يشهد معهد العالم العربي في باريس، معرضاً يندرج ضمن خانة الفن المعاصر تحت عنوان ARABOFUTURS (خيال علمي وتصورات جديدة)، يتوسّل فيه الفنانون العرب المشاركون (17 فناناً)، الخيال العلمي عبر رحلة تأملية تقنية وإبداعية نحو عالم المستقبل، ويجترحون إمكانات جديدة تتجاوز حدود مجتمعاتهم وتناقضاتها.
يستوحي الفنانون في أعمالهم التغيّرات الاجتماعية والتكنولوجية، التي تستهدف الزمن، وتستعين به تقنياً لإنتاج تصوّراتهم عن المدينة العصرية، والصحراء والطبيعة، إذ تستفيد الثقافة العربية من الإنجازات العلمية والذكاء الاصطناعي.
يُظهر المعرض التصميم المعماري العصري، والديكورات والشوارع والأسواق، وأبراج الاتصالات الشاهقة، فضلاً عن مظاهر الحياة الرقمية، ما بين الجمالية التقليدية وفن ما بعد الحداثة، المتمثّل بالتركيبات والتنصيبات، في إشارة إلى الواقع المستقبلي للمدن العربية، على الرغم من التفاوت الجمالي والخدماتي والفروق البنيوية فيما بينها.
كما تبرز في المعرض مدن الذكاء الاصطناعي المستقبلية، احتفاءً بالسرعة، والطاقة، والتغيير الصناعي من دون نسيان العناية بالطبيعية، والاستفادة من الأنقاض في تدويرها، بما يسمّى فن المتلاشيات.
مستقبليات عربية
احتفت الصحافة الفرنسية بالمعرض، ووصفته بأنه "سفينة المستقبليات عربياً"، كما تطرّقت إلى التقنيات الفنية المستخدمة، إذ يعدّ المعرض حدثاً كبيراً ومهماً في باريس، وتغييراً للصورة النمطية الاستشراقية عن الفن في العالم العربي.
رئيس معهد العالم العربي جاك لانج قال إن "الشباب العربي ينظر بثقة نحو المستقبل، كمصدر ضخم للأحلام، كما يعيد الجيل الجديد من الفنانين تصوّر العالم، ويحملون عالم الغد بقوّة أفكارهم".
وقالت الناقدة الفنية الفرنسية إيلودي بوفار لـ"الشرق": "يدعو المعرض الزوّار إلى استكشاف عوالم بديلة محتملة، ما يعزّز الحوار حول كيفية تشكيل المستقبل من منظور عربي".
وأضافت: "المعرض هو منصّة لاستكشاف تصوّرات المستقبل بعيون الفنانين العرب. وتقديم نظرة جديدة مستوحاة من التحديات والواقع المعاصر، مع التركيز على موضوعات مثل العولمة، التكنولوجيا، والبيئة".
وأشادت بوفار بالتنوّع الفني بين التصوير الفوتوغرافي، والفيديو، والفن التشكيلي، والعروض الأدائية، ما يعكس ثراء الثقافة العربية والتجارب المشاركة في هذا "المختبر".
تجارب غنية
استكشف الفنانون التطوّرات الاجتماعية والثقافة الاستهلاكية في الخليج (قطر والكويت)، ودمج التراث الشعبي بالعالم الرقمي وتقديمه بشكل معاصر في المغرب، وموضوع الهوية والمستقبل في فلسطين، والعناصر المحلية في تقديم العمل الفني في السعودية، والتفاعل ما بين التكنولوجيا والطبيعة، والعلاقة بين العلم والفن والأدب الرقمي والمدينة.
كذلك هناك تركيبات ثلاثية الأبعاد مستوحاة من شخصية حسن الوزاني (ليون الإفريقي) من المغرب، وسلسلة فوتوغرافية تعرض سيارات طائِرة وعالم المستقبل (الإمارات)، فضلاً عن قضايا الهجرة والهوية الوطنية، ونتائج الحداثة المفرطة والوجود الرقمي.
يقدم المعرض تجربة بصرية غنية ومتنوّعة، تضم أعمالاً لفنانين يستخدمون وسائط متعددة مثل الفيديو، التصوير الفوتوغرافي، والنحت، ما ينتج تجربة تفاعلية ومشوقة، والفنانون هم: صوفيا الماريا، فاطمة القادري، مريم بنّاني، لاريسا صنصور، زهرة الغامدي، ثريا حداد كريدوز، وأيهم جبر، هالة شقير، طارق لخريسي، منير عياش، سكايسيف، غابي ساحر، نيلا سيرماك إشتي أيمن زيداني، هشام برادة، عائشة سنوسي، وسارة صادق.
الفنان والمدينة: كلاهما يطوّر الآخر
أشار المعرض بوضوح إلى أن الفن المعاصر، هو نتاج المدينة، وثمة علاقة وثيقة بين الفنان والمدينة، وإن كان الحديث أحياناً عن القرية أو الريف أو الطبيعة.
هناك المدينة التكنولوجية والمدينة الخضراء، وراهناً نواجه مفهوماً آخر لم نألفه سابقاً، هو المدينة الرقمية أو مدينة الذكاء الاصطناعي، وهي تختلف عن المدينة اليوتوبية التي تصوّرها أفلاطون طبعاً.
مدينة دافنشي الحالمة
يجتهد الفنان المعاصر بتجاوز ما قاله المعماري المُصمّم لوكوربوزييه عن مدننا، بأنها "مدن خارجة من المصانع"، ذاهباً بالمدن إلى التصوّر المستقبلي، وكيف يجب أن تكون سعيدة وآدمية، وهذا الأمر اشتغل عليه الفنان الإيطالي دافنشي في تصاميمه للعمارة والهندسة (المدينة الحالمة)؛ تخطيطات أولية للطائرات والمكائن والأجهزة موجودة في متحف "دافنشي الوطني للعلوم والتكنولوجيا" في ميلانو.
لكن ما جدوى استخدام الفن في التقنيات البصرية؟
يطرح معرض Arabofuturs مسألة في غاية الأهمية، وهي مصير اللوحة التشكيلية الكلاسيكية، المحصورة في المتحف ذي التلقي المخملي النخبوي، كما يحاكي الفن المعاصر مفهوم الساحات والفضاء المفتوح، تيمّناً بالحرية والتجاوز مفهوماً وممارسة.
وعند النظر إلى الفن الذي يقدمه معرض "المستقبليات" العربي في باريس، نرى هذا القرار نحو الحرية والتجاوز، معتمداً التقنية أساساً. فلم تعد اللوحة المسندية كافية أو معبّرة عن الوجود المعقّد ذي الحروب والنزاعات، الذي تغيّر تماماً بفضل التقنية والتكنولوجيا والعلوم.
تعدّى اللون مثلاً تقليديته أو كلاسيكيته التشكيلية، من ناحية خلطه ومزجه؛ كان الفنان يقضي وقتاً طويلاً في صناعة اللون كما الزهرة، وتغيّرت راهناً إيحاءاته المتعارف عليها حينذاك، عندما كان الأصفر يعني المرض في ثقافة بعض الشعوب، ويعني الذمّ أيضاً (ضحكة صفراء)، وتجاوزت الإنارة المصابيح التقليدية.
غيّرت التقنية عالم اللوحة الكلاسيكية تماماً، بل غيرت الصداقة حتى إلى صداقات "افتراضية"، إذ بإمكان الكل أن يرسم، ويركّب عملاً مفهومياً، بما فيه النجار والحداد والصانع التقليدي، بشرط وجود الفكرة والحيوية الفنية، وهذا لا يعني استغناءً عن الفنان ذاته، والفنان هو في الفكرة والحيوية.