إلى وقت قريب، كان الحديث عن المسرح والمسرحيين، ممارسةً وإنتاجاً وفرصاً، حكراً على المدن الشمالية في الجزائر (العاصمة ووهران وقسنطينة)، على الرغم من انبثاق فِرق في مدن الصحراء، لكن ترسّخ في الأذهان أن لا مسرح في الجنوب الجزائري.
مفاجأة مضيئة
من هنا، تفاجأ قطاع واسع من الرأي العام الثقافي في الجزائر، بوجود ثراء مسرحي صحراوي مثير للدهشة، من خلال "مهرجان مسرح الجنوب"، الذي أطلقته وزارة الثقافة عام 2011؛ إذ برزت مواهب كبيرة في مختلف العناصر المسرحية، من نص وموسيقى وسينوغرافيا وتمثيل وإخراج.
لعب المهرجان على الرغم من الثغرات التي واجهته، دوراً مهماً في لفت الانتباه إلى الكنوز المسرحية في الصحراء الجزائرية، خاصة أنه كان يجري لسنوات في الشمال، أي في متناول الإعلام والممارسين المسرحيين.
أصبحنا نشاهد وجوهاً جنوبية، تُوزّع في عروض كبيرة، كما باتت المسارح الكبرى تبرمج عروضاً لفرق من الصحراء بشكلٍ خاص.
الأكثر من هذا، أن الحكومة أنجزت مسارح مجهّزة في مدن صحراوية، بعضها يبعد عن العاصمة أكثر من ألف كيلومتر، مثل بشار وأدرار والأغواط وبسكرة والنعامة، فانتفت الفوارق بين المسرحيين ونظرائهم في الشمال.
عقباوي الصحراء
يأتي المخرج الشاب عقباوي الشيخ (1987)، في طليعة الوجوه المسرحية التي أثبتت أن الإقامة في أقصى الصحراء، تشكّل ميزة لا عائقاً، وهو الذي ينحدر من مدينة أدرار (1400 كلم) إلى الجنوب من الجزائر العاصمة.
التحق الشيخ بكلية العلوم السياسية عام 2006، لكنه تخلى عن هذا التوجّه بعد أن حاز شهادة عليا عام 2010، وبدأ من جديد في المعهد العالي لفنون ومهن العرض والسمعي البصري.
يقول عقباوي في حديثه لـ"الشرق": " تعاملت مع مَسرَحة الصحراء، سواء من خلال جعلها تحتضن مبادرات بارزة، أو إدخالها إلى العروض، أو من خلال نقل طقوسها وأسئلتها إلى المهرجانات الغربية، بصفتها معركة هوية تخصّ طبيعة الثقافة الجزائرية، القائمة على تعدّد وتكامل الأبعاد".
وأرجع عقباوي نجاح التظاهرة التي ستُنظَم دورتها الثانية، خلال خريف عام 2024 إلى ألق صورة الصحراء في أذهان الأجانب، "فهي بلاد الشمس والصمت والسحر والعمق الإنساني؛ بالتالي فإن السفر إليها يمثّل فرصة للتشبّع بقيم جديدة ومختلفة، من شأنها أن تعمّق التجارب المسرحية، وتزوّدها بمناخات وطقوس، قادرة على انتشالها من الروتين الفني".
يعتبر صاحب عرض "في أعالي الجبال"، أنه لم يخسر أعواماً من عمره، وفرصاً للتوظيف، عندما تخلى عن العلوم السياسية، "إذ تمّ اختياري للدراسة في مجال المسرح، وشعرت بأني عدت إلى موقعي الطبيعي. كان قراري تصحيحاً لمساري".
انطلاقة مركّزة
في الفترة نفسها التي التحق فيها بالدراسات المسرحية العليا، أسّس عقباوي تظاهرة "أيام النخلة الذهبية للمسرح"، و"ملتقى أدرار المسرحي"، و"المركز الجزائري للمعهد الدولي للمسرح"، و"جمعية فرسان الركح للفنون المسرحية"، وجائزة كاتب ياسين للنصوص المسرحية".
يشرح خلفية هذه الشراهة في إطلاق المبادرات قائلاً: "كان المشهد المسرحي في الجنوب الجزائري، بدأ يُعلن عن نفسه، من خلال مخرجين وممثلين ومكوّنين، وكان لا بدّ من وضع حد لعقدة التردّد والخجل في افتتكاك الفرص وفرض الذات، من خلال نموذج نشيط وجريء، فتطوّعت رفقة نخبة من شركاء الشغف للعب دور كاسحة الرمل التي تفتح الطريق".
مهمّة مزدوجة
يضيف: "كانت مهمّتي أن أطلق المبادرات في المشهد الجنوبي، لأقول إن الإكراهات المختلفة، لا ينبغي أن تثنينا عن استقبال الشركاء المسرحيين في الداخل، وأن أنجز بالموازاة عروضاً مسرحية جديرة بالذهاب إلى الخارج، للقول إن مسرح الجنوب قادر على العطاء والتألق، ضمن الدوائر العالمية".
مثّل وأخرج وكتب عقباوي عروضاً عدّة، تحمل معظمها عبق الصحراء وروحها ومناخاتها وهواجسها وسحرها، منها "الحب الممنوع"، و"أمود أسد الصحراء"، و"توبة غراب"، والجدار"، و"حالة حب"، و"تجاعيد".
يقول: "كان الرهان أن تعلن الصحراء عن ممثّليها في المحافل التي ظلّت محتكرة، وأن تعلن عن نفسها في عروضهم، بصفتها مادّة مسرحية مغيّبة، رغم حضورها الطفيف في فنون أخرى، مثل الصورة والشعر والرواية والسينما".
اشتغل على البعد الأمازيغي في عرض "أخّام نغ"، أي "بيتنا"، وعلى البعد المتوسطي في عرض "أنتيغون"، وعلى البعد العربي في عرض "أنشودة الهوية"، أما البعدان الأفريقي والإسلامي، فوظّفهما من خلال الروح الصوفية والطقوسية المزروعة في معظم عروضه.
في ظاهرة غير مسبوقة جزائرياً، شارك صاحب جائزة العرض المتكامل في مهرجان المسرح الأمازيغي، في دورته 2017، في عشرات المهرجانات المسرحية خارج الجزائر، منها مهرجان بابل في رومانيا، وحاز جائزة الجمهور وجائزة أفضل بحث مسرحي.
في مهرجان البقعة في السودان، حصل على جائزة أفضل إخراج، وأيام قرطاج المسرحية في تونس، ومهرجان المسرح الدولي في كوبا، ومهرجان "سلافيا" بصربيا، ومهرجان طهران الدولي للمسرح.
الحلم الأكبر
يعتبر عقباوي "أن احتكاكه بالتعابير المسرحية في العالم وبفنّانيها، برمجه منذ عشر سنوات، على حلم تنظيم مهرجان دولي في الصحراء الجزائرية، يدعو إليها نخباً مسرحية، ليمنح لمواهب الصحراء وللنخب المسرحية الوافدة، خاصة الغربية منها، فرصة الانفتاح على عوالم جديدة من شأنها أن تعمّق عروضها".
كانت بداية عام 2022 موعداً لإعلان عقباوي الشيخ عن الدورة الأولى من "ليالي مسرح الصحراء الدولية"، من تنظيم جمعية فرسان الركح، بمرافقة من وزارة الثقافة والفنون وولاية أدرار، فصدّق البعض وشكّك آخرون، وأثير جدل بين الطرفين.
استقطبت التظاهرة وجوهاً وعروضاً مسرحية مهمّة، من الجزائر والمجر وألمانيا والدنمارك وكندا ورومانيا، فضلاً عن العراق والسعودية ومصر وتونس وفلسطين وسوريا ومصر والسودان.
سحر الصحراء
هكذا شهدت أدرار التي تعني بالأمازيغية "الجبل"، بأقاليمها التاريخية الثلاثة، توات وتيديكلت وقورارة، عرساً مسرحياً دولياً، ومنحت لزائريها سحراً خاصاً، ذكره الرحّالة والمؤرخون القدامى في كتبهم، وهي المعروفة بخزانة المخطوطات الثانية، بعد تمبغتو في دولة مالي جارتها الجنوبية.
من هؤلاء ابن بطوطة، وابن حوقل، والعياشي، وحسن الوزان، والبكري، والإدريسي، وابن خلدون، الذي كتب في "المبتدأ والخبر" : "هي بلد مستبحر في العمران.. وهو رِكاب التجّار القادمين من المغرب إلى مالي والسودان".
بلاد الشمس
وأرجع عقباوي نجاح التظاهرة التي ستُنظَم دورتها الثانية، خلال خريف عام 2024، إلى ألق صورة الصحراء في أذهان الأجانب، "فهي بلاد الشمس والصمت والسحر والعمق الإنساني؛ بالتالي فإن السفر إليها يمثّل هي فرصة للتشبّع بقيم جديدة ومختلفة، من شأنها أن تعمّق التجارب المسرحية، وتزوّدها بخطابات ومناخات وطقوس قادرة على انتشالها من الروتين الفني".
يختم عقباوي حديثه: "اعتاد المسرحيونن في العالم، ممارسة هذا الفن في المدن الكبيرة والمسارح المجهزة، في مواجهة جمهور مثقف مسرحياً، لذلك فإن دعوتهم إلى ممارسة المسرح في الفضاء الصحراوي المفتوح، حيث الإضاءة والديكور هما من كرم الطبيعة، والجمهور جاهز بطبيعته وعفويته للتفاعل مع كل ما هو طقوسي، يعدّ أمراً مغرياً لهم. وهذا ما لمسناه خلال الدورة الأولى".