مدن تغرق، مدن تتطاير.. هذا ما يمكن أن يحدث لمدن كبيرة وعظيمة مثل نيويورك الأميركية ونيودلهي الهندية وساوباولو البرازيلية، أي أن تختفي عن وجه الأرض.
لن يحدث ذلك بسبب الزمن أو تقادم المدن، ولا نتيجة قنبلة نووية كما حدث مع نهاية الحرب العالمية الأولى، بالغرق في النهر أو البحر أو المحيط، بعد أن يرتفع منسوب المياه، أو تجتاحها المدن الأعاصير الجارفة.
كل ذلك قد يحدث بسبب التغيّر المناخي الذي تعرفه الكرة الأرضية حالياً. هذا هو الطرح الجاد الذي يُعتبر بمثابة جرس إنذار، أورده أشلي داوسون، أستاذ اللغة الإنجليزية في مركز الدراسات العليا بجامعة نيويورك، في كتابه "المدن المتطرّفة، مخاطر وبشائر الحياة العمرانية في عصر التغيّر المناخي". (2019، لندن).
جديد أشلي داوسون، هو تركيزه على المدينة، وتأطير بحثه حول التغيّر المناخي داخلها، وليس على الطبيعة الواسعة. ومشهود للكاتب تمكّنه العلمي، فهو يشتغل في مجال العلوم البيئية والنقد البيئي، وسبق له أن كتب دراسات قيّمة تتناول مرحلة ما بعد الاستعمار، والعلوم الإنسانية البيئية، والاقتصاد السياسي للنظام العالمي.
وكان في كتابه السابق، "الانقراض: تاريخ راديكالي"، درس كيف يؤدي التوسّع المضطرب للنظام الرأسمالي، إلى القضاء على المشاعات العالمية، ويؤدّي إلى الانقراض السادس.
تصوّر متشائم
ما الذي دعا الكاتب إلى تصوّر متشائم للمستقبل كهذا، إلى حد الاعتقاد بأنه من المرجّح أن تشهد ميامي ونيو أورليانز، كارثة واسعة النطاق بحلول منتصف القرن الحالي، إن لم يكن قبل ذلك.
السبب برأيه يتلخّص بأمرين: "أولاً في النظام الرأسمالي وطريقة تعامله مع تغيّر المناخ، وثانياً في المجال العمراني الحضري. فالسكان عموماً يستمرؤون وسائل الراحة، حيث تسود التباينات الطبقية العميقة، ما يجعلهم لا يستشعرون مدى الخطر المحدق بهم".
هذان عاملان أدّيا إلى ما يسميه الكاتب بـ "نقطة الذروة الحضرية"، إذ تتصادم الإنسانية المتحضّرة وتغيّر المناخ، أي الظروف المناخية المتطرّفة بشكل متزايد، كما ذكر في حوار مع مجلة "metropolitiques.eu".
المدينة المتطرّفة في نظر الكاتب، أصبحت كذلك "لأنها مساحة حضرية، تتميّز بعدم المساواة الاقتصادية العالية، وهي السمة الحضرية المميّزة لعصرنا، وواحدة من أكبر التهديدات لاستدامة الوجود الحضري".
ذلك الأمر يجعل الكاتب يعتقد بأن "الكيفية التي تتعامل بها مدينة ما مع التنافرات الطبقية، على أساس العرق والطبقة والجنس، أو كيف يُسمح لمثل هذه التفاوتات بالتفاقم، ترتبط بقدرتها على الصمود في وجه العواصف التي تضرب البشرية".
المتّهم: ثاني أوكسيد الكربون
يعود هذا العنصر إلى الواجهة، أثناء الحديث عن التغيّر المناخي. "نحن لا نفكّر في حجم المدينة. وهذه مشكلة، لأن المدن مسؤولة عن نصيب الأسد من انبعاثات الكربون. ما يعني أن الزراعة ليست مصدراً مهمّاً للانبعاثات، ولكن من المهم أخذ ما لا يتم تضمينه في التحليل غالباً وجعله أكثر وضوحاً"، يقول مبرراً طرحه في الحوار نفسه.
وفعلا، تؤكد الإحصاءات العالمية للبنك الدولي، بأن 56% من سكان العالم، أو 4.4 مليار نسمة، يعيشون في المدن. وبحلول عام 2050، سيتضاعف العدد ليصل إلى نحو 7 من كل 10 أشخاص في العالم، سيكونون في المناطق الحضرية.
يؤدي الوجود البشري المتزايد في النظام الرأسمالي، إلى تغيير بنية الأراضي التي كانت في ما مضى عازلة ومقاومة ضد "الكوارث الطبيعية". تمّ التعامل على أساس الاستفادة من الأماكن المتوفّرة على ثروات، ومن الأماكن الساحلية التي وُظّفت لغرض زيادة السياحة.
إنها أسباب ذات طابع بشري، تخلق طقساً يصير "متطرفاً" بدوره، فيؤثر في السكان الذين يعيشون في أماكن لا ينبغي لهم العيش فيها، نتيجة تطوّر المدن بطرق غير مدروسة، ومدفوعة بأشكال مختلفة من تراكم رأس المال".
عنصرية مناخية
هذا الواقع يولّد فوضى مناخية، تولّد بدورها عنفاً مدينياً بطيئاً. وأبرز مثال يتجلى في درجات الحرارة العليا التي تشهدها مدن من شمال كوكبنا، لم تألفها، وتتسبّب بوفيات كثيرة لدى كبار السن.
كذلك الفيضانات التي تفاجئ بها المدن، كما حدث في ألمانيا قبل سنوات، إلى حدّ بدا فيه المشهد كما لو أنه فيضان في دول جنوبية على غرار بنغلادش، إذ الفيضانات السنوية ليست خبراً متلفزاً عاجلاً.
وللحيلولة دون وقوع الكوارث، توضع التصاميم الهندسية المناسبة للحماية من أخطار التغيّر المناخي، وأيضا قبل الشروع في البناء. كما يتم وضع خطط لتفادي وقوع عدد كبير من الضحايا أثناء حدوث تلك الكوارث في المدن والمناطق المجاورة لها.
يتمّ نقل سكان المجال الحضري إلى أماكن أكثر أمناً وأقل خطراً. لكن الأدهى بحسب داوسون هو "تعرّض الأشخاص ذوي البشرة الملوّنة في المدن، لكميات غير متناسبة من التلوّث بسبب الظلم الاجتماعي".
هذا الأمر يتمظهر في الأحياء التي يسكنونها، التي لا تخصص لها أهمية عند التخطيط والتصميم العمراني ولا عند مواجهة الكارثة.
عدالة مناخية
يرى الكاتب أنه لا بد من استحضار عدالة مناخية بهذا الصدد. ويستحضر بالتحديد مخلّفات إعصار "ساندي" الذي ضرب مدينة نيويورك. غالباً ما تكون هناك عقبات فيما يتعلق بكيفية تطبيق هذه الخطط والتصاميم، ومن هم المستفيدون منها.
ويقال إنها أساليب مواجهة وطرق معالجة فاشلة، ما دامت لا تراعي المساواة الاجتماعية بالنسبة للكل. فالنمو المتسارع كأساس للنظام الاقتصادي الرأسمالي، يخلق بالضرورة التفاوت واللاعدالة.
يقول جاكوب ف. نورثكوت وبريت كلارك من جامعة يوتاه الأميركية، في تعليقهما على كتاب داوسون: "كثيراً ما يتم تداول اقتراح التوسّع الحضري "الذكي"، والبنية التحتية الجيدة، باعتبارها حلولاً لإنشاء مدن أكثر مرونة وقدرة على الصمود. في الواقع، العديد من المشاريع تؤدي إلى تفاقم عدم المساواة الاجتماعية بدلاً من تقليصها." (www.researchgate.net)
نزوح جماعي
بهذا الصدد انتقد أشلي داوسون في كتابه الدول الغربية، حين تحاول معالجة التغيّر المناخي بتقليص انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون، وتربطه بنزوح جماعي لسكان الجنوب نحو الشمال.
يكتب: "أنتقد كيف تستخدم الحركة البيئية خطاب "لاجئي المناخ" كتهديد لحمل الدول الغنية على خفض انبعاثاتها الكربونية". ويختلق تعبيراً جديداً هو "الفصل العنصري المناخي".
الناس في الجنوب يبقون في مدنهم التي تتوسّع بدورها. هم لا يشكّلون تهديداً من هذا الجانب، ويعيشون المشكلات البيئية نفسها.
هكذا يرى الكاتب بأن المشاريع كلها التي يخطط لها، يجب أن تأخذ بعين الاعتبار الناس بجميع أطيافهم وأجناسهم وطبقاتهم الاجتماعية وتواجدهم الجغرافي.
يقول: "ليس الأهم هو إخلاء سواحل بحرية ونهرية ومناطق مهدّدة، أو إقامة جدران حامية، بل هو التخطيط لسياسات عادلة اجتماعياً. أي التكيّف والتراجع، في اللحظة التي لا تزال فيها الفوضى المناخية في مرحلة أولية، ومواردنا الجماعية اللازمة للتأقلم كبيرة نسبياً، بدل القيام بها في ظل ظروف ينقذ فيها الأقوياء أنفسهم فقط ويستغلون الضعفاء".
رأسمالية الكربون
نتيجة لذلك، لا يرى الكاتب في اقتراحات النظام الرأسمالي الحالي والحكومات والنخب المسيطرة، "منقذاً من آثار تغيّر المناخ على مدننا، التي تصرّ على الحد من الكربون، بما لا يهدّد نظمها وعلاقات الإنتاج الخاصة بها".
يقترح داوسون "بديلاً يعتمد على تغيير جذري في نظام الإنتاج، أي علاقات إنتاج جديدة، لا تركّز على تنمية رأس المال، بل على إنقاذ الحياة نفسها، والبحث عن وسائل استدامتها".
هذا فضلاً عن الاعتماد على ما تقوم به الحركات الشعبية المتواجدة داخل المدن المتطرّفة. وفعلاً كانت فعّالة وحاسمة في تقديم الخدمات على أثر الكوارث الطبيعية، كإعصار كاترينا على سبيل المثال.
يقول داوسون: "إن بقاء الإنسان وبقاء العديد من زملائنا المخلوقات على الأرض، يتطلب أن نتخيل أشكالاً جديدة من الازدهار الجماعي".
يضيف: "إن المثل الأعلى للمدينة الجيدة في وقت أزمة المناخ، يقدّم نموذجاً جديداً لأنواع الروابط الإنسانية، التي يعتمد عليها بقائنا الجماعي، بعد التحرّر من حتمية النمو الاقتصادي المستمر، وثقافة الاستهلاك المفلسة التي تعززها".
ويعتبر أن سكان المدن الجيدة قد يكتشفون في المستقبل، أشكالاً جديدة من الوفرة البشرية، عندما يساعدون بعضهم في التغلب على التحديات والعواصف القادمة".
خلاصة القول، لن ينقذ الإنسان إلا الإنسان، لكن بعد أن يعيد النظر في علاقاته مع خيرات الأرض، بالانتفاع بها على أساس التقاسم والمساواة. هي طوباوية قد تجد ربما تحقّقها الواقعي بقوّة الكارثة التي تلوح في الأفق.