"كافيه دو فرانس".. تشرشل وهتشكوك وأورويل مرّوا من هنا

time reading iconدقائق القراءة - 7
مقهى فرنسا في مراكش. 9 فبراير 2017 - AFP
مقهى فرنسا في مراكش. 9 فبراير 2017 - AFP
مراكش-علي عباس

تأسّس مقهى فرنسا في مراكش عام 1915، بعد دخول الاستعمار الفرنسي إلى المغرب (1912)، في دلالة الاستحواذ على ثقافة البلد، وترحيل أنماطه ثقافياً واجتماعياً.

ارتاد المقهى المشهور فرنسيو الاستعمار، في منطقة إسلامية تاريخية مثل جامع "الفنا"، ومسجد "الكُتبية"، ما اعتبرته الشاعرة والأديبة المغربية مالكة العاصمي "انتهاكاً لثقافة المغرب".

 قاطع المغاربة الجلوس في المقهى (باستثناء بعض المتعاونين مع فرنسا)، ورفضوا وجوده إلا باعتباره دلالة استعمار مرفوضة، ينبغي القضاء عليها، وتمّ استخدامه كسرداب، وملهى ليلي.

كان هناك إصرار وتحدي مغربي على جعل المقهى تاريخاً لمقاومة وطنية، ونسقاً ثقافياً خالصاً، وهو ما تحقّق لاحقاً، عبر العمل الوطني في مقاومة المحتل، إذ اغتالت الحركة الوطنية المغربية أمام المقهى، القائد العسكري الفرنسي هوتفيلد. 

 يقول مغني موسيقى الكناوة عبد الجليل كشطي في الفيلم الوثائقي "مقهى فرنسا في مراكش"، سيناريو وإخراج أسماء المدير :"هزمنا الاستعمار الذي كان يجلس في مقهى فرنسا".

المشهد البصري للمقهى 

يتألف المقهى من 3 طوابق بواجهات عريضة، وطراز مغربي من الزليج، والنوافير والنقوش والأبواب المشغولة بفن "التسطير" المعروف بالمغرب، فضلاً عن سطح بمساحة البناء.

 الأسطح هي أسلوب شرقي إسلامي في العمارة، لا نجده في الغرب بسبب الجو الماطر. وهو في دلالة على السماء المفتوحة، الحرية والإشراف على المطلق، وبأسلوب معماري، يتخطّى  طراز "البلكون- الشرفة"، وغايتها الخارج أيضاً، لكنها تبقى متّصلة بالبناء العام، وغير منفصلة.

ملكية المقهى

تحوّلت ملكية المقهى بعد رحيل الفرنسيين إلى مالك مغربي، حافظ على طرازه من دون تغيير. بينما يحتفظ حتى اليوم "كافيه دو فرانس" في مدينة الدار البيضاء، بطرازه الأوروبي منذ نشوئه، في منطقة يأتي إليها السيّاح لمشاهدة بعض مناطق  فيلم "كازابلانكا". 

يشكّل السطح فضاءً بصرياً للمقهى، مشرفاً على ساحة جامع الفنا، وأحياناً يفضّل السيّاح الصينيون، والألمان، والإنجليز، والإيطاليون، الذين يزورون ساحة جامع الفنا، النظر إلى مراكش من سطح المقهى، والاستمتاع بالشاي المغربي المنعنع، كما يقول ممدوح السعيد، مسيّر المقهى.

تشرشل يرسم من سطح المقهى

يقول الشاعر والإعلامي المغربي ياسين عدنان: "أتاحت سطيحة المقهى للسياسي تشرشل، أن يرسم من هناك لوحته "مسجد الخربوش" (تعرّضت صومعته للانهيار في أثناء الزلزال الأخير، كما اهتزّ المقهى ذاته عند الكارثة).

"الشرق" زارت المقهى، وعاينت الفضاء البصري تشكيلياً:

 إطلالة مفتوحة على الساحة، وعلى محلات الصناعة التقليدية، وعلى متحف "التراث اللا مادي"، وأزقّة المدينة القديمة، في اتصال بالرحابة والنظر المفتوح، وصولاً إلى مسجد الكُتبية (رسمه تشرشل أيضاً، وبيعت اللوحة في مزاد كريستيز بـ 7 مليون جنيه إسترليني).

هكذا نرى الدلالة الإسلامية، فليس الجامع مكاناً للعبادة فحسب، بل ترحّل إلى فن ومواد ووسائل بصرية، مثل الخط العربي ومادة "النورة" البيضاء، الجبس المستعملة هناك.

مشاهير جلسوا في المقهى

تجذب مدينة مراكش ليس السياح فحسب، بل الأدباء والفنانين ورؤساء الدول والمشاهير، ولهم بيوت وذكريات فيها.

جلس في مقهى فرنسا، الكاتب الألماني إلياس كالتييه، الحائز على نوبل عن روايته "أصوات مراكش"،  والكاتب جورج أورويل مؤلّف كتاب "1984"، والمخرج السينمائي ألفريد هتشكوك.

 يقول الكاتب المغربي عبد الله العلوي لـ "الشرق": يعدّ مقهى باريس من أشهر المقاهي في المدينة القديمة (1912-1956)، اندثر وحلّ محله فندق "نادي البحر الأبيض المتوسط"، ومقهى كلاصي ومقهى فرنسا، الذي جلسَ فيها روّاد الحركة الوطنية، الراحِلان الحبيب محي، وأحمد الشُهيدي. ومن الأعيان، أمثال الراحل الكتاني، وشاعر الحمراء محمد بن إبراهيم".

يضيف: "من جلساء المقهى المعاصرين، الشاعر والكاتب المغربي أحمد بلحاج، آيت وارهام، ومصطفى غلمان، ومثقفي وفناني وطلبة مراكش، وكُتّاب عرب زاروا المدينة، والتقوا بمثقفيها هناك". 

ولعل أشهر مَن جلس هناك، واعتبره فضاءً خاصاَ به، هو المستعرب الإسباني خوان غويتسيلو، إذ لا يبعد منزله الشخصي عن المقهى سوى بضعة أمتار. وهو مقهاه الأخير، وقد تعرّض فيه إلى وعكة صحية نُقل على أثرها إلى المشفى.

بروكوب أقدم مقهى باريسي

الباحث في التاريخ المغربي جعفر الكنسوسي قال: "شهد مقهى فرنسا في جامع الفنا سجالاتنا الثقافية على لسنوات طويلة".

إن فكرة المقهى في الشرق، جاءت نتيجة الخروج على المباني التقليدية، طمعاً بالحرية الثقافية والاجتماعية، ما جعلها فضاءً يجترح ثقافته الخاصة من مسرح وفن وتأليف أدبي، كما ترسّخ ذلك في مسرح الدمى في مقاهي إسطنبول.

كانت المقاهي، بؤراً للأفكار الفنية مثل الحركة الفنية "الدادائية"، فضلاً عن الأفكار المدنية والمقاومة.

أسّس الصقلي فرانشيسكو بروكوبيو دي كولتيلي مقهى "بروكوب" أو "Le Procope" عام 1686، في العاصمة باريس، في منطقة سان جيرمان. وهو أوّل فضاء يقدّم القهوة في فناجين من الخزف. جذب إليه فلاسفة وكُتّاب عصر التنوير، من أمثال جان جاك روسو، فولتير، وسياسيين مثل روبسبير. 

 يذكر التاريخ  أن الفيلسوف ديدرو، شرع في كتابة رائعته "الموسوعة" هناك. كما يحافظ المقهى راهناً على ذكريات وأفكار مؤسسي الثورة الفرنسية ومبادئ الحرية. 

أدب العبور في صورة المقاهي والفنادق

لا شيء زائل تماماً، فهو مثل الطاقة "لا تفنى ولا تُستحدث من العدم". إن التلقي الجمالي للأدب والفن قد اختلف تماماً، لا سيما بعد فيروس كورونا، والوجود الرقمي، والحروب الهمجية ضد الشعوب.

كان للخانات في بغداد وسمرقند سرديتها، في التراث العربي وهي محطات عبور، وكثير من العلماء العرب والرحالة مرّوا فيها، وكتبوا هناك، لكن للأسف لم يُخلّد ذلك الأدب في وثيقة تاريخية، بما يمكن أن نسميه أدب "الخانات/ الفنادق" أسوة بأدب السجون والمقاهي.

 كتب ألبير لقصيري، الكاتب الفرنسي من أصل مصري سوري، جلّ مؤلفاته في غرفة رقم (58) في فندق "لا لويزيان"، في حي سان جرمان، ولم يبارحه قط. 

تحدّث الكاتب والمترجم المغربي محمد آيت لعميم عن ثقافة العبور، بشقّيها المنفى الجغرافي والنفسي عن ثقافة الزائل، في كتابه الصادر حديثاً "الأنساق الرمزية للعبور والاغتراب في الشعرية العربية الراهنة"، الصادر عن دار"أغورا" بالمغرب.

تصنيفات

قصص قد تهمك