الشاعرة لميس سعيدي (1981)، أعلنت منذ انطلاقتها عن نَفَس شعري واثق من خياراته اللغوية والجمالية، يختلف عمّا يُكتب في الفضاءين المشرقي والغربي، وخصوصاً في شقه المعرّب.
تطرح سعيدي جملة من الأسئلة والهواجس والخيارات، تعني لحظتها وجيلها. أصدرت 4 دواوين لقيت احتفاءً خاصاً في العالمين العربي والغربي، وتُرجمت نصوصها إلى الفرنسية، والإنجليزية، والهولندية، والإسبانية، والكتالونية، والكرواتية.
"الشرق" حاورت الشاعرة حول كتبها وأفكارها ورؤيتها الشعرية.
مع أنك عايشت العنف والإرهاب في الجزائر، لكننا لا نعثر على ظلال لها في نصوصك بما في ذلك ديوانك "كمدينة تغزوها حرب أهلية".
ذكرت ذلك في ديواني "كقزم يتقدّم ببطء داخل الأسطورة" (دار العين- القاهرة 2019)، غير أنها حرب لا اسم لها، أو بالأحرى الحرب التي لا نجيد تسميتها، أو نرفض تسميتها لأسباب أيديولوجية ونفسية أيضاً.
يبدأ الديوان هكذا: "يعيش في بلاد، لا يجيد أبناؤها تسمية الحرب القديمة، وإذا أخطأوا في تسميتها يشعلون حرباً جديدة، كما يشعل المساجين سيجارة بسيجارة أخرى".
تناول هذا الديوان تحديداً حالة الارتباك النفسي و"الهوياتي" التي تخلقها الحروب الداخلية، هذه الحالة التي تبدأ بالإنكار كنوع من الحماية النفسية، وتنتهي بحالة عجز تام عن تسمية الأشياء والظواهر الاجتماعية والثقافية والسياسية، وبالتالي عجز عن مواجهتها.
ثمة قصيدة أتحدّث فيها عن عجزنا عن تسمية الأحياء الجديدة، وكيف عوّضنا الأسماء بأرقام تشبه أرقام المساجين، وتؤكد حالة الحبس النفسي التي نتقاسمها جميعاً، وكيف اضطرّ بعض المستهدَفين (وهنا أتحدّث عن تجربة شخصية) إلى التخلي عن اسمهم المكتوب على صندوق البريد في مدخل البناية، أو على الباب الخشبي للشقة، لأن الأسماء الشخصية صارت دليلاً للقتلة.
من جهة أخرى، سيطرت فكرة الموت والتفاوض معه من خلال الشعر، تلك اللغة الخاطفة والدقيقة، على تجربتي الشعرية منذ ديواني الأوّل "نسيت حقيبتي ككل مرّة"، ولم يكن التطرّق إلى فكرة الموت نوعاً من الترف الشعري أو محاولة بائسة للتعامل بعمق مع الحياة، بقدر ما كان نتيجة طبيعية لمحاولة النبش في تروما الطفولة بأصابع الشعر الطرية.
ولدت مع بداية انبثاق جيل شعري جزائرياً وعربياً، انزاح بالقصيدة عن الهواجس الأيديولوجية لصالح هواجس الذات، هل يمكن القول إنك من جيل ما بعد الإرهاب؟
في إحدى قصائد ديواني الجديد الذي أشتغل عليه حالياً، وأتناول فيه حقبة ثمانينات القرن العشرين (تلك العشرية المنسية)، أقول: "أنا ابنة القرن العشرين، أنجبني بعدما بلغ الثمانين".
ولدتُ في أواخر سنة 1981، أي في شيخوخة قرن عرفت فيه البشرية تحوّلات عظيمة: أكبر الحروب وأكبر الصراعات الإيديولوجية، وأعظم الفنون وأعظم الكتابات، مع ذلك شهدت شيخوخة القرن العشرين، انهيارات عدّة: جدار برلين، الاتحاد السوفياتي، حلم الوحدة العربية، المجاعة في أفريقيا، إلخ.
فتحت عيني على زمن تتساقط أسنانه أمامي يوماً بعد يوم، أي زمن من دون أحلام كبيرة؛ وبالتالي من دون أوهام أيضاً.
أعتبر نفسي من جيل ما بعد الأوهام، لذلك كنتُ ولا زلتُ أنظر باستغراب (وأحياناً بحنان وعطف الأمهات) إلى الشعراء الذين يكتبون قصائد غنائية ساذجة، بطريقة ما أشعر أنهم يعيشون خارج إيقاع عصرهم، وربما هذا ما يفسّر انحيازي إلى ما يُسمى قصيدة النثر، لأنها ابنة هذا العصر، ابنة إيقاعه وحساسيته.
في ديوانك الثاني "إلى السينما" (دار غاوون 2011)، اشتغال على ذاكرة خاصّة جداً، هل تفهمين الشعر ثمرة لانفصال الأزمنة أم تداخلها؟
يقول الشاعر والكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس في إحدى قصائده: "الزمن نهر يحملني بعيداً، لكني أنا النهر".
الشعر محاولة للإفلات من سلطة الزمن بالتحوّل إلى زمن خاص يخلقه الشاعر حسب مزاجه في اللغة، وحسب الإيقاع الذي يناسب خطوته في الحياة وداخل القصيدة.
الروائي مثلاً حين ببني عالمه، ومهما كان هذا العالم خيالياً، إلا أنه مجبر بطريقة ما على الالتزام بالزمن البشري، على الأقل زمن القراءة والفهم وتسلسل الأحداث والروابط بين الشخصيات، في حين لا يكترث الشاعر بالزمن البشري، وعادة ما يخلق عالماً شِعرياً، يبدو وكأنه حركة عشوائية داخل اللغة؛ وبالتالي داخل وجدان القارئ أيضاً.
هذا الزمن الشعري الخاص أو كما سمّاه بورخيس "النهر"، يحرّر الإنسان من سطوة اللحظة الراهنة وسطوة الماضي وعبء المستقبل، لأن الشاعر ببساطة قد يصنع كما يشاء قارباً ورقياً يوجّهه كما يحلو له على وجه النهر، با قيود أو وجهة.
تقولين في ديوانك الثالث "كمدينة تغزوها حرب أهلية" الصادر في فالنسيا (2017):
"ليس بيتاً هذا الجسد، وليس طريقاً تؤدي إلى بيت أو طريق أو خراب. ليس إشارة مرور أو لافتة. ولا حصى صغيرة يركلها مسافر ضجر، وليس معجزة الماء في صحراء قاحلة. إنه الساعة القديمة الأنيقة المعطّلة في الساحات والمقاهي والمحطات والبيوت، التي لا يفكّر أحد في إصلاحها".
هل يشمل هذا الحكم حتى الشاعر الذي يوصف بسيّد الانتباه؟
هذا الوصف أو ما سمّيته حكماً، يخصّ الشاعر تحديداً، لأن الانتباه يقتضي التوقّف، وأحب أن أفكّر بأن الساعات تتوقّف حين تنتبه، أي حين تفلت من سطوة الزمن.
شكّل ديوانك الرابع "كقزم يتقدّم ببطء نحو الأسطورة" اشتغالاً جمالياً على المكان، قصبة الجزائر تحديداً. هل يحرّرنا الشعر من الأمكنة أم يربطنا بها؟
إحدى ثيمات ديوان "كقزم يتقدّم ببطء داخل الأسطورة" هي مدينة الجزائر العاصمة، وتحديداً الجزء الذي شُيّد قبل الاستقلال بما فيه حي القصبة. اشتغلتُ تحديدا على استعادة الجزائريين لفضاء المدينة الذي حُرموا منه أثناء الحقبة الاستعمارية، وكيف شكّل هذا الفضاء الكولونيالي سابقاً، أحد أهم رموز العنف الهوياتي، ثم كيف ساهمت استعادته بعد الاستقلال بطريقة عشوائية، في نثر بذور عنف آخر، سيظهر بعد أقل من 30 سنة من تحرير الأرض.
أردت من خلال هذا الديوان أن أقول، إن القصيدة الحديثة ليست رهينة الخاص والحميمي، أو ما قد أصفه أحياناً "بالتوحّد العاطفي والفكري"، وبأنها قادرة تماماً على التواصل مع "الجماعة البشرية" أو المجتمع، وتناول موضوعات عامة كالتاريخ والسوسيولوجيا.
بهذه المقاربة، لا تربطنا القصيدة بالأمكنة بقدر ما تحرّرنا من الروايات الرسمية والرؤى التقليدية، وتحفّز نوافذ جديدة للانفتاح أمام هواء التأمل والتفكير في تاريخنا، وربط هذا التاريخ بالواقع.
تميّزت دواوينك بمسحة سردية مقابل تميّز كتابك السردي "الغرفة 102" بمسحة شعرية. ما هي حدود الجنس الأدبي في نظرك؟
السرد تقنية من تقنيات الكتابة، وهي تقنية تخلق نوعاً من الألفة لدى القارئ. الجُمل والفقرات الطويلة التي تملأ الصفحات تشعر القارئ بالطمأنينة، مقابل الفراغات التي تخلّفها القصائد بشكلها التقليدي، وهي عادة ما تربك القرّاء، وتجعلهم يفضّلون الاستماع إلى الشعر عوض قراءته.
أما الشعر فهو طبيعة بشرية، حالة انتباه مرهقة، وعين ثالثة تعيد تشكيل الأشياء لتكون جميلة دائماً، وأحيانا تتجلى هذه الطبيعة في جسد القصيدة أيا كان شكلها.
إلا أن السرد صار ذلك الجسد الذي ترتاح داخله اللغة، الجسد المتحرّر من إملاءات الموضة والذائقة الرسمية، جسد يمنح نفسه لملح البحر ورمال الصحراء وطلاء الأبنية المقشَّر، وللارتباك والكسل من دون الشعور بالذنب. جسد لا يعاني من الجفاف، لأن مياه اللغة تتجدّد فيه باستمرار.
في كتابك السردي المذكور توثيق للحظات الأخيرة التي عاشها والدك المثقف المعروف في مشفاه الباريسي. ألم يكن التقاط تلك اللحظة من مهام الشعر؟
ربما تقصد القصيدة؛ لأن الشعر كما ذكرت هو طبيعة بشرية لا أنفصل عنها أبداً.
بالنسبة لي الكتابة هي المسافة بين اللغة والتجربة الإنسانية. حين مات والدي، استبعدتُ تماماً فكرة الكتابة عنه أو رثائه، لكن يبدو أني مسكونة بروح وإيقاع الشعراء القدامى، رغم انتمائي إلى فكرة تجديد السبل التي نكتشف من خلالها اللغة. هذا ما جعلني، كأي شاعر عربي قديم، أرثي والدي من خلال نص طويل تجاوز المائة صفحة.
في ذلك الحين، أي منذ نحو عشر سنوات، استبعدت القصيدة لرثاء والدي، لأني أردت استبعاد المجاز الذي اختبأت خلفه لسنوات طويلة. أردت أن أحكي عن والدي "ببساطة" ومن دون خوف، هذا الخوف الذي يمثّل أهم تجليات عنف التسعينيات في كتابتي.
يبلغ معدّل الفاصل الزمني بين إصداراتك ثلاث سنوات تقريباً، هل هو زمن نفسي داخلي أم زمن خارجي خاضع لإكراهات النشر؟
غالبا ما يكون زمن الترجمة وزمن التجربة الإنسانية، أي زمن تجديد مياه اللغة ومياه الشعر. تفصل عادة مشاريع الترجمة بين دواويني الشعرية، هذه المشاريع التي أكتشف من خلالها طرقاً جديدة لمقاربة الكتابة، وللعثور على إيقاعات جديدة داخل اللغة.
الترجمة بالنسبة لي هي الطريقة التي أتدرّب من خلالها على الكتابة، تماماً كما يتدرّب أي رياضي محترف. هذا طبعاً بالموازاة مع التجربة الإنسانية التي أتقدّم فيها بكلّ الشفافية اللازمة، لكي لا أشوِّه طبيعة الشعر في داخلي.
تملكين تجربة مهمة في الترجمة لشعراء جزائريين وغربيبن ماذا عنها؟
بالنسبة لي الترجمة الأدبية هي إعادة كتابة، ببساطة لأن المترجم يجد عادة نفسه أمام مأزق لغوي وأسلوبي وثقافي، لا حل له سوى خياله وقدرته على فهم رؤية الكاتب، في صياغة النص الأصلي وفهمه العميق للسياقات الثقافية في اللغتين، وإبداعه لجملة جديدة في لغة الترجمة، لا تخون أسلوب النص الأصلي، وتنسجم مع إيقاع ووقع لغة الترجمة أو ما يسمى لغة الهدف.
منذ سنوات، وأنا أشتغل تحديداً على ترجمة شعراء وكُتّاب جزائريين كتبوا باللغة الفرنسية، وتشكّل نصوصهم ومساراتهم مرجعية أساسية لفهم تطوّر المشهد الأدبي والثقافي في الجزائر، وفهم أهم التحوّلات الثقافية والسياسية.
أين يقف الشاعر الغربي اليوم إزاء القضايا الإنسانية؟
لنتحدّث عن أهم قضية يتوقف عليها مصير الحضارة الإنسانية اليوم، وهي القضية الفلسطينية، وتحديداً حرب الإبادة في غزة بأرض فلسطين.
معظم الشعراء والمشرفين على التظاهرات الأدبية والثقافية التي شاركتُ فيها، فضلاً عن الفنانين والأساتذة الجامعيين الذين اشتغلت رفقتهم على مشاريع مختلفة، سواء في مالطا أو إسبانيا أو إيطاليا أو فرنسا أو كرواتيا أو حتى الولايات المتحدة، يدينون بشكل واضح جرائم الكيان الصهيوني، كما أنهم يبتكرون طرقاً مختلفة لمساندة الشعب الفلسطيني.
أستطيع أن أقول بثقة، إن التزام بعض الشعراء والكُتّاب الغربيين بإدانة الجرائم التي تُرتكب بحق الفلسطينيين، يفوق بمراحل التزام الكاتب العربي، الذي لا يكلّف نفسه أحياناً كتابة كلمة واحدة عن الانهيار الإنساني في أرض قريبة منه جغرافياً ووجدانياً.
من المهم أن ندرك بأن الغرب ليس كتلة فكرية وسياسية واحدة، وأن الأنظمة الديمقراطية رغم مساوئها وتناقضاتها أحياناً، إلا أنها تبقى فضاءات تتصارع داخلها أفكار ورؤى، من تيارات مختلفة، منها ما يتطرّف يميناً، لكن جزءاً مهمّاً منها ينحاز إلى القضايا العادلة.
بصفتك مهندسة كمبيوتر، هل تخافين من اتجاه الإنسانية نحو ما هو آلي بما يقضي على شغف الإنسان وربما على حرّيته؟
درّستُ مادة تكنولوجيا الترجمة التي تعنى بالوسائط التكنولوجية الحديثة المستخدمة في مجال الترجمة، بما فيها الذكاء الاصطناعي، وربوت المحادثة (شات جي بي تي)، وأول قاعدة كنت أدرّسها لطلابي، هي أن التكنولوجيا شريكة للإنسان، وليست عدواً له، وإذا تمكّنت الوسائط التكنولوجية من إنجاز المهام التي يقوم بها الإنسان اليوم، فهي بذلك تمنحه ترف ابتكار طرق جديدة للحياة.
أعتقد أن التكنولوجيا اليوم، هي الإيقاع الجديد الذي يصنع اللغة والحياة والشعر.