ما الذي يدفع كاتباً مكسيكياً شهيراً لتخصيص جُلّ أدبه الروائي والقصصي لمدينة مغربية، تفصله عنها مياه المحيط الأطلسي، وتقع على ضفافه الشرقية في المغرب؟
يجيب الكاتب المكسيكي ألبرتو روي سانشيز عن هذا السؤال بالقول: "إن التعرّف على مدينة موكادور، والعيش فيها، يشكّل تجربة عشق، تحوّلت فيما بعد إلى العيش فيها رمزياً من دون توقّف. لقد صارت الشخصية البطلة في حكاياتي".
بدأ ارتباط الكاتب بالمدينة في منتصف السبعينيات من القرن الماضي، حين اكتشف برحابها عالماً نَقلَه فجأة إلى ذكرى طفولته في سونورة، مدينته الكائنة في صحراء المكسيك.
شعر بالرائحة نفسها، ورأَى الألوان عينها، وتردّدت على مسامعه تلك الأصداء. شيء ما روحي كان يغلّف ذاته في بلدته تلك، شَمَلَه هنا بعُمق.
يقول: "في البداية كانت صدمة اكتشاف المكان قد أثارت، على الرغم من بعده عن المكسيك، انطباعاً قوياً أكبرَ بكثير من تلك التي يشعر بها المكسيكي عند وصوله إلى إسبانيا. إنها تركيبة تمتزج فيها لغة الجسد والمكان والأشياء، جعلتني أشعر وكأنني أعيش تجربة مغامرة في مكسيك أخرى".
درس سانشيز الأدب في فرنسا على يد كل من رولان بارت وجيل دولوز، وحصل على جوائز وأوسمة عدّة، هو المحاضر في عواصم العالم، ومدير إحدى أكبر المجلات العالمية في مجال الفنون.
موكادور هي مدينة تتصدّر عناوين كتبه بشكل لافت، مثل "الحدائق السرية لموكادور"، و" كيف حلّ الشجن بموكادور"، أو "الحلم السابع لحسن"، و"شعرية العجيب رحلة إلى موكادور"، و"خمسة كتب عن الرغبة في موكادور".
بينما تحضر تلك المدينة في ثيمة كتب أخرى مثل "وجوه الهواء"، و"شفاه الماء". (نشرت ترجماتها إلى الفرنسية بين 1997 و 2010 عند دار لوروشي في باريس).
يقول الكاتب في موقعه الخاص:
"وجدت الخيط الرابط لهذا الشعور الداخلي في الموروث الحضاري الأندلسي، الذي كان جزءاً مهماً مما حمله الإسبان حين دخلوا بلادي بعد اكتشاف أميركا. إن إرثنا نحن المكسيكيون نابع من قرون، من الدم الهندي والإسباني، لكننا يجب ألا نتجاهل التراث العربي الذي دخل إلينا عبر الإسبان".
هذا الموروث عَثرَ عليه الكاتب في المغرب، حيث حَكمَ سلاطين المرابطين ثم الموحّدين والمرينيين لقرون ثلثي شبه الجزيرة الأيبيرية، أي الأندلس، وخاصة في موكادور التي تسمى حالياً بمدينة الصويرة.
الجغرافيا السرّية لموكادور
للصويرة أو موكادور سابقاً، حكاية ليست مثل الحكايات كلها. فقد أمر ببنائها السلطان العلوي محمد بن عبد الله في منتصف القرن الثامن عشر، غير بعيد من مراكش.
كلّف السلطان مهندساً عسكرياً فرنسياً كي يرسم معمارها، فجعل لها هندسة موازية من الأزقّة والدروب، تستلهم الفن المعماري الإسلامي الأندلسي المغربي، وتبدو حاضنة لألقٍ خاص، مُغلقة ومُنفتحة في الوقت نفسه.
تشكّل المدينة متاهة من السبل مُحصّنة خلف سُور منيع، مدجّج ببنادق يدعى بالصقالة، واستقدم إليها بعد بناء الميناء، كبار التجّار، مسلمين ويهوداً سمّوهم "تجار السلطان"، أعطوا المدينة شهرة عالمية، بعلاقاتهم التجارية مع الولايات المتحدة الأميركية الناشئة آنذاك، والدول الأوروبية، وخصوصاً المملكة البريطانية، وأميركا الجنوبية.
بُنيت الصويرة في شبه جزيرة مليئة بالآثار التاريخية، وخصوصاً الآثار الفينيقية، وهي تتميّز بهبوب رياح مسمّاة "طروس"، وهبوب رمال من التلال الشاطئية القريبة، كما تتميّز بجوّها المعتدل طيلة العام.
مساحة الصويرة صغيرة، تقع على بُعد كيلومترات من غابات شجر الأرغان الشهيرة، الموجودة في المغرب فقط، وهي أشجار تعطي زيتاً غذائياً، حاز في السنوات الأخيرة على شهرة عالمية، ويُستخدم في مواد التجميل من قِبل الشركات العالمية.
أمازيغ ويهود وعرب
تضمّ الصويرة سكاناً من أصول أمازيغية وعربية، وفيها مساجد وزوايا لكل الفرق الصوفية المعروفة في العالم الإسلامي. كانت تضمّ حتى حدود الستينيات من القرن الماضي "الملاح"، وهو الاسم الذي يطلق على أحياء اليهود بالمغرب، وفيها كثير من دور عبادتهم.
كما عرفت وفود زنوج أغنوا الطابع المميّز للمدينة، من خلال موسيقى "الكناوي" الروحية الإيقاعية، التي يقام لها مهرجان عالمي ذائع الصيت كل سنة، يشارك فيه إلى جانب الفرق المحلية فرق موسيقية عالمية، وخصوصاً في مجال الجاز والبلوز والروك.
هذا الجانب الثقافي يشكّل الطابع الذي يميّز الصويرة حالياً، بعد أن انحسر دورها الاقتصادي منذ عقود طويلة، وهي التي شهدت توافداً للسياح من كل بقاع العالم، وخصوصاً بعد أن كانت في منتصف الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، إحدى فضاءات حركة "الهيبيزم" الشهيرة.
كما أن المخرج الأميركي أورسون ويلز، صوّر فيها جزءاً من شريطه الشهير "عطيل"، ونال عليه السعفة الذهبية في مهرجان كان عام 1953، ملحّاً على أن يشارك فيه باسم المغرب.
كل هذه الميزات، منحت فضاء مدينياً، حيث كل شيء قريب في الأفق، السماء والبحر والجبل، ويمكن الغوص في غُلالات من السحر والفن والثقافة الأصلية والعصرية، في المكان نفسه.
عوالم الرغبة
حين يتحدث الكاتب عن موكادور، يذكر تأثير كل هذه الخصائص، وما أحدثته في ذائقته الأدبية. فيذكر أيضاً الصناعة التقليدية الفريدة في المدينة، التي تشتغل على الجلد والخشب، وعلى الحلي الفضية والخزف والأعشاب والعطور والزليج.
هذه العناصر أسهمت في ازدهار حركة فنية تشكيلية في المدينة. فالصويرة تضمّ عدداً هاماً من الجاليريهات الفنية واللوحات والمنحوتات الفريدة، وهذا مهم بالنسبة لمدينة متوسطة ومحدودة بالجغرافيا. لكنها عوّضت المساحة بالعمق، من خلال كل هذه المميزات.
يقول سانشيز حول فن صناعة الزليج: "تأمّلت في المنطق الداخلي لهذه اللوحات المدهشة من الزليج، التي يستطيع بعض أساتذة هذا الفن أن يصنعها فقط، بروعة وإبداع. قمت بتحويل البنية الداخلية لها إلى استعارة، كي أبدع البنية الداخلية لكُتبي حول موكادور [..] إن الإحساس المتسامي بالتأمّل الذي يسكن هذه الإبداعات الهندسية للزليج، منحَ قصصي تجسيداً روحانياً".
إنها بنية داخلية للكتابة تتعلق بالرغبة والحب، في إطار شعري خالص، يستعير من الكتابات العربية رموزها وعوالمها، وهي تذكّرنا بقصص الحب الخالدة في الثقافة الإسلامية والعربية، كما تَرِد في مُعلّقات الشعر الجاهلي، وفي كتب العصر العباسي الزاهر، وفي مؤلفات شعراء وفلاسفة الأندلس. حيث تشكّل موكادور خلفيته المكانية والزمانية، وتمنحه شخصيات من صميم خصائصها الأصيلة.
الخطّاط، حسيبة، مَيمونة، والآخرون
في "الحدائق السرية لموكادور"، البطلة امرأة قد تكون أختاً لشهرزاد، اسمها حسيبة، لكنها هنا لا تكتفي بالحكي، ولا تتجنّب الموت، بل تقود الرجل نحو مدراج الرغبة، في دروب تغصّ بالحركة ورياض غنّاء لمدينة مُتخيّلة، حيث يمتلئ بكل الألوان والعطور، ويبلغ بالحُلم والخيال مُراده.
امرأة أخرى واسمها ميمونة، هي محور رواية "شفاه الماء"، التي تبدو مخطوطة حب طويلة كتبها البطل خوان أمادو. تحكي مغامراته المثيرة خلال سفره بحثاً عن مخطوطات وكتب في العشق للخطّاط عزيز الغزالي، مؤسس "فرقة المُسَرْنَمين"، أي الذين يسيرون نياماً، وتضمّ رجالاً ونساء.
في "وجوه الهواء"، نتابع حكاية فتاة تستطلع أسرار البحر، وتلاطم أمواجه فوق الصخر، من خلال نافذة تطلّ عليه، فتنعكس في ذاتها على شكل تهيؤات وخيالات تمتزج بالخبايا، بين جدران وزوايا المدينة غير المرئية.
نقرأ: "وهكذا ظهرت لي موكادور في مرآة البحر، كلّ حُبيبة من أحجارها مُثقلة بما أبدعته الشمس، عندما يبدو أن نورها، في مُراوغاته المُسَبّبة للعَمى، هو الذي يقرر للقادم اللحظة وكيفية الدنو. كان سُطوع النهار، في أَوْجِهِ، يمنع أي اتصال صادم، وكان بُطْءُ الموج في تَواتره يشجّعه بلطفٍ على الاقتراب". إنه الكون الشعري في كامل وصْفه البهيّ.
تروي قصّة "كيف وصل الشجن إلى موكادور"، مسار البطل حَسَن، أكبر خطّاطي موكادور، ذات ليلة اكتمل فيها القمر بَدْراً، في إحدى رحلاته التي يوحي بها الحِبْرُ. "حتى في الأحلام، لا تتوقّف يده المُلطّخة بالحِبْرِ عن الكتابة، التي يُفضّل أن يعتقد بأنها رَسم، تشكّل فيه الحروف علامات مائية، متاهات، أي حروف لا تُدْرِكُ أنها حروف، كلمات في حالة اضطراب تأخذ فجأة شكل قارَب، موجة، أسد.. بل شبكة من الندوب التي خلّفتها خمسة مسامير مُلصَقة على ظهر الحبيب".
ليس إلا كتابة، ليس إلا شعراً
موكادور عند ألبرتو روي سانشيز، مساحة كتابة شعرية، تروم الوصول إلى تحقيق الرغبة، على طريقة الكبير ابن حزم وكتابه المؤسس "طوق الحمام المفقود". كتابة قال عنها الشاعر المكسيكي الحائز على جائزة نوبل، أوكتافيو باث، بأنها "مغامرة وشعر وذكاء في هندسة جديدة للكلمات.. كتابة قوية ورشيقة، كتابة ذكية دون أن تكون قاسية، جاذبة ومثيرة للعاطفة بلا تكلّف ولا تواطؤ".
أثار هذا الاهتمام بموكادور السؤال من قِبل الأوروبيين خاصة. فكان ألبرتو روي سانشيز يعتبر أنه كاتب ينتمي إلى المكسيك، بلد يُعدّ جزءاً من العالم الثالث، وليس بإمكانه إلا أن يحذو حذو إدوارد سعيد، فيمارس استشراقاً غير عمودي غرائبي، فيه وصاية كما يفعل كُتّاب الغرب، بل استشراقاً أفقياً فيه إبداع نِدّي ومُتفاعل، من دون أدنى تَعالٍ أو تَرفّع.