تتراسل الفنون، فتعبر الأغنية من الأذن إلى الرواية، ومن الرواية إلى الشاشة.. فكيف وظّف نجيب محفوظ (1911 - 2006)، الموسيقى والأغاني والأشعار في قصصه ورواياته؟
في الذكرى الثامنة عشرة لرحيل الكاتب العربي، الحائز على نوبل الأدب، ما زال الكُتّاب والمختصّون يبحثون عن الجوانب الخفية في إبداعه.
في كتابه "الغناء والطرب في أدب نجيب محفوظ" (بيت الحكمة)، يحلل الناقد والباحث علي قطب هذا الجانب. فربما لا يعلم الكثيرون، أن محفوظ كان عازفاً بارعاً على آلة "القانون"، وكان من عشّاق صوت أم كلثوم، ولذلك كرّمته كوكب الشرق بحضور عيد ميلاده الـ 60، فيما أطلق على ابنتيه اسمي "أم كلثوم" و"فاطمة".
" كان ثمّة غناء؟
أو كان بكاء على ما أذكر
وكان ثمّة حكاية.. تُرى أي حكاية؟"
بهذا الاستهلال الشعري من مجموعة "خمارة القط الأسود"، يدخل علي قطب عالم الغناء، كما تجسّد في نصوص محفوظ، بوصفه تعبيراً عن الهوية المصرية والعربية والشرقية عموماً.
شكوكو والشيخ زكريا
تحيل الأغنية في السرد إلى محاكاة الواقع، أو استدعاء لحظة تاريخية معينة. في "زقاق المدق" يكتب محفوظ "بدا مونولوجست معروفاً في لباسه البلدي"، في إشارة إلى استغلال فنان شعبي في الدعاية الانتخابية، وكان واضحاً أن الأوصاف تنطبق على الفنان الراحل محمود شكوكو وإن لم يسمّه، لذلك عندما أخرج حسن الإمام فيلم "زقاق المدق"، استعان بشكوكو الحقيقي كي يجسّد "شخصيته" التي كتبها محفوظ.
بعد سنوات طويلة يستعيد محفوظ مجدداً الفنان نفسه في "أحلام فترة النقاهة"، حيث تلقّى دعوة عشاء، رأى فيها شكوكو قادماً نحوه وفي يده "فخذة خروف محمّرة وسلمها له يداً بيد". كأن لا وعي الكاتب بقي لسنوات مشغولاً بأيقونية هذا الفنان الشعبي الشهير.
ليس شكوكو الفنان الوحيد الذي يستدعيه محفوظ ـ ضمناً أو صراحة ـ بل هناك أيضاً الشيخ زكريا أحمد، الذي يظهر بشخصيته الحقيقية في "المرايا"، وفي "أحلام فترة النقاهة".
أم كلثوم عبر الأجيال
ليس ثمّة مطربة تحضر في سيرة محفوظ وأدبه مثل أم كلثوم، وغالباً ما يرتبط حضورها بسؤال الهوية وصراع الأجيال.
في رواية "ميرامار" تلتقي مجموعة من الشخصيات في "بنسيون ميرامار"، ويشترك الجميع في الاستماع إلى ليلة أم كلثوم في الراديو، أي سهرة الخميس الأوّل من كل شهر، من دون أن يحدد محفوظ أغنية معيّنة لها في النص.
نلاحظ هنا أن شخصية "عامر وجدي" المرتبطة بالهوية، تنظر بإجلال إلى صوت كوكب الشرق، بينما شخصية "سرحان البحيري" بطبيعتها النفعية والحسية لم تكن تبالي بها.
وعندما تحوّلت الرواية إلى فيلم، كان لا بد لصُنّاعه أن يترجموا سماع أم كلثوم في أغنية معيّنة، فاختاروا "أنت عمري" التي قدّمتها الست عام 1964، لتكون علامة على تحوّلات عقد الستينيات من القرن الماضي، وعصر عبد الناصر.
مع العلم أن محفوظ نفسه، صرّح أن "أنت عمري" ليست أفضل أعمال أم كلثوم، ولا أفضل ألحان عبد الوهاب، مقارنة بأغنيات مثل "سلوا قلبي"، و"رباعيات الخيام".
صحيح أنها لا تروق لمحفوظ، لكنها جسّدت - عبر الفيلم - رؤيته الفكرية. وفي رواية "الباقي من الزمن ساعة" - وهي من أعماله المتأخّرة - ثمّة انزعاج من الجيل الجديد ممثلاً في "رشاد"، لأنه لا ينتمي لذوق أسرته المحافظ، ويفضل عبد الحليم، على عبد الوهاب وأم كلثوم.
"غناء الإفرنجي"
في "المرايا" تتحدث إحدى الشخصيات عن نفورها من "الغناء الإفرنجي"، وكأنها امتداد لشخصية محفوظ نفسه المولع بالغناء الشرقي، ما يعني أن الغناء يعبّر عن المكوّن النفسي للمجتمع وهويته.
يتكرّر الصراع الحضاري عبر شخصية الطبيب الذي تعلم في الغرب، في رواية "السراب"، ولا يجد في مصر ما يستحق الإعجاب إلا أم كلثوم.
تنتشر الإحالات إلى العلاقة المعقّدة بين الشرق والغرب، وارتباطها بالهوية، فمثلاً في "زقاق المدق" يطرد المعلم "كرشة" عازف الربابة الذي يروي السيرة الهلالية.
فيما تطرح "خان الخليلي" سؤال القديم والجديد، حيث نشأ بطلها "أحمد عاكف" على أغاني يوسف المنيلاوي، وعبد الحي، ومنيرة المهدية. واعتبر الإعجاب بالحديث وموسيقى الإفرنجية من "وحي تقليد المحكومين للحاكمين كما يقول ابن خلدون".
أجواء روحية
يوظّف محفوظ الشعر وغناء الدراويش، ليقيم علاقة روحية بين الذات والعالم، ويظهر ذلك في "رحلة ابن فطومة" و"حكايات حارتنا".
كما يصبح الإنشاد الصوفي في "قلب الليل" وشعر ابن الفارض، وسيلة لمقاومة الظلام، والارتقاء بالروح مقابل الأغاني الشعبية الخفيفة، التي تجذب البطل إلى تيار الحياة الدافق مثل "عصفوري يا أمه عصفوري".
في "الطريق" بحمولتها الرمزية، يحضر الإنشاد الصوفي على لسان متسوّل كفيف. ثم يعيد محفوظ استعمال رمزية المتسوّل في "الشحاذ" حيث تحوّل من حياة الفتونة وطيش الشباب إلى المديح النبوي.
لا يغيب الشعر عن نصوص محفوظ، وهو أصل الغناء، واستدعاء بعض النصوص التراثية مثل مقامات الهمذاني في "رأيت فيما يرى النائم"، حيث نسج حلماً على منوالها، متضمّناً بعض الأشعار.
بلاغة الصوت
يتقصّى علي قطب ولع محفوظ بالغناء والموسيقى والطرب والشعر، وإلمامه العميق بتلك الفنون ومصطلحاتها، وأهميتها في علاج الأرواح ومداواة النفوس.
ويستشهد بعشر مقاطع ومشاهد سردية منها علاقة "السيد أحمد عبد الجواد" في "الثلاثية"، بالطرب وضربه على الدف وراء "زبيدة".
وتمرّ بنا أسماء الآلات والمقامات ومشاهير الطرب منذ القرن التاسع عشر، إضافة إلى بلاغة الصوت والصور المستلهمة من عالم النغم مثل عبارات "وغابت الأنغام، كما تغيب طيارة بحبيب وراء الأفق"، أو "وابتسامتها كالآلة الموسيقية المصاحبة للمغني"، و"تداعت الأنغام الكامنة في نفسه".
أحياناً تصمت الموسيقى ليشدو الصوت البشري، وحدها كما يحدث في "الحرافيش": "ثم غنى ذو صوت حسن: "يا عود قرنفل في الجنينة منعنع".
وتلعب حلقة الذكر والإنشاد، وظيفة مهمة في "اللص والكلاب"، ويصل "سعيد مهران" متعباً إلى خلوة الشيخ علي الجنيدي، ويسمع المدّاحون يغنّون "واحسرتي! ضاع الزمن ولم أفز".
في "أصداء السيرة الذاتية" - وهي من نصوصه الأخيرة - ثمّة ثلاث لوحات سردية عن المطرب والطرب واللحن.
في "بداية ونهاية" يسخر السارد من "حسن" وأستاذه "صبري"، بسبب اتخاذهما الغناء مجالاً، برغم جهلهما بالمقامات الموسيقية.
ويختم علي قطب كتابه بمعجم يتضمن تعريفاً بمجموعة من الأغاني والأشعار، ومواضع ذكرها في نصوص محفوظ، فمثلاً "ارخي الستارة اللي في ريحنا" كلمات يونس القاضي، ولحن زكريا أحمد، وغناء منيرة المهدية، ذُكرت في "حديث الصباح والمساء" و"صباح الورد" و"قشتمر".
لا يمثّل الكتاب دليلاً استرشادياً لتحولات الغناء والموسيقى عبر قرن من الزمن فقط، وإنما يكشف للقرّاء عن المزاج الطربي لنجيب محفوظ، وولعه بالإنشاد الصوفي وأشعار ابن الفارض، وغزليات حافظ الشيرازي، وموسيقى الشيخ زكريا أحمد، وأم كلثوم والأدوار الغنائية القديمة، من دون أن يعني ذلك أنه يقف موقفاً عدوانياً من الجديد، أو من الأغاني الشعبية الخفيفة.