عبدو سلام .. "الراب" الجزائري بأوزان الفراهيدي

time reading iconدقائق القراءة - 8
مغني الراب الجزائري عبدو سلام - الشرق
مغني الراب الجزائري عبدو سلام - الشرق
الجزائر-عبد الرزاق بوكبة

شهدت ثمانينيات القرن العشرين في الجزائر، ظهور موجتين غنائيتين وموسيقيتين، انقلبتا على المدوّنة الغنائية الرسمية، التي كانت تحظى برعاية الإذاعة والتلفزيون، بحكم تماشيها مع الذوق العام للسلطة، وقطاع واسع من الناس، هما موجة "الراي" ذات النبرة العاطفية، وموجة "الراب" ذات النبرة السياسية. 

تمرّدت أغنية "الراي" على السائد في كلماتها وموسيقاها، وأصبحت الجرأة في وصف الجسد والعلاقة بين المرأة والرجل أكبر، كما أن أصحابها تخلوا عن لقب "الشيخ" الذي كان يحمله المغنّون لصالح لقب "الشاب"، في إشارة إلى القطيعة بين الجيلين.

في حين تمرّدت أغنية "الراب" على الخطاب المجامل للسلطة السياسية، وطريقة تسييرها للشأن العام، بالموازاة مع تمرّدها على المتكلس من العادات والتقاليد الاجتماعية. 

غير أن تيّار أغنية "الراي" استطاع أن يتغلغل شعبياً، ويصير له نجومه، على الرغم من أن القنوات والمهرجانات الرسمية كانت مقفلة في وجوههم، بحجّة احترام الذوق العام، فكان الواحد منهم يبيع مئات الآلاف من الأسطوانات والأشرطة داخل البلاد وخارجها، من خلال الجالية الجزائرية في فرنسا.

بينما بقي تيّار أغنية "الراب" يدبّ دباً، فكأن الشارع الجزائري كان بحاجة إلى أن يعبّر عن مشاعره العاطفية، لا عن مواقفه السياسية. 

السياسة و"الراب"

انتعش النقاش السياسي في الأوساط الشعبية، في أواخر الثمانينات، بما شكّل أرضية لانتعاش أغنية "الراب"، بالنظر إلى تماشي طبيعة خطابها، مع طبيعة المرحلة. 

ولأن السلطة السياسية كانت ترى في أغنية "الراب" الشبابية واحدة من الأدوات التي تواجه خطاب العنف، وتمثّل خطاباً حداثياً مناقضاً للخطاب التكفيري، سمحت لها بأن تظهر في القنوات والشاشات والمهرجانات، وغضّت الطرف عن لهجتها السياسية، من منطلق "ارتكاب أخفّ الضررين".

أدّى هذا الواقع، إلى إقبال الشركات المنتجة على أصوات "الراب"، فانبثق نجوم في هذا الفن القادم من الفضاء الأميركي، مثل لطفي دوبل كانون، وكريم الكينغ، وفرق مثل "TOx" و "INTIK" وغيرها.

عبدو سلام والفصحى                                 

كانت كل هذه التجارب تتبنّى قاموساً هو مزيج بين اللهجة الشعبية الجزائرية واللغتين الفرنسية والإنجليزية، لذلك شكّل ظهور مغنّي الراب عبدو سلام (1997)، بقاموسه الفصيح الذي يستعمل أحياناً الأوزان الشعرية المعروفة، عام 2013، من خلال أغنية "رسالة" مفاجأة وصدمة للذائقة العامّة.

تناولت الأغنية مآلات ما يسمى "الربيع العربي"، بعد 3 سنوات من انطلاقه، ودعت الشعوب العربية إلى أن تنحاز إلى السلام والحوار والتعايش، ومحاولة التغيير بعيداً عن العنف، حتى لا يكون طريق التغيير هو طريق إلى الخراب. 

يقول عبدو سلام لـ"الشرق"، إن توجهه للجمهور العربي الواسع آنذاك، هو ما فرض عليه "تجنّب اللهجة الجزائرية ذات الانتشار المحدود، واستعمال الفصحى، باعتبارها اللغة القومية التي تلتقي عليها جميع الشعوب العربية. كان هدفي إيصال الرسالة، وبالتالي فإن اللغة المستعملة كانت وسيلة لا غاية في حد ذاتها". 

أضاف: "ما إن أدّيت الأغنية، حتى وقفت على إمكانيات اللغة العربية الفصحى، في تزويد أغنية (الراب) بمادة غنية وسلسة ومثيرة، فالعطاء متبادل بين الفصحى و(الراب). فهي تغذّيه بأنساغ جديدة تجعله أكثر انتشاراً في الفضاء العربي، وهو يزوّدها بآليات فنية جديدة عليها، من غير الأغنية الكلاسيكية، فتكون لغة مرتبطة بما هو حياتي لا بما هو تراثي فقط". 

من هنا، أطلق محدّثنا أغنيتين جديدتين هما "لا تبكِ يا جزائر" و"دموع اليتيم"؛ وحظيت الأغنيتان بمشاهدات كثيرة على يوتيوب، وباهتمام الصفحات والمواقع، مع بعض الجدل بخصوص وجاهة استعمال لغة معيارية، في فن هو ثمرة للتمرّد على المعايير. 

يجيب عبدو سلام عن هذا الهاجس قائلاً: "اللغة العربية الفصحى ليست واحدة بل هي لغتان، واحدة تراثية وفقهية منعها حرّاس القيم من التطوّر والارتباط بالحياة، وأخرى حداثية ومتحرّرة، أنتجت ألف ليلة وليلة، والموشّحات في الماضي، وجبران خليل جبران وغادة السمّان ونزار قباني ومحمود درويش في الحاضر، وهي التي تعنيني، وبالتالي فإن استعمالي لها منسجم تماماً مع طبيعة (الراب) المتمرّدة". 

ويشير إلى أن مسحاً بسيطاً للذائقة الشبابية العربية في العقد الأخير، يظهر الإقبال الكبير للشباب العرب على الأغنية الفصيحة، على عكس الحكم الجاهز بأنه جيل منسلخ، فهو حكم يقفز على معطيات موضوعية، منها أن هذا الجيل تربّى على الرسوم المتحركة والمسلسلات المدبلجة، التي تستعمل فصحى جميلة وحيّة". 

وعن خلفية تركيزه على الهواجس الاجتماعية والإنسانية، عوضاً عن الموضوعات السياسية التي تشكّل هوية أغنية "الراب"، منذ المنشأ الأميركي، يقول سلام: "إن الهواجس السياسية تختلف من بلد عربي إلى آخر، وكان لابد من الاشتغال على ما هو مشترك بين الجمهور العربي، فكانت الموضوعات الاجتماعية والعاطفية والإنسانية في طليعة اهتماماتي". 

ذهب صاحب أغنية "همس"، إلى الأغنية الرومانسية، فحظيت أغانيه بمشاهدات مليونية، وهو يعتقد "أننا نشهد حباً عربياً هو ثمرة لمواكبة الشاب العربي للحياة الغربية المتحرّرة، وخضوعه في الوقت نفسه لمساطر العادات والتقاليد والمخيال الشعبي، بما يعطي هذا الحب خصوصية معينة، وإني أحب الاشتغال عليها، بما يجعل أغنيتي ليست متنفساً عاطفياً فقط، بل خارطة طريق للتعامل مع الواقع أيضاً." 

توثيق "الراب" في كتاب

تعوّدت الجماهير على فن "الراب" مسجّلاً أو معروضاً في حفلات مباشرة. في "أول أنفاسي" انتقل "عبدو سلام" من مقام الغناء إلى مقام التوثيق والإبداع، حيث جمع نصوصه التي سبق وأدّاها، كما أضاف نصوصاً جديدة على الكتاب.

ظهرت في الأغاني الأخيرة لعبدو سلام، نبرتا الفخر  (Egotrip) والهجاء  (clash)، فهو يفخر بظاهرة أو بذات أو يهجوها، تماشياً مع طبيعة فن الراب نفسه.

يشرح ذلك مؤكداً أن أغنية "الراب" هي حالة متعالية نفسياً وفكرياً وموسيقياً، وبالتالي فهي تحرّض صاحبها في لحظة ما، على أن يصبّ غضبه أو رضاه على واقعه أو شطر منه، فيكون الفخر والهجاء مبرّرين باعتبارهما أداتين لإثبات الذات، وهو الهدف الأسمى من هذا الفن".

تصنيفات

قصص قد تهمك