يضعنا الموبايل في حالة نفير مستدامة، وكأننا في حالة تعبئة؛ نترقب رنّة المكالمات، نرخي السمع إلى الإشعارات الصوتية الصادرة عن مواقع التواصل، في شوق دائم ومتجدّد، يضاهي الإدمان والعاطفة.
شوق تقني، فأي جهاز هذا الموبايل المستحوذ على الإنسان، مقارنة بعلاقته بالأجهزة الأخرى مثل التلفزيون وغيره، بحيث تعدّى الهاتف دوره من وسيلة مكالمة إلى عالم مستقل بذاته.
نستنجد بالهاتف عوض المحامي والطبيب والخرائط والبنوك، وعوض العلاقة مع البشر، إذ يذهب المرء إلى المقهى، بغية التواصل مع الآخرين، لكنه يبقى مشغولاً بهاتفه ناسياً الناس والاستمتاع بالحياة.
استطلاع الموبايل
جرى استطلاع طريف حديثاً في هولندا، حول استخدام الموبايل، وكانت النتيجة لافتة، لجهة الرغبة في التخلي عنه، لأسباب متنوّعة وكثيرة نفسية واجتماعية.
وجاء في الاستطلاع، أن هناك مَن يجد نفسه غير مهم كشخص للآخرين، فلماذا يتصلون به إذاً؟ وآخر يجدها ظاهرة غير صحية أن يكون متاحاً بشكل دائم، مشيراً إلى خصوصية عالمه.
نسبة قليلة من الهولنديين وجدت في الهاتف، وسيلة للتواصل عند الطوارئ والنجدة، بينما اكتفى البعض بهاتف المنزل الثابت.
تقول السيدة الهولندية أناليز زي مان لـ"الشرق": لم أمتلك هاتفاً نقالاً إطلاقاً، لديّ هاتف في المنزل، بينما زوجي لديه هاتف نقّال. أشعر بالانزعاج عند الاتصال بي وأنا جالسة في الشرفة، أو أثناء قيادة دراجتي الهوائية".
حدّثنا كاتب هولندي عن بشاعة استعمال سمّاعة الهاتف، وهو يتجوّل على شاطئ البحر، فلم يسمع بسببها صوت المياه، وكأنه في صمم عاطفي ونفسي.
مقاهي "أوف لاين"
يقدّم مقهى "The Offline Getaway" نفسه كمكان يساعد على التخلص من سموم وسائل التواصل، والإشعارات التي لا نهاية لها".
ويذكر على موقعه أنه يسمح لروّاده "بإعادة التركيز والراحة والانفتاح على الأفكار والإبداعات الجديدة. لذلك، فإننا نأخذ هاتفك عند وصوله ونغلقه".
يضيف: "بالطبع، يمكن لأصدقائك وعائلتك التواصل معنا في حالات الطوارئ".
تقول صحيفة "الغارديان" البريطانية: "عندما تدخل إلى مقهى بريخت في أمستردام، ترغب على الفور في التقاط صور. هنا جلسة استراحة رقمية للتخلص من السموم" أو "digital detox hangout" التي ينظّمها "Offline Club" أسبوعياً على غرار مقاهٍ أخرى في المدينة".
وتوضح الصحيفة أن "هناك جدول زمني محدّد داخل المقهى: لدينا بعض الوقت للدردشة في البداية، ثم 45 دقيقة لأنفسنا، و30 دقيقة أخرى للتواصل، تليها 30 دقيقة من الهدوء. خلال ذلك نحن مدعوون للقيام بأي نوع من النشاط، مثل القراءة، شرط ألا نقاطع الآخرين".
تقول كاثرين برايس مؤلفة كتاب "كيف تنفصل عن هاتفك؟": "سألت نفسي ما الذي أريد أن أفعله حقاً في وقت فراغي أكثر فائدة. كنت أرغب مثلاً في تحسين عزف الجيتار، لذلك سجّلت اسمي في فصل دراسي جماعي، ونتيجة لذلك، التقيت مجتمعاً من البالغين، وكوّنت صداقات جديدة غير متوقّعة".
وتختم برايس كتابها بالقول: "علاقتي بهاتفي لا تزال غير مثالية، ولا توجد علاقة على الإطلاق. لكنها تحسّنت بطرق لم أكن أتوقعها أبداً، عندما قررت الانفصال عنه للمرّة الأولى. أشعر بأني أكثر هدوءاً وأكثر ارتباطاً بعائلتي وأصدقائي ونفسي، وأكثر حضوراً عمّا مضى".
مجموعات الضحك
لا يترك الهولندي الفكرة تمرّ من دون استثمارها، وتشجيع الآخرين على تشكيل جمعيات اجتماعية لتطويرها وجعلها شعبية.
هناك مجموعات ميدانية أو "groups" للضحك، تأسست من فكرة أطلقها شاب أجنبي يعاني الكآبة، حيث يجتمع مَن يُعاني الحزن، أو مَن يريد تجديد نفسيته في الحديقة الأشهر في أمستردام "فندل بارك"، وذلك كل يوم الساعة الثامنة صباحاً، يضحكون من دون سبب نصف ساعة، ثم يتفرّقون، وهم لا يعرفون بعضهم شخصياً.
شركات تبيع الاهتمام
هذا ما تسميه الكاتبة كاثرين برايس "اقتصاد الاهتمام"، وهو ما تعرضه المواقع مثل "تيك توك" و"يوتيوب" وسواهما، إذ تتاجر ببيع البيانات الشخصية والاهتمام الاجتماعي إلى الشركات المعنية، أي تبيع شغف الناس وأهوائهم، عوض السلع والأجهزة.
سيكولوجيا المُقامر
تُعدّ علاقة الإنسان اليومية والمباشرة بالموبايل إدماناً، يُشبه سيكولوجيا المُقامر، بحسب الكاتبة برايس، "فالهواتف الذكية هي ماكينات قمار لها مفعول الدوبامين".
تضيف: "ثمّة مشتركات ما بين القمار والهاتف، فيهما (كل شيء)؛ الشغف، الجنون، المرض، الإدمان، ويبدو كلاهما "ظاهرة مركّبة".
يتطابق ذلك مع ما كتبه الباحث المصري أكرم زيدان في "سيكولوجيا المُقامر"، راسماً التوصيف الإكلينيكي للمُقامر. وهكذا نكتشف الطرق العلاجية، وهي في مجملها نفسية جماعية.