيو": "لا نعرف أي كتابات أخرى عن إسرائيل وفلسطين تصل إلى هذا العمق من الإدراك والفهم. يمكن للمرء أن يقرأ الكتاب باعتباره ملخّصاً للتاريخ الفلسطيني الحديث، متضمناً الذكريات الشخصية للعديد من الأفراد، كل منها مرسوم بشكل صارخ".
ونشرت مجلة "الإيكونوميست" ما يلي: "يجسّد كتاب ثرال عالمية وخصوصية تجارب الفلسطينيين، الذين يعيشون تحت الاحتلال الإسرائيلي، ويبني حالة مفادها أنه يجب تذكر هذا الانهيار والصدمة التي تلت ذلك. لقد كان كل شيء متوقعاً للغاية، ويمكن أن يحدث بسهولة مرة أخرى".
ظروف الحادثة
في ذلك اليوم، على الطريق السريع شمال القدس، انقلبت الحافلة وسقطت إلى جانب الطريق، واشتعلت النيران بمن فيها. لكن ما يجب معرفته بحسب الكاتب، هو ظروف الحادثة.
يكتب ثرال أن الحافلة كانت قديمة، وتحتاج إلى صيانة ومراقبة، وسلكت في ذلك اليوم طريقاً واقعاً تحت السيطرة الإسرائيلية، فكانت تُبطئ من سرعتها جرّاء حركة المرور الكثيفة، بسبب وجود حاجز للجيش الإسرائيلي، ولأن حالات الذروة تشهد تسهيلاً لسيارات المستوطنين.
من جهة ثانية، عرفت خدمات الإسعاف تعثّراً، فلم تصل إلى مكان الاصطدام إلا بعد فوات الأوان. توقّف رجال الإسعاف الفلسطيني مراراً في الطرق التي أغلقتها نقاط التفتيش الإسرائيلية، ولما وصل المسعفون الإسرائيليون الذين كانوا في مكان قريب لم يجدوا الضحايا.
لقد تمّ نقلهم من قِبل شهود عيّان من المارّة، وموظفي الصحة التابعين للأمم المتحدة، وحملوهم إلى المستشفى بسياراتهم الخاصة. هذا فضلاً عن التعقيدات القضائية التي توجب نقلهم إلى مستشفيات في أماكن معينة دون أخرى.
نزولاً نحو الجحيم
أحد الضحايا هو الطفل ميلاد سلامة، البالغ من العمر خمس سنوات، وهو ابن عابد سلامة، أحد فلسطينيي الأراضي المحتلة، وقصّة بحثه المحموم والقَلِق عن ابنه، ثم قصة حياته الشخصية في مرحلة ثانية، مع تداخل سردي ما بين القصتين.
فور تلقيه الخبر، اضطر عابد سلامة إلى التنقّل يميناً ويساراً. واجه الرفض من جنود إسرائيليين لم يوافقوا على نقله إلى مكان الحادث، الأمر الذي جعله يصله ركضاً. لكن هناك لم يجد سوى جمع من الناس، من بينهم ابن عم له ينتمي إلى قوات الأمن الوقائي الفلسطيني، التي تتولى الأمور نيابة عن إسرائيل وسط المدن الحضرية في الضفة الغربية.
أخبره ابن عمه بتفحم الجثث، من دون مراعاة لحالته العاطفية كأب. سأل الأب المفجوع عن المكان الذي نقل إليه الضحايا. فتلقى سيلاً من المعلومات التي تُناقض بعضها الأخرى. والأدهى أنه لا يتوفر سوى على بطاقة قاطنٍ في الضفة الغربية، وهي لا تخوّله دخول القدس كي يبحث في مستشفياتها. فضلاً عن وجود نقاط المراقبة والتفتيش والجدار العازل، التي اضطرته إلى اتباع طرق مُتعرّجة، ما قلّص من خياراته.
بعد كل هذه المتاعب التي مسّت عواطفه كأب، وروحه المتعبة في مواجهة متطلبات البيروقراطية التي اعترضته كفلسطيني، جاءه الخبر اليقين بالموت الفظيع لابنه ميلاد، بعد إجراء اختبار الحمض النووي للتعرّف على رفاته.
"لقد تمكن من الحصول على النتائج بفضل اتصالاته. وكان ميلاد أحد الأطفال في مشرحة المستشفى. [...] وبعد دقائق، أعلن مكبّر الصوت في المسجد وفاة ميلاد سلامة: ميلاد سلامة مات".
وضع كافكاوي
يبني ناثان ثرال الحكاية بالكثير من العمق والموضوعية والحياد الإيجابي، كاتباً ما مفاده، "أنه لو كانت الأمور طبيعية، لما كان لهذا اليوم الشتوي كل ذلك الجانب المأساوي المروّع".
هكذا تتداخل تراجيديا الوالد عابد سلامة مع وضع سياسي، سمته جغرافيا مؤسّسة على تقسيم عبثي، نشأ من جراء الاستيطان، الذي جعل خريطة الضفة الغربية ومشارف القدس مثل ثوب مليءٍ بالثقوب.
وللوصول إلى تفصيل دقيق لأسباب هذا الوضع، غاص الكاتب في حياة عابد سلامة الشخصية، التي ترتبط ارتباطاً وثيق الصلة بحياة الفلسطينيين والإسرائيليين، منذ حرب يونيو 1967، وما تلاها من احتلال إسرائيل للضفة الغربية وغزة والقدس الشرقية، ضمن ما احتلته حينها، والتي لم تكن ضمن أراضي التقسيم الأممي سنة 1948.
منذ ذلك الحين، هيمنت إسرائيل على حياة الفلسطينيين، ومن ضمنهم عائلة عابد سلامة، التي كانت تعيش في أرضها في قرية عنّاتا، في حي ضاحية السلام، وكانت ذات نفوذ وجاه، قبل أن تُصادر شيئاً فشيئاً، لتوسيع مستوطنة عناتوت، وبناء قاعدة عسكرية إسرائيلية هناك.
يذكر الكاتب أن عابد سلامة اشتغل موظفاً في شركة هاتف، وكان ناشطاً سياسياً فعّالاً، وكانت له علاقات مع نساء من محيطه العائلي والمديني. علاقته بفتاة الطفولة لم تستمر بعد شقاق عائلي، وزواج غير موفق أعقبه طلاق، ثم أخيراً زواجه بأم ميلاد.
كانت كلها علاقات مرتبطة بالعادات والتقاليد وظروف العيش في الضفة الغربية، المُراقبة باستمرار من الإسرائيليين، وبوجود المستوطنات.
إنه عالم مُصغّر يمتزج فيه سَردُ سيرة حياة شخصية، مع وقائع حدث مرعب، تتقاطع فيه بالضرورة قصص شخصيات أخرى، فلسطينية ويهودية، يرسم لهم الكاتب بورتريهات دالة. بعضها كانت في مكان الحادث، قابلها وحاورها، والبعض الآخر شخصيات فاعلة فيما آلت إليه الأمور، من تعقيد في هذا الجزء من الكرة الأرضية، الذي لم يعرف الهدوء منذ عقود طويلة.
هناك إذن أشخاص من عائلة سلامة وآباء الأطفال الذين كانوا في الحافلة، والمسعفون والمتطوّعون من كلا الجانبين. وقائد في الجيش الإسرائيلي ومسؤول فلسطيني من الأمن الوقائي. وقد وجدوا أنفسهم شهود عيّان على واقع لا يدع مجالاً للشك في عبثتيه، وجودياً وإنسانياً.
هنا يذكر الكاتب الأشخاص الذين يرتبطون بالحادث بشكل غير مباشر، لكن يتحمّلون جزءاً من المسؤولية، ومن بينهم، العقيد داني تيرزا، وهو المصمّم الرئيس لخرائط التقسيم في الضفة الغربية في منتصف التسعينيات، هذا المزيج من الأجزاء غير المتكافئة على الإطلاق، لا من حيث الموارد ولا من حيث الأهمية. وهو من خطّط لبناء الجدار العازل المتعدّد الطبقات في التلال، بعد انتفاضة عام 2000.
كتب الناقد الأدبي لصحيفة "نيويورك تايمز" عن الصحفي ناثال: "إنه أحد الكُتّاب القلائل القادرين على الجمع بين رواية القصص المفعمة بالحيوية والتحليل المتعمّق للاحتلال.. خبرته تسمح له بالتنقّل برشاقة بين وجهات نظر العائلات المضطربة والقادة الفلسطينيين، وكذلك وجهات نظر المسؤولين الإسرائيليين والمستوطنين المجاورين".
كتاب مُلهم في أيام عصيبة
نُشر الكتاب قبل السابع من أكتوبر، يوم هجوم حماس وبداية الحرب على غزة. الشيء الذي جعله محط أنظار قوية، وتجاذبات متناقضة. وفي حين أشارت أبرز الصحف الأميركية والبريطانية إلى أهميته، انتقدته أوساط إسرائيلية ترفض أي نظرة إيجابية للفلسطينيين.
بهذا الصدد يقول ثرال في الحوار نفسه مع "Electric literature: "نجح حراس بعض المؤسسات التقليدية الكبرى في خنق الخطاب المؤيّد للفلسطينيين. [...] وكشرط أساسي لإلقاء محاضرة كتابية في جامعة أركنساس، قيل لي إنه عليّ التوقيع على تعهّد بعدم مقاطعة إسرائيل أو المستوطنات".
أضاف: "رفضت التوقيع ولم تتم المناقشة. ما لا يدركه الكثيرون هو أن هذا النوع من الهجمات على حرية التعبير، كان موجوداً قبل السابع من أكتوبر بوقت طويل. والآن أصبح بوتيرة أكبر".