تأتي الحكاية الشعبية برافديها العربي والأمازيغي، على ألسنة الحكواتيين في الجزائر، في طليعة الفنون التي حافظت على الذاكرة الجمعية، وقاومت سياسات المحو التي اعتمدها الاحتلال الفرنسي للبلاد (1830 - 1962)، ومرّرت رسائل وجوب تحرير الإنسان والمكان.
كان الحكواتي الجزائري إذا خرج إلى السوق الأسبوعي أو الساحة العامّة التي تتوسط القرية أو المدينة، المعروفة شعبياً بـ "الطحطاحة" أو "الرحبة" أو "ساحة الجامع"، وهي الفضاءات المكانية الحيوية التي يتحرّك فيها، يشكّل كتيبة متكاملة الأركان.
كان حضوره ينعش ذاكرة الجزائريين، ويذكّرهم بالتمايز الحضاري بينهم وبين الفرنسيين، ويعمّق إيمانهم بالحرية والتحرّر، وكان يقوم بذلك من دون سلاح يعاقب عليه القانون.
رهان البناء
بعد أن غادرت فرنسا، استرجعت البلاد استقلالها، فكان عليها أن تخوض معركة بناء ذاتها، وتشجيع الجزائريين على خوض رهان البناء، حتى يكونوا جديرين باستقلالهم، وإلا ما معنى أن يثوروا على فرنسا ويدفعوا مئات آلاف الضحايا؟
لم يغيّر الحكواتي الجزائري أمكنته المذكورة، التي بقيت مرتبطة به، بل غيّر من خطاب الحكاية، من موضوع التمرّد على الخضوع للمحتل إلى التمرّد على الكسل.
اقتضى هذا الانتقال في الرهان انتقالاً في المضامين، فتراجعت حكايات من قبيل حكاية "السيد علي مع الكفّار" إلى حكاية "جحا الفرنسي مع جحا العربي"، إذ كان الأول (الفرنسي) موصوفاً بالغباء والخمول، فيما كان الثاني موصوفاً بالذكاء والاجتهاد، في إشارة إلى أنه ينبغي الانتصار على الفرنسيين في العِلم والعمل، مثلما تمّ الانتصار عليهم في ثورة التحرير.
مشروع ثقافي
كان النظام الجزائري في العقدين اللذين أعقبا الاستقلال الوطني، حاملاً لمشروع سياسي واقتصادي وثقافي تحرّري، في إطار دور الجزائر، ضمن دول عدم الانحياز، وتكامل خطابه مع الخطابات الثقافية التي كانت سائدة، ومنها الحكاية الشعبية.
تُرجم ذلك التكامل في شكل قرارات سياسية مثيرة لحماسة الشعب، مثل تأميم البترول الجزائري، وانتزاع تسييره من الإدارة الفرنسية عام 1971؛ فلا ندري هل كان النظام الحاكم صدى للشعب من خلال الحكواتي، أم كان الحكواتي صدى للنظام الحاكم الذي كان يمثّله الرئيس هوّاري بومدين.
غياب الحكواتي
اندلعت آلة العنف والإرهاب، مطلع تسعينيات القرن العشرين، فوجد الحكواتي نفسه مضطراً إلى مغادرة ساحاته، لأن ظهوره فيها أضحى طريقاً معبّداً إلى الموت، فقد أثبتت الجماعات المسلحة جدّيتها في قتل الفنّانين واختطافهم. يكفي أن تكون فناناً لتموت.
يقول الحكواتي رابح بن سعيد لـ "الشرق": "وجدت نفسي خائناً للحكاية إن انسحبت، فمقاومة خطاب الموت والإرهاب، لم تكن مهمّة الجيش النظامي وحده، كما لم تكن مواجهة الاحتلال الفرنسي مهمّة جيش التحرير فقط".
يضيف: "استجمعت شجاعتي والتحقت بحركة مقاومة الإرهاب، وحافظت على الحكواتي في داخلي، كنت أقيم حلقات حكي للمجنّدين، وكان الجوّ العام يشكّك بقدرة الحكومة على هزيمة الإرهابيين، فكان على حكاياتي وقتها، أن تنتصر لخطاب الحياة".
ويؤكّد سعيد أن الجزائر لم تنتصر على الإرهاب بالسلاح فقط، بل أيضاً بجرعات الأمل التي كان فنّانوها، في مختلف الحقول، يغذّون بها المواطنين".
مرآة الهوية
الحكواتي ماحي الصدّيق يؤكد على أهمية الحكاية الشعبية "التي تتجاوز دور الفرجة والتسلية، إلى الحفاظ على الثقافة والهوية الوطنية".
يقول: "إن الحكاية نسيج من الأفعال وردود الأفعال والأذواق والأفكار والعواطف والتجارب والمواقف، إنها رؤية للوجود. وسيّدة التراث اللامادي للشعوب، وخصوصاً الشعوب الشرقية التي تعتمد على الأذن في التلقّي".
حملت هذه القناعة صاحب كتاب "مولى مولى"، أن يضيف على جولاته في المدن الجزائرية لعرض الحكايات، تأليف الكتب وترجمتها.
يقول: "أصبح هاجسي أن تعرف الأجيال الجديدة في الداخل، والشعوب الأخرى في الخارج، من نحن وكيف نفكّر وكيف ننظر إلى الوجود؟ وليس هناك مثل الحكاية الشعبية طريقاً لتحقيق ذلك".
الرافد الأمازيغي
يحمل الحكواتي الشاب محمد حاج إبراهيم على عاتقه، المساهمة في الحفاظ على التراث الشفوي الأمازيغي، من خلال الحكاية الشعبية.
وهو لا يكتفي بالحكي فقط، بل يُنظّم أيضاً دورات تكوينية للأطفال، يعلمهم تقنيات الحكي وأساليب مواجهة الجمهور في الفضاءات المفتوحة، ويلقّنهم حكايات منطقة "مزاب"، ومنها تلك التي جمعها الكاتب الفرنسي جان ماري داليه، ونشرتها جمعية إمكراس للتراث.
يقول: "يشترك المخيال العربي والمخيال الأمازيغي في قيم كثيرة، ومنها الارتباط الوثيق بالأرض والمرأة والشجر. وتعدّ الحكاية الشعبية بحيرة تصبّ فيها روافد المخيالين".
الحكاية أنثى
لا تنفي الحكواتية يسمينة بن صلوة أنها تجد صعوباتٍ بصفتها امرأة، في الخروج بحكاياتها الشعبية إلى الفضاءات المفتوحة، لكنها تتغلّب على تلك ذلك، من خلال البعد التربوي والأخلاقي للحكاية، ومن خلال لباسها الشعبي المحتشم.
وتعتبر الحكواتية أنه بمجرّد أن تواجه تجمّعاً من الرجال وهي تمارس دور الحكواتي، حتى تحيلهم على جدّاتهم، "فأوجد لديهم حالة حنين عوضاً عن حالة الاستنكار".
وتقول مازحة: "رغم أن تاء الحكاية مربوطة لكن الحكاية أنثى".
الحكواتي ووسائل التواصل
لا يجد الحكواتي الشاب صالح روّان حرجاً في القول، إنه من الأسباب الموضوعية التي خلقت هوّة بين الجيل الجديد والحكايات الشعبية، "تردّد الحكواتيبن في اعتماد الوسائط الجديدة منصّة للوصول إلى المتلقّي".
ويسأل: "هل يهمّنا أن نصل إلى الناس، حتى يتشرّبوا قيم حكاياتنا، بغضّ النظر عن طبيعة منصّة الوصول، أم تهمّنا الساحات العمومية ذاتها؟"
ويختم: "إن ارتباط الحكواتي بالتراث لا يعني أن يكون صنماً جامداً، بل عليه أن يكون متجدّداً مع تجدّد المتلقّين لهذا النوع من الفنون الاجتماعية".