في يونيو 2014، كان تنظيم "داعش" سيطر على مدينة الموصل بالكامل، ثاني أكبر مدن العراق، واستأنف تدمير كل ما له علاقة بتاريخ المدينة وتراثها، ساعياً إلى محو معالم الحضارة، وفرض عالمه القاتم على الدولة.
وحتى يوليو 2017، تاريخ تحرير المدينة من التنظيم نفسه، فقدت الموصل نحو 90 % من آثارها، الذي تعرّض للتدمير الممنهج، مثل مدينة أسكي موصل، والحضر، والنمرود، وخورسباد، وكذلك تمّ جريف جميع بوابات مدينة نينوى الأثرية وأسوارها، فضلاً عن عمليات التهريب عبر أذرع التنظيم إلى خارج العراق والمتاجرة بها.
أمام ما حدث من دمار طاول معالم المدينة التاريخية، وبعد عودة الحياة إليها، وجد ناشطون في هذا المجال، أنهم أمام مهمّة إحياء التراث المُهدّم، ليس فقط إعادة ترميم المعالم التي تعرّضت للتخريب والدمار، بل بداية جديدة لجمع كل ما له علاقة بتاريخ المكان وتوثيقه، وإعادة تنظيم الحياة الثقافية وتفعيلها.
لكن كيف سيتحقّق ذلك؟
يتحدث أيوب ذنون، مؤسس "بيت تراث" الموصل لـ "الشرق"، عن البوادر الأولى للعمل على إحياء التراث، وجمع ما تبقى منه قائلاً: "بدأ النشاط عبر منشورات توعوية من أجل الحفاظ على أهمية المدينة وتراثها، بعدها عملنا منصّة على مواقع التواصل، أسميناها "تراث الموصل"، تَشكّل من خلالها فريق تطوّعي من السكان".
أضاف: تولى المتطوّعون تنظيف المواقع الأثرية، والقيام بجولات تصوير وغيرها، ثم تطوّرت الفكرة إلى افتتاح "مؤسسة تراث الموصل" في بيت الارحيّم، أو ما يمسى "بيت التراث".
بيت الارحيّم
هو من البيوت الموصلية ذات العمارة التراثية، بمساحة تصل إلى 800 متر مربع. يقع قرب قلعة "قرة سراي" المُطلّة على نهر دجلة.
يمثّل البيت الطبيعة التراثية التي عُرفت بها بيوت الموصل، من نقوشٍ على الجدران، والزخارف الموصلية، والآيات القرآنية المحفورة على المرمر، فضلاً عن الشبابيك الخشبية القديمة.
بعد تحرير المدينة، أعاد العراق ترميم هذا البيت التراثي الذي تعرّض لأضرارٍ كبيرة تسبّبت بها "داعش"، وتعود ملكيّته إلى الموصلي أسامة الارحيّم، الذي تبرّع خصيصاً به لإنجاح هذه المبادرة.
المتحف المجتمعي
غير أن البداية لمثل هذا المشروع كانت تتطلب جهوداً كبيرة لإنجاح العمل، لاسيما وأن المدينة خرجت للتو من مرحلة سوداء، لذلك يذكر أيوب ذنون، أنهم عملوا على دعوة العوائل الموصلية، "لتزويد بيت التراث بما لديهم من تحفٍ وآثار، كي يتم وضعها في متحفٍ خاص، سيسمى فيما بعد "المتحف المجتمعي"، حيث استطاع الفريق جمع نحو 800 قطعة تراثية نادرة من السكان".
تطوّرت أنشطة البيت وتنوّعت ما بين حفظ وتوثيق التراث، وتنشيط السياحة في محافظة نينوى، إلى جانب تنمية قدرات العاملين في هذا المجال، على اعتبار أن المدينة كانت تفتقد للعاملين في مجال السياحة.
هذا كله إلى جانب الفعاليات المستمرة التي تقام في باحة البيت، مثل جلسات نادي "عنقاء" الثقافي، وجلسات "موصل توكس"، وهو تجمّع لمتحدثي اللغة الإنجليزية، وغيرها من المهرجانات الأدبية والمجتمعية.
بلغ عدد زوّار البيت نحو 100 ألف زائر خلال سنتين ونصف، بحسب ما ذكر ذنون "للشرق"، توزّعوا على المحافظة نفسها، وباقي محافظات العراق، فضلاً عن السيّاح الأجانب أيضاً، ناهيك عن 15 ألف من هذا العدد، هم من طلاب المدارس.
المتحف الافتراضي
أبرز ما يصادفه الزائر لبيت التراث، هو "المتحف الافتراضي" في أحد القاعات الداخلية، وهو المتحف الأوّل من نوعه في العراق، الذي يمكن للزائر من خلاله، القيام برحلة عبر تقنية الواضع الافتراضي، إلى أهم المعالم التاريخية التي تمّ تدميرها، بتقنيّتي (VR) و(AR)، فضلاً عن تقنية (Hologram).
بين تلك المعالم المدمّرة، "جامع النوري"، و"كنسية الساعة"، و"مرقد النبي يونس"، و"منارة الحدباء"، وغيرها، ويمكن من خلالها مشاهدة الأماكن التراثية على شكل مجسّمات ثلاثية الأبعاد، إلى جانب الشرائط التوثيقية التي تُعرض على شاشة كبيرة.
يقول ذنون: "فكرة المتحف الافتراضي بدأتها "قاف لاب"، وهي شركة محلية مختصّة بريادة الأعمال، يديرها شباب من الموصل، بادرت بتوثيق المواقع الأثرية بتقنيات الواقع الافتراضي، وخلال افتتاح "بيت التراث" اقترحنا على الشركة عرض هذه الأعمال الموثّقة من خلال قاعة خاصة".
وأوضح أنه "تمّ الاتفاق على ذلك لعرض الأعمال من خلال 4 تقنيات حديثة، في البدء كان الأمر يقتصر على مجموعة من المواقع الأثرية، بعدها تمّت إضافة مواقع جديدة، ليكون هناك 14 موقعاً موثّقاً بالتقنيات الافتراضية".
كل أسبوع كتاب
في باحة الدار التراثية، يُعقد أسبوعياً ملتقى نادي "عنقاء الثقافي"، الذي يضمّ نحو 350 عضواً من شباب الموصل، ويتفق الأعضاء على كتابٍ معيّن بمواصفات مميزة لمناقشته، فضلاً عن استضافة الكُتّاب والباحثين لتقديم محاضراتهم.
يمثّل النادي الجناح الثقافي لبيت التراث، يقول المؤسس وصاحب الفكرة وفاق أحمد عبد اللطيف، لـ"الشرق": "إن تسمية النادي بهذا الاسم جاءت كناية عن طائر العنقاء الذي ينهض في كلّ مرة من رماده، ويعود إلى الحياة من جديد"، وهو ما وجده الوصف المناسب لمدينته، التي عادت من بين الخراب إلى الحياة.
خلال العودة من النزوح القسري لأهالي الموصل، سعى وفاق أحمد إلى نقل التجربة التي عاشها في كردستان العراق، حيث كان عضواً في أحد النوادي الثقافية، إلى مدينته، ويوضح:
"فكرة وجودي في نادي ثقافي في كردستان، شجّعتني على تأسيس نادي مماثل في الموصل، وبعد التحرير وعودتي، كنت على تماس مع أبناء المدينة القديمة بحكم عملي كمهندس، فقرّرت البدء بتأسيس تجمّع يسعى لإعادة إحياء الروح الثقافية. هكذا تأسّس النادي بتشجيع من "بيت التراث" الذي يحتضن جلساتنا".
يضيف: "عملنا على اكتشاف الكثير من المواهب الأدبية، التي ستكون لها إصدارات خاصة في السنين المقبلة، ولا أقول في الفترة المقبلة، لأننا نشتغل بهدوء، كي نقدّم أفضل ما لدينا وبشكلٍ كامل".
بين الحاضر والماضي
سرمد عبد الرحمن، أحد زوّار بيت التراث، حدّثنا عن رحلته من بغداد إلى الموصل، وتعرّفه على نشاطات الدار ومتحفه الافتراضي، ولفت إلى "الأجواء المميّزة التي تجمعُ بين الحاضر والماضي، فالداخل إلى البيت يلحظ العمارة التراثية التي تعيده إلى أجواء الماضي المفقودة، والتجوّل في أروقته والتعرّف على المقتنيات. أما مشاهدة المواقع الأثرية عبر المتحف الافتراضي، فتوفّر رحلة متطوّرة لكل من يسعى للتعرّف على إرثه وثقافته".
الموصل ومتحفها
تجدر الإشارة إلى وجود المتحف الحضاري في الموصل، الذي يعدّ ثاني أهم متحف في العراق بعد متحف بغداد. ارتبط تاريخياً منذ تأسيسه عام 1952 وحتى تدميره على يد تنظيم داعش عام 2015، ارتباطاً وثيقاً بتاريخ الموصل ومحيطها.